جدلية الحُكم في الفن والجمال
خاص لصحيفة عرب فوتو
العفير عبد الله – المغرب
بدأ الحُكم في مجال الإبداعات الفنية منذ العصور الوسطى حسب معايير وقواعد يونانية ورومانية. واعتُبر أرسطو كسُلطة في هذا المجال. الذي بنى معاييره على وحدة الزمان والمكان والهرموني والتكوين الصحيح الذي يخضع للرقم الذهبي، وتماسك الجزء بالكل والكل بالجزء، ومراعات الضرورة والمضامين والاختلافات الفردية والخصائص الجمالية الفنية الفردية.
والحُكم في المنظور مرتبط بجدلية الفوضى أو النظام والبساطة أو التعقيد. الفكرة والإنارة والتكوين، والتأطير والأبعاد والعمق الميداني والخطوط والخلفية والمساحات والألوان وتوزيع وتوازن الكتل والتناغم، والدلالة والرمز والأيقونة…
والعملية الإبداعية لازالت تتم وتتداول بين أضلاعها الثلاث الفنان والناقد والمتلقي أو المتذوق.
انطلاقا من هذه المفاهيم يبقى الإطار الفني هو الذي يخول للحَكم تذوق العمل الفني وتقييمه باعتبار أن الفن لا يُحكم إلا من خلال قواعده الداخلية. لكن العالم ضل منقسما حتى يومنا هذا حول الحكم الذاتي أو الموضوعي. وهذا مربط الفرس، لذلك يجب تفكيك طلاسم هذا الموضوع بتبصر وروية.
أولا العنصر المقصود هو الحَكم ما هي مواصفاته؟ هل هي كافية لإنصاف الإبداع؟ مع أن كلمة إبداع في كل تعاريفها التي قرأتها أروعها هو الإتيان بالجديد.
الحَكم يجب أن يكون عالما في مجاله. وأن يحسن عملية التقمص، وأن يتسلح في الحُكم عن أي خلق جديد بالتذوق والتقييم والنقد. أي أن يكون فنانا ناقدا متذوقا مثقفا شاملا لعدة علوم ما يسمى بالمجال الحيوي للمعرفة في إطار الجمال. وأن يقيم العمل خارج المؤثرات والعوامل الخارجية. كالتاريخ والدين والأساطير والمبادئ والأخلاق والفلسفة والسياسة والموقف والمصلحة والغريزة.
في الحُكم ما نشعر به ونميل إليه ونرغب فيه هو القيمة، وتحديد القيمة يختلف من شخص لآخر. وهي استخلاص السلبي والإيجابي في علاقة المضمون بالصورة، أي الفاصل بين القبح والجمال. لكن هناك عوامل أخرى معتمدة في هذا الإطار، وأهم عامل إما مع أو ضد الإبداع وهذه جدلية أخرى.
عامل الضرورة المرتبط بالسياق الفكري والاجتماعي والسياسي والديني والاقتصادي. هناك من يتذوق ويحكم بالقيمة، أو النسق، أو الخصائص التي تعتمدها الأشكال الجمالية بين المنظور والمحسوس. وهناك من يرى أن العمل الفني ليس ظاهرة مادية وعليه يجب الحكم عليه من جهة وقعه على المتلقي وما وراء العمل من تأثير على النفس. لذلك يقدر العمل الفني بأول إيحاءاته والانطباع الذي يتركه في نفس المتلقي. وآخرون يتبنون نظرية أن العمل الفني لا يُشرح بالمعنى والمغزى بل بما يوحي به من إبداع وجمال في ثنايا تكوينه. وهناك من يعتمد على الخبرات والتجارب السابقة ممتطيا صهوة المقارنة وهذا إنساني. لكن المقارنة لا تنصف العمل الفني بحكم أنه نسخة متفردة والذين يحكمون بالمقارنة بأي قياس يستعينون؟ وفي كل الحالات الحُكم يكون خارج التقييم الجمالي الحقيقي وهذا صراع سرمدي بين التحليل العقلي والإحساس النفسي. ثم يأتي السؤال فارضا نفسه هل يُحكم العمل من خلال الحس الفني التذوقي للجمال أم من خلال الأبعاد المرئية على مستوى المنظور؟ الحدسي أم المنطقي؟ الحسي أم الموضوعي؟ المعياري أم النسبي؟
أيضا ليس منصفا ما ذهب إليه بعض المفكرين وهو الحث على أن تكون القواعد مرنة بحسب تأثير العمل الفني ونجاحه عند الحُكام. أي أن الحُكم حسب السياق المتوخى منه وأن يصبح علما قائما بذاته. والسياق ليس منصفا ولا موضوعيا في الحكم أيضا. ببساطة يبقى المعنى في بطن الشاعر.
أضف إلى ذلك التعود والخبرة لا تفسر التذوق الجمالي لأنه مرتبط بالذوق والإحساس الفردي المستقل النابع من نفس التجربة الشخصية الخاصة والمتفردة التي لا يمكن وبأي شكل من الأشكال تعميمها لأنها كالبصمة لا تتكرر في الأشخاص. الأعمال الفنية متفردة وليست مترادفة إذن هناك صراع أزلي بين الحُكم بالقواعد العلمية وما يسمى بالآراء الذاتية.
