مع عبدالله الشيخ
في محترفه بالظهران
عبدالله الشيخ واحد من ألمع الأسماء وأعرقها على الساحة التشكيلية في المملكة، إذ حضرت أعماله في أكثر من ستين معرضاً على مدى أكثر من ثلث قرن، تنوعت فيها هذه الأعمال، وتبدلت بتبدل حال العالم من حوله. وإلى محترفه في الظهران كانت لنا هذه الزيارة.
في الثمانين من عمره، لكنه كان بكامل حماسته وكياسته حين استقبلنا في محترفه في الظهران.
بدا الفنان التشكيلي السعودي عبدالله الشيخ كما لو أنه في مقتبل رحلته الفنية يستقبل فريقاً صحافياً. بدا شاباً في استقبالنا رغم أن التجربة التي عاشها منذ معرضه الفردي الأول في العام 1982م قلّما مرّ بها فنان تشكيلي من الخليج العربي، سواء في تنوّعها الفني من حيث المضمون الذي تأثّر بحوادث كثيرة مرّت في حياته العريضة، أو في الشكل وطريقة الرسم والمواد التشكيلية المستخدمة في اللوحات التي بدورها تأثرت بالحوادث نفسها، وهي كلها -لو وضعنا ذكريات الطفولة جانباً- تدور حول عذابات الإنسانية المختلفة التي اختارها عبدالله الشيخ موضوعات للوحاته، وركّز عليها، وكأنه أراد، ليس التعبير فقط عن هذه المآسي والآلام والحروب، وآخرها «تشيء» الإنسان وتحوّله إلى آلة في «العصر الرقمي»، بل أراد أيضاً فتح آفاق عبر نظرته المغايرة لمسيرة البشرية بواسطة هذه اللوحات.
من الحديقة إلى الإضاءة
بعد الحديقة الغنّاء باخضرارها نتيجة اعتنائه الدؤوب بشجيراتها وأعشابها، انتقلنا إلى المحترَف الذي يقع في مبنى مستقل إلى يسار الحديقة، فيما المنزل العائلي إلى يمينها، يفصل بينهما ممرّ يجعلك تشعر بأنك في معرض «تنسيق» حدائق في بلدة استوائية.
في المحترَف صالة ومكتبة كبيرة لاستقبال الضيوف والزوار في الطابق العلوي. ثم المشغل في الطابق السفلي حيث معدات الرسم، من الألوان إلى فراشي التلوين والمنشار الكهربائي الذي يقطع به الخشب ليصنع أطر لوحاته، وهناك معدات قلما تجدها في محترف رسّام مثل آلات صغيرة لليّ الحديد وإعادة تشكيله. وفي الزاوية لفافات من الأقمشة يصنع منها اللوحة، وكراسي بارتفاعات مختلفة يستخدمها أثناء الرسم للتخفيف من عبء الوقوف الطويل. ثم هناك جهاز «الستريو» الموصول بمكبرات للصوت موزّعة في الأنحاء، تبث الموسيقى الكلاسيكية التي لا يعمل عبدالله الشيخ من دونها، «الموسيقى الكلاسيكية رديف للألوان أثناء عملي».
ويكلّل الديكور الداخلي هذا توزيع الإضاءة في السقف وعلى الجدران، بين المصابيح الكهربائية الصغيرة الموجهة أنوارها إلى اللوحات المعلقة على الجدران، والمصابيح الكبيرة التي تضيء المكان كلّه، مع قدرة على التحكّم بكمية الضوء التي يحتاجها، سواء في لحظات اشتغاله على اللوحة أو حالات تأمله لما صنعته يداه، أو حالات استقباله لزوار يرغبون برؤية هذه اللوحات، ولكل حالة من هذه الحالات، إضاءتها الخاصة.
على الدرج الواصل بين صالون الاستقبال في الأعلى، والمشغل في الأسفل رصف عبدالله الشيخ شهادات التقدير التي حصل عليها والميداليات الكثيرة، وجلّها تُخبر عن حصوله على المرتبة الأولى، سواء في مشاركاته في معارض أو تقديراً لجهود فنية قام بها. وهي لكثرتها تملأ الجدار كلّه، وتنبِئ في الوقت نفسه عن القيمة الكبيرة لما قدّمه هذا الفنان التشكيلي الرائد للرسم في المملكة وسائر الخليج العربي والعالم العربي أيضاً.
بين الفكرة والانتماء إلى مدرسة
بعد جولة داخل المرسم النظيف والمرتّب كما لو أنه صالة عرض لا مشغل، أعادنا عبدالله الشيخ إلى الصالون ليبادلنا الحديث حول تجربته المديدة وأفكاره ومشاريعه الكثيرة القادمة التي تبديه أكثر شباباً من شباب كثر.
