“الصورة” خير دليل على الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، فالتوثيق وإيقاف الزمن عند لحظة، بالضغط على زر “الكاميرا” بمثابة شاهد على التاريخ، فالصورة لا تكذب، ولا تزيف، لتصبح بمثابة دور وطني لمصوري وصحفي فلسطين، قبل أن تكون وظيفتهم، فما يشدهم فيها بالدرجة الأولى، هو الانتماء للإنسانية.
شهدت الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة على إصابة عدد كبير من الصحفيين والمصورين، فالاحتلال الإسرائيلي لا يفرق بين صحفي، ومواطن، وعسكري، فالجميع في دائرة الاستهداف.
إلى أن حاورت “التحرير” ثلاثة من مصوري الحرب في فلسطين، لتتعرف على قصصهم وتخوفاتهم وأحلامهم بوطن محرر.
“محمد البابا”.. فارس الصورة لا ييأس حتى لو خانه جواده
اتخذ من الكاميرا “رفيقة” له، وأداة توثيق يدافع بها عن حقوق وطنه المغتصبة، 15 عامًا قضاها “محمد البابا” المصور الصحفي بوكالة الأنباء الفرنسية بغزة، ممسكًا بكاميراه وعدساته في يديه، يقضي أغلب أيامه بين الاشتباكات والمواجهات، غير مبالي بالرصاص والغاز، فمن حروب غزة، وانتفاضات الأقصي، إلى الثورات العربية، وفي مقدمتها مصر وليبيا وتونس، قام محمد بتصوير، وتوثيق الكثير من الأحداث، مواجهًا المخاطر بالشغف الذي يحمله داخله تجاه عمله، الذي اختاره رغم صعوبته، وحصل محمد على العديد من الجوائز الدولية أهمها world press photo عن تغطية الحرب في غزة عام 2009.
صور مختلفة من “انتفاضة فلسطين” الحالية، تمتلئ بها كاميرا “محمد” هذه الأيام، بعد نزوله إلى ساحة المواجهات بين المتظاهرين الفلسطينين وقوات الاحتلال، ليوثق بها قوة شعبه وقدرته على مواجهة رصاصات العدو الصهيوني، متخذًا من الكمامة والخوذة درعًا واقيًا له، مسجلًا المواقف المختلفة التي يتعرض لها المتظاهرين، فيتذكرهم وهم ينقلون المصابين، ثم يعودون لقذف جيش الاحتلال بالحجارة، “لن أنسى مشهد وداع الأب يحيى حسان لأبنته رهف ذات العامين” هكذا يقول محمد عن المشاهد المحفورة في ذاكرته وكاميراه، مهما تعاقب عليها.
“لا توجد صورة تساوي حياتك، فحافظ عليها” مبدأ “محمد” خلال عمله، فيقول عن كيفية تفاديهم إطلاق النار، والمحافظة على سلامتهم الشخصية، “نحاول خلال التغطية أن نكون في اتجاه مخالف لطرفي الصراع كالانتفاضة مثلًا حاليًا، ونحاول ألا نكون في اتجاه المتظاهرين ولا في اتجاه الجنود الإسرائيليين”.
لم يتعرض “محمد” لإصابات مباشرة بإطلاق النار، فكلها إصابات خفيفة بفعل الغاز المسيل للدموع، والمطاط، لكن الإصابة الحقيقة كما يرويها محمد هي “النفسية” فيقول ” تغطية الأحداث الدموية يوميًا يخلق أزمة في دواخلك مع كثرة الدماء والجرحى والشهداء”، فيحكي أنه دائمًا يضع نفسه في مكانهم، “الأصعب عندما تتفاجأ بأصدقاء وأقارب شهداء وكثيرًا ما تتوقف عن الضغط على الكاميرا، وتستسلم لدموعك، رغم أنك تقوم بواجب تاريخي ووطني وإنساني وهو التوثيق”، متذكرًا بأسى وفاة زملائه أمام عينه أكثر من مرة، آخرها استشهاد زميله (فضل شناعة) مصور وكالة رويتزز الدولية، مما أصابه بإنهيار تام.
“فارس الصورة لا ييأس حتى لو خانه جواده” هكذا يقول محمد عن نيته بعدم ترك مهنته، مهما واجه من صعوبات ومخاطر في طريقه، لأنه أمن بها قبل كل شئ.
“فادي العاروري” .. الإصابة والمكوث عام في المستشفى لم يثنيه عن إمساك كاميراه
الكاميرا بالنسبة إليه، لسيت مجرد أداة لأداء وظيفته، بل جزء من واجبه الوطني، كفلسطيني قبل أن يكون مصور صحفي، إنه فادي العاروري ذو الـ32 عامًا، والذي يعمل لوكالة الأنباء الصينية -شنخوا، بعد عمله فث وكالات عديدة أهمها رويترز.
توثيق معاناة شعبه، وفضح ممارسات الصهاينة من خلال الكاميرا، هو هدفه الأساسي، فيقول “كتير بنخرج لتغطيات ما بنستخدم فيها الصور للوكالات إللي بنعمل إليها، لكن بنستخدمها على وسائل التواصل، كوسيلة للتوثيق”.
