رونالد كودري صديق الامارات والعرب
بقلم: محمد المر
توفي في الرابع عشر من هذا الشهر المصور والدبلوماسي الانجليزي رونالد كودري عن عمر يناهز السادسة والسبعين في احدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن بعد صراع طويل مع مرض عضال. لقد التقيت مع المصور رونالد كودري في ابريل 1993 عندما قدم الى دبي لاستلام جائزة سلطان العويس للدراسات والابتكار العلمي عن أفضل كتاب ألفه أجنبي عن دولة الإمارات العربية المتحدة, ووجدته يتكلم عن ذكرياته في دبي وباقي امارات الدولة التي عاش فيها كمندوب لاحدى شركات النفط في الفترة من عام 1948 الى عام 1955 بطريقة فيها الكثير من الحنين إلى الماضي لانها مرحلة شبابه المبكر وكان يسأل عن ابناء حي الشندغة الذين عاش في وسطهم بأسمائهم الشخصية التي كان يتذكرها على الرغم من مرور عدة عقود زمنية على فترة إقامته بين ظهرانيهم. والتقيته بعد ذلك أربع مرات في الامارات ولندن وعلى الرغم من تقدمه في السن الا ان حديثه كان يفيض بالحماسة والمودة لابناء الامارات ولباقي العرب الذين التقى بهم في مختلف محطات حياته الوظيفية والاجتماعية. تاريخ شخصي ولد رونالد كودري في نهاية الربع الأول من القرن العشرين, التحق في بداية العشرينيات من عمره بسلاح الجو الملكي البريطاني الذي أخذه إلى القاهرة حيث كانت تلك بداية احتكاكه مع العرب والثقافة العربية ونشأ من ذلك الاحتكاك إعجاب تحول إلى حب حياتي وانساني كبير للإنسان العربي والحضارة العربية. وقد تمت اول زيارة له لمنطقة الخليج في مارس 1948 عند قرب نهاية خدمته في سلاح الجو الملكي البريطاني وذلك عندما التحق كطالب في مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية وقام برحلات قصيرة بالجمال في مختلف مناطق الامارات التي كانت تعرف آنذاك بمشيخات الساحل المتصالح, وقد سافر من دبي إلى مسقط بالشاحنة وعلى الجمل والحمار مستغرقا اثنى عشر يوماً. تأثر بشخصية الدبلوماسي البريطاني ريتشارد بيرد الذي كان يفاوض في منطقة البريمي للحصول على امتيازات للتنقيب عن النفط. وبعد وقت قصير انضم كودري إلى شركة امتيازات النفط المحدودة وهي جزء من شركة نفط العراق المعروفة, وتملكها خمس من كبريات شركات النفط العالمية وكالوست جولبنكيان الذي عرف بلقب: (السيد خمسة في المئة) وكان لتلك الشركة الكبرى وتوابعها امتيازات للتنقيب عن النفط في معظم أنحاء المشرق العربي بما في ذلك دولة الامارات العربية المتحدة. وكان عمل كودري يتركز على عمليات الاتصال والتفاوض مع الحكام وزعماء القبائل وضرورة الحصول على المزيد من حقوق الاستكشاف واستجلاء الأمور فيما يتعلق بالحدود. وجعل دبي مقراً له وسافر على امتداد رقعة مشيخات الساحل وأجزاء من سلطنة عمان واستخدم لهذه الأغراض مجتمعة اسطولاً من الشاحنات الصغيرة وحوالي ثلاثين من العمال والمساعدين المحليين حيث كان يضطر احياناً للتوغل في الصحراء او المناطق الجبلية والمبيت هنالك لعدة ايام. صاحبه في تلك الفترة عدة شخصيات بريطانية منها ريتشارد بيرد وجاكوجاكسون وادوارد هندرسون واختصاصيون من شركة النفط كما قابل الرحالة الشهير ويلفريد ثاسيغر في بعض رحلاته الاستكشافية المعروفة. وقد صاحبه في فترة إقامته تلك زوجته باميلا التي أصيبت أثناء شهر العسل بمرض خطير بقيت بسببه لمدة ستة أشهر في المستشفى للعلاج في بريطانيا ولم تشفى تماماً من ذلك المرض الذي اقعدها عن الحركة تماماً في السنوات الأخيرة. وقد كان كودري محبا لزوجته وشديد الاهتمام باعاقتها والمراعاة لصحتها وقد التقى أثناء سنوات عمله في شركة النفط في دبي وباقي مناطق الامارات بالحكام وشيوخ القبائل