بدأنا دردشتنا معه بسؤاله عن المدارس الفنية التي تأثر بها، فأجاب بأنه تأثر بعدد من المدارس التشكيلية خلال رحلته، لكنه لا يهتم بتصنيف نفسه في مدرسة ما. «ما يهمني هو أن تصل فكرة لوحتي إلى المشاهد بالطريقة التي يراها مناسبة. ولا أرسم لوحتي وفق خطة معينة، بل تمرّ اللوحة بمراحل مختلفة أحياناً لا تكون متوقعة مني. فأثناء الرسم تنسى نفسك ويتلاشى المحيط، ويصير عالمك هو قماشة اللوحة وألوانها، ورويداً رويداً يأخذك هذا العالم إلى أماكن ومساحات مختلفة قد لا تكون منتبهاً لها، رغم أنك في النهاية حامل الريشة وصانع الألوان. ولكن الفكرة تمدد نفسها بنفسها، وتتشكل بقوتها الخاصة».
ويضيف: «أتصوّر أن كل خطوة أثناء رسم اللوحة هي تجربة جديدة بحد ذاتها، وهذه التجربة قد تتحوّل إلى مشكلة، أو لنقل أحجية أثناء الرسم. فيبدأ الرسّام بالعمل على حل المشكلة أو حلّ الأحجية. وحين يصل إلى وضع الحلّ، فإنه يشعر بلذة كبيرة، هي اللذة التي يجدها كل فنان حين يقتنع بأن عمله الذي يقوم به قد أشرف على الانتهاء، وهذا ينطبق على كل أنواع الفنون والفنانين».
هل ترسم لوحة تطلب منك؟ سألناه. فأجاب: «مررت بمثل هذه المواقف. لكن هذا النوع من الطلبات يؤثر فيَّ سلباً وأحياناً يحرجني لأني أضطر لتلبية الطلب. وأشعر كما لو أني في سجن، إذا كان موضوع اللوحة ومساحتها وألوانها محددة، لأنها مشغولة لتُعرض في مكان محدد أو لشخص معيّن. ولكنني أخفف من وطأة هذه الطلبات بأن أرفض تحديد الموضوع، أو بأن أتلاعب في كيفية رسم هذا الموضوع. وفي أحيان كثيرة أعتذر عن تلبية الطلب، حيث يمكن الاعتذار».
يمكن لكل ناقد فني أن يستشعر بأن الأجواء العراقية مؤثرة في لوحات عبدالله الشيخ، منذ البداية حتى النهاية. يوافق رأينا هذا ويضيف أن الفضاءات الأولى للفنان يحملها معه أينما حل. أهم مرحلة هي مرحلة ما بعد الدراسة حيث تختزن في نفس الفنان صور لا تُمحى، وتصير جزءاً من تكوينه الفني. «ولكن ما يساعدني في حالتي الشخصية أن ما اختزنته من صور بلدتي العراقية الزبير في البصرة من الأزقة الضيقة والرواشين والأحياء القديمة، عدت ورأيته في الأحساء السعودية، في البيوت الطينية والأزقة الترابية والمرقد الموجود داخل البيت من دون شبابيك، والأسوار العالية. فالمشترك بين المشاهد التي اختزنتها في يفاعتي العراقية مع مشاهد منطقة الأحساء التي عدت إليها، كثير جداً».
كيف تصف علاقتك بأخيك عبد الجبار؟، «كنت أحاول تقليده وهو يرسم بقلم الرصاص. كان الحصول على الألوان شبه مستحيل حيث نعيش، فهي نادرة وغالية الثمن. فكنا نرسم بأقلام الرصاص أو الفحم على الحيطان أو على أي مسطح صالح للرسم. وبعدها بدأت أزور المكتبات وأنظر في المكتب إلى التخطيطات وأقلدها وأحاول نسخها. فيما بعد انتقلت إلى معاهد بغداد والتقيت الأستاذ طارق حسن وكبار مؤسسي المعهد، وهناك بدأنا تعلّم الرسم وفق أصوله العلمية، وكنت وأقراني في الدفعة الأولى من الطلاب، وكانت تلك سنوات ذهبية لتعليم فنون الرسم».
كانت الدراسة في بغداد فترة التأسيس، ثم سافر عبدالله إلى لندن في بداية الستينيات لإكمال الدراسة. و«هناك أصبت بصدمة ثقافية وحضارية، فقد خرجت من عالم محدود ومحافظ وفي بداياته الفنية، إلى عالم منفتح والفنون فيه بمنزلة حجر أساس. وهو منفتح على ثقافات مختلفة وفيه كثير من المتاحف والمعارض التي تعطي الناظر فكرة عن كل أنواع الفنون حتى المتناقضة منها. كانت تجربة لندن إيجابية بالمعنى الفكري. في البداية كنت أشعر بالندم لأنني كنت في صراع داخلي رهيب حتى المرض، حول قرار البقاء في لندن أو تركها للعودة إلى السعودية. هناك سيلازمك الشعور بأنك غريب عن المجتمع الإنجليزي، ثم إنك كفنان ستجد صعوبة كبيرة في الحضور أو إثبات الذات، إذ يوجد آلاف الفنانين مثلك وبموهبتك وأكثر يحاولون إثبات أنفسهم وإيجاد مكان ينطلقون منه. ثم هناك الشوق للمكان الأول، وللبيئة الحاضنة وللأهل، والشوق لتقديم شيء لمجتمعك، فكان قرار العودة».