رغم إصابته بعيارين رصاص حي أثناء تغطيته لاجتياح مدينة رام الله عام 2007، ومكوثه في المستشفى للعلاج سنة كاملة، بسبب المضاعفات جراء استئصال إحدى الكليتين وعملية أخرى أجراها في الكبد، إلا أن فادي لم يفكر يومًا في التخلي عن عمله، بل على العكس زاده إصرار في استكمال مشواره، فيقول “يومها كان أكبر اجتياح في الضفة بعد وقف انتفاضة الأقصى، استشهد 5 أشخاص، وأصيب الكثيرين”.
“أم تواسي طفلها خلال تشييع جثمان زوجها بعد قتله من قبل الجيش الإسرائيلي في رام الله” مشهد لن ينساه فادي أبدًا، فيصفه بأنه أكثر المشاهد التي وثقها، وأثرت به، “المشهد بالنسبة لي كان جدًا صعب ومؤثر”.
“إصابة أكثر من 20 صحفي خلال شهر أكتوبر أثناء تعظية الانتفاضة الشعبية أكبر دليل على عدم تأميننا بشكل جيد” يقولها فادي مضيفا أن تأمينهم في المواجهات أمر صعب، في ظل استهدافهم بشكل مباشر ودائم بالرصاص والغاز ومحاولة اعتقالهم، “احنا بنشعر أنه في حالات انتقامية بقنص الصحفيين وتعمد إصابتهم. “
أحاول دائمًا التركيز على الصور التي تعكس الظلم الذي يتعرض له أهل فلسطين” هكذا يقول فادي عن أكثر ما يثير اهتمامه عند تصوير الانتفاضات والمظاهرات، محاولاً توثيق اللحظات التي تلاقي صدى وتضامن دولي، “هدفنا التقاط تلك اللحظات الصعبة، بتفاصيلها والتركيز عليها، خاصة حشود وداع شهدائنا”.
“القدس، حيفا، عكا، يافا” مدن حرم فادى من زيارتها، فلم يتبقى له غير أحلامه بالتجول داخل أزقتها، لعمل قصص مصورة توثق نواحي مختلفة من حياة الشعب الفلسطيني، وتراثه، بعيدًا عن الاحتلال الصهيونى ودماره.
“محمد عوض”.. الكاميرا وسيلته لنقل رسالة شعبه وقوة صموده
“قطاع غزة” المنطقة التي ودعت شهدائها واحدًا تلو الآخر، وشهدت على حروب وانتفاضات وهتافات، نقلها المراسل الصحفي “محمد عوض” من خلال كتاباته وصوره، حيث يعمل لعدد من المؤسسات الصحفية، موثقًا الكثير من الاعتداءات الإسرائيلية، بحق المواطنين الفلسطينين الآمنين داخل منازلهم.
مواقف عديدة يتذكرها محمد بأسى خلال مسيرته المهنية، لن ينسى أبرزها، صورة تلك السيدة الفلسطينية بمنطقة حي الشجاعية، لن تمحى من ذاكراته، حين خرجت من تحت أنقاض منزلها، حاملة مصحف تغطيه دمائها، بعد قصف منزلها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، “صوتها وهي تنادى على أطفالها الذين أصبحوا في عداد الشهداء يظل يتردد صداه حتى الآن “يقولها محمد متأثرًا، خاصة بعد استشهاد تلك السيدة”.
“الكاميرا وسيلة نقل لرسالة شعب انتصر على الظلم، بقوة صموده وانتزاعه لحريته من قبل الاحتلال الظالم” هكذا يقول محمد عن مكانة الكاميرا لديه، مضيفًا أن وظيفته كمراسل هو نقل الصورة الحقيقة وتوثيقها.
كل من يعمل في مجال الصحافة الميدانية لابد أن يكون له نصيب من الأذى الجسدي والمعنوي، وهو ما حدث مع محمد، في حرب العدوان الأخير على قطاع غزة، بعد إصابته بكسور بالغة باليد، أما أكثر ما يؤثر به هو صور الشهداء التي لا تفارق خياله.
في المواجهات لا أمان، لا ضمان، كل الخيارات مفتوحة، إما العودة بسلام أو الإصابة، أو الاستشهاد ” رغم أن ذلك ما يؤمن به محمد، إلا أنه لا يبالي بأي خطورة قد تقع عليه، في ظل استهداف المؤسسات الصحفية، والسيارات التي تحمل إشارة الصحافة، من قبل العدو الصهيوني.
فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي وتعريته أمام المجتمع المدني والدولي، هدف مشترك لأغلب مراسلي فلسطين، ومنهم محمد، حيث يعد ذلك هو هدفه الأساسي من التوثيق، فعمله بالنسبة إليه واجب وطني مقدس.
تصوير “القدس” عروس المدائن، في كل لحظاتها، هو ما يحلم به محمد، فرغم زيارته لها أكثر من مرة، إلا أن قلبه مازال معلق بها.