والتجار والبحارة وصيادي اللؤلؤ والبدو وغيرهم من فئات المجتمع المحلي. وبعد ثمان سنوات قضاها في الامارات وعمان وقطر والبحرين التحق بمهام ادارية ودبلوماسية عديدة في مختلف الدول العربية المشرقية مثل سوريا والعراق ولبنان وزار بقية أنحاء العالم العربي في مدة ربع قرن كامل, وقد قابل خلال تلك المدة خمسة وعشرين من رؤساء وحكام العالم العربي وعدد لا يحصى من المواطنين العرب في مختلف مناحي الحياة. تقاعد بعد وصوله الى سن المعاش وعاش في شقته في شارع برنسيس غيت في مدينة لندن بالقرب من مقر سفارة الامارات العربية المتحدة ليهتم بزوجته باميلا وبحالتها الصحية. كودري المصور ان مساهمة كودري الاساسية لم تكن كموظف لشركة النفط فهنالك العشرات من موظفي شركات النفط الذين عملوا في منطقة الخليج والجزيرة العربية, كما ان مساهمته لم تكن كدبلوماسي مميز فقد شهدت المنطقة العديد من الدبلوماسيين البريطانيين المميزيين, ولكن اضافته الهامة والرئيسية تمثلت في تميزه في فن التصوير الفوتوغرافي وفي ألبومه الفوتوغرافي الشهير الذي قدم فيه مسحاً وتسجيلاً للعديد من الشخصيات القيادية في منطقة الخليج والجزيرة العربية وخصوصا في دولة الامارات العربية المتحدة, وامتد هذا المسح والتسجيل الفوتوغرافي ليشمل المعالم الطبيعية والجغرافية والمعمارية كما انه شمل الناس بعاداتهم وتقاليدهم وتجارتهم وتعليمهم ومختلف أوجه حياتهم. يقول كودري: (كان مشهد الكاميرا في حوالي منتصف القرن العشرين شيئاً نادراً في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية وعندما قمت بتصوير الكثيرين كانت تلك هي المرة الأولى التي يرون فيها كاميرا) . ويشير كودري الى انه على الرغم من العزلة التي كان يعيشها ابناء المنطقة عن منتجات التكنولوجيا الحديثة الا انهم كانوا على قدر كبير من التسامح حيال التصوير الفوتوغرافي الذي كان غريبا بالنسبة لهم ويرجع ذلك الى التزامه بقدر مقبول من قواعد السلوك لدى قيامه بالتصوير فكان يسعى للحصول على اذن بالتصوير قبل القيام به ويحاول اجتذاب اهتمام من يصورهم الى ما يقوم به بجعلهم ينظرون من خلال منظار تحديد المشهد وكانت تجربة جديدة ومسلية لغالبيتهم. وقد كان يهتم باطلاعهم على صورهم بعد طباعتها ولكن اهتمامهم كان منصباً على الحصول على احدى العلب الخاصة بحفظ الأفلام ذات الغطاء العلوي المحكم لكي يحفظوا فيها التبغ الناعم اللازم لمداويخهم الصغيرة!!. أول كاميرا استخدمها كودري كانت كاميرا كيروفليكس وهي نسخة امريكية أرخص إلى حد كبير من كاميرا روليفلكس اشتراها من مصر عام 1946, وبعدها اقتنى كاميرا من طراز ثورنتون بيكارد ومزودة بعدسة من طراز كوك ثم ابتاع كاميرا من طراز روليفلكس من البحرين. وقد صور في البداية بافلام اكتاكروم قياس 120 الملونة وطلبت منه مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) صورا فوتوغرافية لمناظر من الامارات وذلك لتحقيق كانت تعده لها ونشر فيما بعد بصور كودري. ونصحته المجلة باستخدام أفلام كوداكروم وباقتناء كاميرا لايكا حصل كودري على افلام كوداكروم والتي استخدمها لمعظم انجازاته الفوتوغرافية الفنية اما كاميرا لايكا فلم يحصل عليها في البحرين واشترى بدلا منها كاميرا من طراز إكزاكتا استعملها مع كاميرا الروليفليكس في مشواره التصويري الطويل. وكان كودري يقوم بتحميض أفلام الأبيض والأسود بمفرده وقد جابه صعوبات عدة في دبي في تلك الايام بسبب الظروف المناخية وندرة المواد الفنية. ألبومات كودري ظهرت صور كودري عن الإمارات أول مرة في مجلة (الناشيونال جيوغرافيك) في الخمسينيات من القرن العشرين. وبقيت مطمورة في ارشيفه لا