سيرة ذاتية مختصرة وبتصرّف
ولد الفنان عبدالله عبدالكريم الشيخ في مدينة الزبير في العراق 1936م لأب سعودي كان قد انتقل من الأحساء إلى العراق لدواعي الرزق. أمضى شبابه هناك حيث تلقَّى تعليمه الابتدائي. ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، وحصل على شهادة الدبلوم في عام 1959م، ودرس على يد فنَّانَين عراقيين مثَّلا جيل الروَّاد في العراق، هما جواد سليم وفائق حسن. وقد ترك الاثنان أثراً كبيراً في تجربته الفنية. وأكمل عبدالله الشيخ تعليمه الجامعي في الفنون التشكيلية في إنجلترا وتخرّج في العام 1965م، وحصل على دبلوم في التصميم والطباعة لمدة عامين.
يُعد الفنان عبدالله الشيخ من أبرز فناني المملكة والخليج العربي، كما يُعد من أوائل الجيل الثاني من فناني المملكة مع أخيه الشقيق عبدالجبار اليحيى وغيرهما. أقام أول معرض له في 1982م وشارك في أكثر من ستين معرضاً جماعياً.
بعد تتلمذه على أيدي الفنانين العراقيين ثم العالميين في إنجلترا، ارتقى عبدالله الشيخ بتجربته الخاصة التي سيُعرف بها وتُعرف به. ففي بداياته كان جلّ إنتاجه الفني في الرسم والتصوير يتمحور حول لوحات ثنائية الأبعاد تمثل ذكرياته وعواطفه الشخصية. وفي المرحلة الثانية دخل النحت في لوحاته فزاوج بين الرسم التقليدي ذي البعدين والسطح المنحوت ثلاثي الأبعاد. وغلب الأكليريك على لوحاته، مشركاً فيها بعض الخامات كالأسلاك والحلقات المعدنية.
ولو قسَّمنا الحياة التشكيلية لعبدالله الشيخ إلى مراحل، لأمكننا جعلها أربعاً على ما يُحب. ويمكن القول إن المرحلة الأولى تميّزت بالولاء للطابع الشرقي، فاستلهم أفكاره من الحياة العربية والشعر العربي والحكايات الشعبية والعمارة الإسلامية ورسم البيئة البدوية والأزقة القديمة. أما المرحلة الثانية، فدارت حول المواضيع نفسها ولكنها تميّزت بالتجريد والميل إلى تبسيط الأشكال مع المحافظة على رموز المجتمعين العراقي والأحسائي المتقاربين بيئة واجتماعاً. لكن بعد حرب الخليج الثانية في العام 1993م، فاضت لوحاته بملامح «سطوة الآلة القاسية والتروس الحادة والخوذات الحربية والمسدسات فاغرة الأفواه والركام المعدني الممزق» على ما كتبت الناقدة ثريا العريض، في إحدى مقالاتها من العام 1997م.
في المرحلة الحالية، يمزج الشيخ بين مراحله السابقة، ليصنع لغة فنية جديدة خاصة به، توصّف العالم التقني الجديد الذي يلفّ الأرض. فحلّت الآلة محل الجسد في إشارة إلى سطوة الآلة على حياة الإنسان.
مشاركاته ومعارضه
مثلت أعمال الفنان عبدالله الشيخ المملكة في عدد من المعارض والبينالي العربية والدولية، وشارك في بينالي القاهرة وبينالي بنغلاديش وبينالي الشارقة ومهرجان المحبة السوري ومعرض الفن العربي الإسلامي في أنقره والمعرض الدوري لفناني دول مجلس التعاون الخليجي في معظم دوراته، بالإضافة إلى معارضه الفردية والجماعية. وتُعرض بعض لوحاته في مطار الملك خالد الدولي بالرياض، ومطار الملك فهد بالدمام، وفي وزارة الداخلية وأرامكو السعودية وأمانة مجلس التعاون الخليجي، وأماكن أخرى مختلفة، حيث يحتفى بها كمعرض دائم أمام المارة والعامة. كما اشترك في عضوية عدد كبير من لجان التحكيم وترأس كثيراً منها نظراً لما عُرف عنه من قدراته النقدية ونظرته الخاصة لتطور الفنون التشكيلية الخليجية.