الشعر
د.محمد عبدالله الأحمد
لم يستطع أحد تعريف الشعر تعريفاً ناجزاً …
لحظة تأمل قال عنه أحدهم ، و تلحين للغة قال آخر ، و نغم إنساني يأتي من داخل النفس و تطريب لمعاني اللغة وصفاً و مدحاً و حباً و هجاءً و حماسة يقول البعض .
أما الحقيقة فإن التعريف المانع الجامع (الكامل) للشعر فهو غير موجود ، لأن ما من كلمات تعرف الشعر سوى الشعر نفسه . فالشاعر الحقيقي لا ينظم لأنه يريد أو يشاء بل يأتيه الإلهام الشعري إجبارياً كهطول المطر و قد اصطك الغيم بالغيم فيظهر البرق و ينزل ليروي الأرض الظمأى .. هذا هو الشعر .
يقول محمود درويش :(قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت إذا لم ننقل المصباح من بيت إلى بيت و إذا لم يفهم البسطا معانيها فأولى أن نذريها و نخلد نحن للصمت ) .. حقاً لا نجد أجمل من هذا القول لكي نضع مسباراً و مقياساً لوظيفة الشعر في الحياة منذ بدء وقوف الإنسان على طلل الحياة مناجياً الله و الحياة من أجل كل شيء .
الشعر إذن وظيفة إنسانية لحظة لا يستطيعها إلا أصحاب الملكة أولئك الذين خلقت فيهم مقدرة نادرة على رص صفوف اللغة ليس في (مارش) عسكري أو بستان ورد أو مجلس حزن أو رسم فقط بل رصها كما يشاؤون و كأن اللغة طوع بنانهم تشبه عاشقة لا ترضى الحب إلا لهم و هم الشعراء .. الشعراء الحقيقيون و ليس أنصافهم أو المدعون .
في عالم الشعر لوحات خلاقة كثيرة تدخل إلى حواس الإنسان قولاً أو غناء ملحناً بصديقة الشعر الأولى و هي الموسيقى لتصنع من الحياة مكاناً و زماناً قابلين للعيش ، العيش الذي لم نختره نحن لأنفسنا . هو إذن أي (الشعر) محاولات الإنسان خلال عيشه لتسجيل محطات عمره و لكن بأفضل أسلوب يستطيعه عقله و قلبه أن يفعلا ، و من هنا فالشاعر هو سيد المتحدثين لا يغلبه فيما يفعل لا السياسي و لا الفيلسوف ولا المحامي ولا أي أحد آخر ، فالشاعر هو ذاك الذي يأخذ من عقله فكرة واحدة عظيمة فيعمدها في ماء قلبه ثم يخرجها في تلك الأنشودة اللغوية التي لا يوجد منها إلا عند أقرانه من الشعراء أي أن فيما يفعله (ماركة مسجلة) أو (علامة مميزة) و حتى أقرانه من الشعراء يجيؤون إذا جاؤوا بأنشودة أخرى بشئ له (ماركة مسجلة أخرى) لا تشبه ما سبقهم إليه الشاعر الأول لكنها يمكن أن تكون أحلا أو أوقع تاثيراً بنا نحن محبي الشعر .
ها هو امرئ القيس يقول :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه و أيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت ….. فنعذرا
فماذا سيترك لنا للتعليق على هذا (الجمال اللغوي الهائل) و (المعنى الحياتي الخاص) الذي اختاره لنفسه و قد سبك أبياته بطريقة يغلب فيها الجمال على المعنى فلا تستطيع إلا أن تصفق له حتى و إن اختلفت معه في الموقف فهل ندرك هنا خطورة الشعر و أهميته ، أي هل نعلم بأنه وسيلة إقناع خطرة تريد تمرير موقف عبر السبك العبقري ؟
و أبيات المتنبي ذات الفخر المنقطع النظير بالنفس :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأني خير من سارت به قدم
فيقال له هنا : ويحك قد جعلت نفسك فوق الأمير ! .. فيضربه سيف الدولة بدواة الحبر فيجرحه و يقول و هو يمسك مكان جرحه :
إن كان سركم ماقال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام و أنت الخصم و الحكم
وهنا يجمع أبو الطيب مثل جده امرئ القيس بين عنصرين العنصر الأول هو تنصيب النفس ملكاً على اللغة و العنصر الثاني هو القضية المراد طرحها و هذا لا يتوفر إلا للشاعر
أما في عصرنا الحديث فتأتيك أبيات سميح القاسم :
أناديكم أشد على أياديكم و أبوس الأرض تحت نعالكم و أقول أفديكم
أنا ما هنت في وطني ولا صبرت أكتافي فمأساتي التي أحيا نصيبي في مآسيكم
هذان البيتان اللذان صارا أغنية مشهورة يعبران عن الشاعر أيما تعبير حيث يأخذ ليس من اللغة أروع ما فيها فقط بل من نفسه المضحية أروع مافيها أيضاً ، فكلنا نمتلك اللغة و ربما التضحية لكن الشاعر يمتلكهما معاً و في وقت واحد فتولد القصيدة العملاقة التي لن تنسى .
هذا هو الشعر في كل نواحي الحياة عنصران لا يجمعهما إلا شاعر حقيقي هو إذن مقدرتان في واحدة ، إن كان غزلاً أو حماسة أو مديحاً أو هجاءً أو شعراً للوطن و الناس .
ـــــــــــــــــــــــ
د.محمد عبدالله الأحمد