تظهر الا نماذج قليلة ومحدودة منها في بعض الكتب والمقالات التاريخية عن منطقة الامارات والخليج العربي خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين وفي عام 1990 أصدرت دار (ستاسي) للنشر كتابا بعنوان (المشيخات السبع, الحياة في امارات الساحل المتصالح قبل اتحاد الامارات العربية المتحدة) ويضم الكتاب مختارات من صور رونالد كودري عن دولة الامارات العربية المتحدة قبل الاستقلال وينقسم الى 17 فصلا ويحتوي على صور للمعالم المعمارية والشخصيات الهامة والسفن واللؤلؤ وصيد السمك والصقور والقنص والجمال والنخيل والآبار والواحات والجبال والأسواق والرقصات الشعبية والأطفال وغيرها. ولم يحمل ذلك الكتاب الا جانبا بسيطا من أرشيف كودري الفوتوغرافي الكبير كما انه خلا من الصور الملونة, وقد لفت ذلك الكتاب أنظار اثنين من الناشرين في دولة الامارات العربية المتحدة وهما الناشر ورجل الأعمال الاماراتي عبيد حميد الطاير وزميله الناشر البريطاني ايان فيرسيرفيس فقاما بالاتصال بالمصور رونالد كودري وذلك لاخراج صور ارشيفه الهام في سلسلة كتب تمتاز بحسن الاخراج وجمال التنظيم وفخامة الطباعة فتحمس كودري لذلك الموضوع وخصوصا انه سوف يقوم برد الامانة إلى أهلها بعد ان غابت عنهم لما يزيد على اربعة عقود من الزمان. في عام 1992 بدأت دار (موتفيت) للنشر بإصدار سلسلة الألبوم العربي باللغة الانجليزية فصدر منها الجزءان الأول والثاني عن دبي وابوظبي والثالث عن الإمارات الشمالية والرابع عن عمان وفي عام 1996 أصدرت الدار نفسها كتاباً عنوانه (ثانية واحدة في العالم العربي, خمسون سنة من الذكريات الفوتوغرافية) واحتوى الكتاب على مئة صورة فوتوغرافية من مختلف جولات المصور في مختلف دول العالم العربي من الخليج الى المحيط. وقد ترجم الى العربية من الالبوم العربي الكتابين الخاصين بابوظبي ودبي. اذا كان فن التصوير الفوتوغرافي يتركز في اقتناص اللحظة وتخليدها فلقد نجح رونالد كودري نجاحاً باهراً في العديد من صوره الفوتوغرافية, يكفي ان نلقي نظرة على احد أجزاء الالبوم العربي الا وهو الجزء الخاص بمدينة دبي فنجد صورة الشيخ سعيد بن مكتوم ـ رحمه الله ـ وتلك النظرة الابوية الحانية وذلك الوجه الانساني التقي والورع بلحيته البيضاء وشاله الابيض وعقاله الابيض, صورة الغروب وراء أشجار النخيل في بر دبي, صورة المرأة التي تحمل الجرة على رأسها, صورة البحار وهو يجذف في قاربه الصغير بالقرب من السفينة الكبيرة التي تعبر بجواره, صور المراكب الشراعية بالقرب من منازل الشندغة البيضاء القديمة, صورة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم ـ رحمه الله ـ مع حمد الفطيم وسيف بن كلبان, صورة المواطن الذي يدخن مدواخه باستغراق, صورة غانم بن علي بن خرباش وأثر الرمل على انفه وجبهته نتيجة للصلاة في الصحراء, صورة الأطفال وهم يتسابقون بقوارب اللعب الصغيرة, صورة إطفاء الحرائق, صورة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم ـ رحمه الله ـ وهو يقلب بحنو كتابا مع ابنه الصغير الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم, منظر هجوم الجراد, منظر البنات الصغيرات بعد ان ختمن القرآن, منظر الطالب الصغير الذي يكتب فرضه المدرسي وامامه زجاجة الحبر وعشرات من الصور الأخرى التي تمتاز بالتوثيق التاريخي واللقطة الموفقة والعفوية والنقاء.. الخ. لقد استطاع رونالد كودري ان يوثق للامارات ارشيفاً فوتوغرافياً قل مثيله في دول الخليج في منتصف القرن العشرين, وفي لحظة حاسمة من الناحية التاريخية, حيث شكلت النقلة البترولية الكبرى بعدها قفزة تاريخية كبرى عن النصف