في أحد مشاغل التصوير الشهيرة في الإسكندرية، تستعرض العين رفوفاً تكدست بأغراض التصوير وأدواته المهملة: ألبومات صور، أفلام كاميرات 35 مم، نيغاتيف، لايت بوكس، كيماويات تحميض أهال عليها الزمن غباره وأزاحتها الثورة التكنولوجية بتسارع وتيرتها جانباً، حتى غدت معامل التصوير الضوئي التقليدية ملمحاً تراثياً أغلق التاريخ بذاكرته البصرية أبوابها.
لم يكن يتوقع أي من فنيي التحميض أن يدور الزمن دورته بهذه السرعة والقسوة لتتغير حياتهم جذرياً، فتترقمن وتتحول ملايين مستقبِلات الضوء المجهرية Image sensors التي يقوم كل منها بالتقاط بيكسل واحد فقط من عدد وحدات البيكسل التي تمثل عدداً لانهائياً من الصور العالية الدقة. كما لم تعد المختبرات القديمة مجدية لأصحابها في ظل النقلة النوعية في التقنيات الحديثة التي حولت الكاميرا الى مختبر واستديو عالي الدقة ألغى أحماض النيتروجين والسلفات والهيدروجين التي كانت تستخدم في التحميض، والتي ظلت سنوات طويلة موضع انتقاد المهتمين بالبيئة المنددين بما تحدثه فيها من تلوث.
لم يغيّب عصر الرقمنة مختبرات التحميض واستديوات التصوير فحسب، بل قلص أعداد المصورين الفوتوغرافيين الى حد كبير، بسبب كاميرات الهواتف النقالة التي حولت كل امرئ من متلقٍ الى ناقل للحدث وموثق له، وفق الزاوية التي يراها تناسب أفكاره واقتناعاته التي يمكن أن يوظفها لتغيير ماهية الحدث.
وقد يضفي عليه بعض التعديلات أو التأثيرات غير المحسوبة فتتغير حقيقة الصورة ومحتواها الفني بعيداً من أعين الأكاديميين ومن ميثاق الشرف الجامع لكل العاملين في المجال.
وعن الفرق الناشئ عن تطور التصوير الفوتوغرافي إلى الرقمي، يؤكد سامح سراج (ناشط سياسي ويعمل في هندسة النفط)، أن رقمنة الفوتوغرافيا أظهرت كثيراً من التجارب الإبداعية الفريدة، خصوصاً عقب ثورات الربيع العربي التي أطلقت إبداع مواطنين عاديين من مكامنه، فأعادوا صياغة الواقع وترتيبه وفق معتقدات كل منهم وآرائه، وباستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، فظهر من يُعرف بالمواطن التفاعلي.
ويضيف: «لا يمكن إنكار أن لقطات الفوتوغرافيا الشعبية غير الأكاديمية أظهرت مقدرة المواطن الفائقة في التحكم بمكونات المشهد عبر الجوانب الميكانيكية والتقنية في الصورة والتي أظهرت الاستغلال الجيد للتقنيات التكنولوجية التي تتيحها الهواتف النقالة والكاميرات الرقمية العالية الدقة».
ويوضح: «لم تعد المؤسسات الصحافية والإعلامية بحاجة الى مراسلين ولا مصورين صحافيين، فالمواطن التفاعلي شغل هذه المهنة مجاناً من دون أن تتكبد المؤسسات الصحافية والإعلامية أي أعباء اقتصادية».
ويسرد سراج مميزات التصوير الرقمي، فهو أقل كلفة، إذ يوفر الأفلام الضوئية وتكاليف تحميضها، ويوفر كثيراً من الوقت، بخلاف الكاميرات الضوئية التي تضطر للانتظار حتى تنتهي من تصوير الفيلم كاملاً ومن ثم تحميضه وطباعته لتستطيع استعراض الصور. كما أن الصورة الرقمية تتيح استخدام برامج تحرير لإجراء تعديلات عليها.
وعلى صعيد آخر، يرى أنس نبيل (فني معمل تحميض سابق)، أن رقمنة الصور أفقدت الصورة إبداعها ونكهتها واختفى المصور الموهوب بعينه اللمّاحة ومقدرته الفائقة على اقتناص لحظة إبداعية في ظل ما توفره التكنولوجيا من إمكانات تقنية. ويقول: «لست ضد الحداثة، لكن لا يصح أن يترك الباب مفتوحاً لكل من هب ودب، فالصورة الفوتوغرافية دخلت في عمق حياة الشعوب، ومن ثم لا بد أن يكون هناك مسؤولية وآلية حساب وقوانين حاكمة».
وعن مختبر التحميض، يقول:»اضطررنا لتغيير النشاط منذ خمس سنوات، ففي الأمس القريب كان العائد مربحاً بين حاجة الأشخاص لأفلام التصوير وتحميضها، مروراً ببيع الأدوات الخاصة بالكاميرا، إلى الاستشارة والشرح والمساعدة لطريقة عمل الكاميرا، بينما الآن الكاميرا الرقمية أصبحت استديو متكاملاً».