أثبتت الدراسات والتجارب أن القواعد ليست كافية للحكم النزيه والصحيح. لا شيء منزه على وجه الأرض. والمطلق حُكم إله.
هناك ما يسمى بالأوهام البصرية. عندما ندرك أن هناك أربعة أنواع من الحكام.
الموضوعي والفيزيولوجي والارتباطي والشخصي.
ــ الموضوعي ناقد عقلاني يركز في حكمه عن الخصائص والمكونات والتقنيات لا يقبل الغموض واللامعقول. إلا أن العمل الفني يمكن أن يختلف عن سلفه وأن يخرج عن جميع القواعد والعرف التقليدي.
ــ الذاتي انطباعاته كالمبتدئين السدج يلاحظ أثر ووقع الصورة على نفسه وعلى نفسية المتلقي.
ــ الارتباطي متقلب المزاج لا يعول عليه يسخر كل ذاكرته ويربطها بالصورة.
ــ الشخصي المتذوق الوحيد بينهم. يصف الصورة بالفرح أو الحزن أو الغرابة وهو أكثرهم تشبثا بالإستطيقا. وعندما نقول الشخصي نقول الذاتي ويتلاشى الموضوعي.
ثم هناك ثلاث شخصيات يمكن إضافتها للحُكام: الحسي والإدراكي والخيالي. وهذا موضوع آخر.
أيضا الإستطيقا في علم الجمال تنقسم إلى شقين: ما هو ذاتي وما هو مدرك ذاتيا. أي بالنسبة للصورة هناك صور جميلة لذاتها وهناك من تحتاج إلى إدراك من طرف الحُكام بجمالها. حسب تضارب آراء الفلاسفة والمحللين الذين عكفوا على الموضوع، يمكننا أن نستشف استحالة وجود قاعدة موحدة للذوق العام تقرب بين الموضوعي والذاتي يمكن الحكم من خلالها عن الجمال. لذلك ستبقى الجدلية قائمة مستقبلا كل حسب قناعاته. بين المفهوم والانطباع المرتبطا بالذات.
ثم يتدخل عامل الضرورة الذي يميط اللثام عن اللبس. كالمعرفة والتجربة والعلم والمعتقد والعقل والروح والمصلحة والرغبة والمشاعر. والتذوق الراقي والتربية والاستجابة الجمالية والإدراك والتفاعل والانطباع. معرفة الجمال يتم عبر طرائق متعددة ومناهج مختلفة ومفاهيم لا حسر لها. كل من تعمقوا فيه وتكبدوا عناء البحث المضني في هذا المجال انتهى بهم الأمر إلى السؤال من حيث بدأوا، هل الجمال علم؟ إذا كان للجمال علم فما هو موضوعه؟ في قاموس لالاند الفلسفي الإستطيقا هي علم أحكام التقويم. قصد التفريق بين ما هو قبيح وما هو جميل. والإستطيقا تعني عند اليونانيين الوعي الحسي. هذا يعني أنه يمكن تصنيفه ضمن العلوم المعيارية التي ترتكز على الوعي الحسي. الجمال والفن ظاهرتان يصعب تعريفهما. ما بالك الحُكم عليهما. الإنسان يحكم علميا عبر ثلاثة معطيات: الثقافة والمفهوم الذاتي ووجهات النظر. وعليه الحكم يكون تفضيلي وليس قطعي. والتفضيلات الجمالية راجعة إلى غزارة الاختلافات الذوقية التي حبا الله بها الإنسان.
كل العلوم والفلسفات تنفي موضوعية الجمال. الجمال في ذاته هو ذاتي. وهناك جمالات وليس جمال واحد. عندنا إحساس بالجمال ولكن لا مطلق في الجمال ولا في الحكم عليه.
ما جاء في هذين الشهادتين لرجل نافذ لا يدع مجالا للشك. “لو عرفت ما هو الفن لاحتفظت بذلك لنفسي” بابلو بيكاسو ثم “نعرف جميعاً أن الفن ليس الحقيقة، بل كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة” بابلو بيكاسو.
هناك أيضا معوقات تشويشيه عن إدراك الحُكم العادل هي الغائية والضرورة. والحُكم والتفصيلات وردات الفعل هي فردية فيما نعتبره جمالا.
ما دام في الحُكم هناك ردة فعل ذاتية خاصة بالظرف، بكل تفضيلاته، هذا يسمى إدراك للجمال على نحو يخص الحَكم. وما دام لكل منا جانبه الفني الذي يعجبه أو يتبناه أو يستمتع به لن يكون هناك عدل. كلنا يستمتع بنوع خاص من الصور الذي هو مختلف عن الآخرين. هل هناك معيار جماعي؟ أبدا.
الحكم ليس تنزيلا والإنسان ليس منزها ولا معصوما. عندما نقول أذواق لا توجد وحدة لجمع
الأذواق في النفوس وجعلها ذوق واحد في نفس واحدة. حتى الإجماع والتفضيل اتضح أنهما كارثة إنسانية نحصد ويلاتها في القرن الواحد والعشرين. نحن نلاحق سرابا وراء مشاعرنا الذاتية.