الأول من القرن العشرين ازالت المعالم المعمارية السابقة وغيرت العديد من العادات والتقاليد ووسائل الاتصال والنقل والاقتصاد والمعيشة, ومن هنا فان أهمية أرشيف كودري الفوتوغرافي هي أهمية مضاعفة في قيمتها التاريخية والفنية والوثائقية. تكريم وتقدير في دورة جائزة العويس للدراسات والإبتكار العلمي للعام 1992 قررت لجنة الجوائز والمسابقات في ندوة الثقافة والعلوم تكريم المصور رونالد كودري عن سلسلة كتب الألبوم العربي (ألبوم ابوظبي ـ ألبوم دبي) وأعطته جائزة الكتاب المتميز عن دولة الامارات العربية المتحدة, واستضافته في حفلها الذي اقيم في ابريل عام 1993 وقد حضر الى دبي لاستلام الجائزة مع زوجته باميلا التي قررت المجيء لحضور تكريم زوجها في البلد الذي احباه وعاشا فيه أجمل ايام عمرهما بالرغم من ظروفها الصحية الصعبة. وقد حضر ذلك الحفل العديد من شخصيات الامارات الاقتصادية والادارية والثقافية والأدبية وقد تسلم رونالد كودري جائزة الكتاب المميز عن الإمارات من صاحب الجائزة الشاعر ورجل الأعمال سلطان العويس ـ رحمه الله ـ وتبادل معه ورفاق جيله العديد من الذكريات القديمة عن الإمارات في الاربعينيات والخمسينيات. واخبرني كودري في نهاية الحفل انه كان مسروراً من تقدم الامارات العمراني والاقتصادي ولكن سروره تضاعف بمشاهدته للتقدم الثقافي والعلمي الذي تجلى امامه في حفل تكريم الثقافة واهلها حيث حصل في الدورة نفسها رجل الخير والثقافة جمعة الماجد على جائزة شخصية العام الثقافية لجهوده في دعم الثقافة ونشرها وتعميمها والاهتمام بنتاجاتها وحصل ايضا الباحث المثابر ابراهيم بوملحة على جائزة عن كتابه (الشيخ محمد نور رائد التعليم بدولة الامارات العربية المتحدة) وفاز الكثير من الباحثين والفنانين والشباب بالعديد من الجوائز التي تقدر جهودهم في مجال الدراسات والبحوث والابتكارات العلمية والابداعات الفنية. وداع كودري آخر لقاء ضمني مع رونالد كودري كان بدعوة كريمة منه للعشاء في مطعم نادي السيارات في مدينة لندن في ابريل 1999, وكان حديثه كالعادة عن الامارات وأبنائها وذكرياته عن مدنها واحداثها ومعالمها. وسمعت في الصيف الماضي عن مرضه فأردت زيارته لكي أعوده في مرضه فعلمت انه ترك لندن وانتقل للعيش مع ابنه في مدينة اخرى ولما اردت الذهاب لزيارته هناك علمت انه قد احتبس صوته ولا يقدر على الكلام ولا يحب ان يراه أصدقاؤه ومعارفه في حالته الصحية الصعبة فأرسلت له بطاقة بريدية تعاطفت فيها معه وتمنيت له الشفاء العاجل ثم ارسلت له بعد ذلك عدة بطاقات اخوية متمنيا له كل خير وعافية وتلقيت منه رسالتين تدلان على تفاؤله وايمانه بحكم الأقدار وفي تلك السطور وجدت حبه للحياة إذ كان يعمل لاتمام عدة كتب ألبومه الفوتوغرافي الكبير ووجدت اطلالات من طرافته التي لم تفارقه حتى في تلك الشهور العصيبة من حياته. ولكن المرض تزايد عليه واخبرني الناشر ايان فيرسيرفس انه على الرغم من ادراكه بقرب الرحيل الا انه كان يعمل بمثابرة لانهاء كتاب عن الصور الفنية للبورتريت او الوجوه المعبرة لابناء الامارات. عندما ندخل الى متحف دبي نجد ان العديد من معالم المتحف واقسامه مأخوذة من صور كودري وعندما ندخل الى متحف بيت الشيخ آل مكتوم نجد ان حجره تمتليء بصور كودري, وعندما نقلب صور ألبومه العربي وكتبه المتعددة نعرف الاضافة الكبرى التي قدمها ذلك الانجليزي الفنان لحفظ تاريخنا الوثائقي والفوتوغرافي والاجتماعي. وداعاً كودري, لقد تركت للامارات تراثا لن يجعل ابناءها ينسونك, اما نحن الذين عرفناك بشكل شخصي وعرفنا لطفك وكرمك ودماثة أخلاقك فإننا لن ننساك مهما تعاقبت الايام ومرت السنوات.