مشروب حُرّم بفتاوى دينية عدة بداية ظهوره في الشــرق، وقيل إنه يؤثر في العقل سلباً، وتعرّض لملاحقات المتصوفة في حواري اسطنبول العتيقة لأنه يُلهي الناس عن العبادة. في الغرب، كانت شبهة تسبّبه بالعجز الجنسي أحد أســباب أطرف احتجاج نسائي… إنه القهوة.
لا يتطرق المعرض الفوتوغرافي المقام في إسطنبول «ثلاث مدن وقهوة واحدة» للمصور التركي مانويل شيتاك، مباشرةً إلى هذه التفاصيل من مسيرة القهوة عبر التاريخ، ويكتفي بتسليط الضوء على مكانة هذا المشروب في الحياة اليومية لثلاث مدن في ثلاث قارات مختلفة، هي اسطنبول والقاهرة وفيينا. لكن وراء هذه المكانة، يكمن تاريخ حافل من الحروب التي خاضها أنصار القهوة ومعارضوها، إلى أن حجزت لنفسها مكاناً ضمن المشروبات اليومية للناس في العالم.
اختار شيتاك صوراً التقطها من الحياة اليومية للناس في حضور القهوة، على عكس ما قد يتوقعه المرء من عنوان المعرض، فالقهوة ليست بطلة المعرض، لكنها في الوقت نفسه لا غنى عنها. ويقول شيتاك لـ «الحياة»، إن اختيار المدن الثلاث لم يكن عشوائياً، بل هي تشكّل ثلاثة نماذج مختلفة من حيث طرق الشرب وعاداته. ويعتبر حضور القهوة في الحياة اليومية في فيينا والقاهرة على طرفي نقيض، فالقهوة في القاهرة جزءٌ لا يتجزأ من حياة الناس خارج المنزل، سواء المقاهي أو أمام المنازل، ويسمى النوع الأكثر استهلاكاً «القهوة التركية»، في حين لم تدخل بقية أنواع القهوة الحياة اليومية لأهل القاهرة، وتتركز فقط في المقاهي ذات النمط الغربي. أما في فيينا، فالحضور الأكبر للقهوة يكون بين الجدران، داخل المقاهي، ويتم فيها استهلاك جميع الأنواع المعروفة في العالم. وتتميز فيينا بنوع خاص بها يعرف باسم «قهوة فيينا» المخفوقة بالكريمة.
يرى شيتاك أن اسطنبول تشكل حالة توفيقية بين القاهرة وفيينا عبر جمعها بين مختلف أنماط القهوة من حيث الانتشار وطريقة الاستهلاك.
وعلى رغم أن أشهر أنواع القهوة الشرقية تحمل اسم «القهوة التركية»، فإن القاهرة كانت سبّاقة في انتشار هذا المشروب، وسبقها أيضاً كل من مكّة وعدن، لكن طريقة انتشارها غربياً تمت من طريق عاصمة الدولة العثمانية، فحملت هذا الاسم. وواجهت القهوة في المدن الإسلامية حرباً شرسة حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكانت غالبية دوافع الحرب سياسية نظراً الى انتشار المقاهي وتحوّلها إلى مراكز اجتماعات سياسية ومقرات لتداول أفكار معارضة للحكم، ورُصدت «مؤامرات سياسية» كثيرة داخل المقاهي ضد الحكم العثماني في اسطنبول. وفي مفارقة لافتة، فإن انتشار القهوة إسلامياً بدأ على يد الشيخ المتصوف جمال الدين الذبحاني، في اليمن، لإعانتها المريدين على «قيام الليل»، ثم كان غلاة المتصوفة من أشد محاربيها لاحقاً تحت مبرر صرفها الناس عن العبادة.
تقلّصت مكانة القهوة شيئاً فشيئاً في المقهى الذي لم يعد مقتصراً على مشروب واحد يقدمه للزبائن، وتراجعت أمام الشاي الذي بات سيد المشروبات اليومية في تركيا، فيما بقيت «القهوة التركية» متصدّرة المشروبات الساخنة في دول عديدة مثل سورية ولبنان.
مسيرة كفاح القهوة في الغرب بقيت في منأى عن الاجتهادات الدينية، وعلى رغم أن التأثيرات الاجتماعية للقهوة والمقاهي بقيت تفصيلية في سياق تداخلها مع العادات اليومية للسكان، فإنها تباينت مع ذلك من بلد إلى آخر.
لم تواجه القهوة في فيينا صعوبات تذكر في الانتشار، وتحولت المقاهي إلى أماكن إنتاج أدبي منذ افتتاح أول مقهى عام 1685، وظهر هناك مصطلح «أدب المقاهي»، وعلى سبيل المثل كان مقهى «سنترال» هو العنوان الذي يتلقى فيه الكاتب النمسوي الشهير بيتر ألتنبرغ، رسائله ويكتب فيه كل نتاجاته الأدبية.
لكن لم تكن هذه حال كل المدن الغربية مع القهوة، ففي لندن كان للقهوة صراع حاد مع النساء اللواتي كنّ ممنوعات من ارتياد المقاهي في معظم الدول الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر، وأحرج الاحتجاج الذي رافق «العريضة النسائية ضد القهوة» عام 1674، الرجال في تفصيل صحي مثير للجدل، عبر استنتاج النساء أن رجالهن المرتادين المقاهي باتوا يعانون من العقم والعجز الجنسي. وحذرت النساء الحكومة من اختلال نسبة المواليد.
ساهم تطوّر العلم المِخْبري في نجاة القهوة من الفتاوى في الشرق، وكذلك من النساء في الغرب، لكن المعرض لم يتطرق إلى مكانة القهوة في بريطانيا، حينها كان يمكن الحديث عن الحرب الوحيدة التي خسرتها بالضربة القاضية هناك أمام شركة الهند الشرقية، المسوّق الرئيس للشاي!