كل شيء ممكن في نيويورك جميل ملاعب
بيروت – مهـى سلطان
لم يكن يخطر في بال جميل ملاعب يوماً أن عالمه اليومي الذي أنشأه بالحب والسجيّة الطليقة وحَفرَ تفاصيله على مهجة القلب في كتابه «قريباً من الوطن»، سوف يعاود ظهوره ليدخل في نسيج أعماله في فن الغرافيك GRAPHIC ART، التي نفّذها خلال سنوات الدراسة في معهد برات PRATT في نيويورك (طباعة حريرية، حفر على الخشب وليتوغرافيا…)، وأن حكاياته التي جزّ عشبها وأنبت زهورها ستعود وتطفو من جديد على سطوح غائرة وبارزة، بِصُوَرِها وكائناتها وعناصرها، كي تعكس تجليات يومياته بحلوها ومرّها «بعيداً من الوطن». والمعرض الذي تنظمه ندين بكداش لمحفورات جميل ملاعب وأعماله المائية في غاليري جانين ربيز (من 13 كانون الثاني/ يناير إلى 5 شباط/ فبراير 2016) تعكس مساراً فنياً متأرجحاً بين مرحلتين متباعدتين زمنياً، غير أن ما يجمعهما هو تيمة واحدة ألا وهي مدينة نيويورك.
في المرحلة الأولى (1984- 1987) كان جميل يواجه صدمة الحداثة النيويوركية بالعودة إلى ما يشبه براءة مفردات الحياة القروية التي اعتاد أن يجسّدها في أعماله من خلال موتيفات الطيور والأشجار والحدائق والنساء والزخارف. لذلك نجد في محفوراته عالمين متناقضين ينازعان بعضهما بعضاً في الاستيلاء على فضاء العين، ربما ليس على نحو صراع الشرق والغرب، بل بما يشبه رحلة بول غوغان إلى ما وراء البحار لاستلهام طبيعة الشعوب البدائية والغموض السحري للحضارات القديمة في مواجهة زيف الحياة الباريسية المتمدنة وهمومها وشجونها.
ولكن قلق جميل لا يعدو كونه غريباً يفتش عن نفسه، بين أسلوبه المعتاد على التلقائية – الفطرية من جهة ومؤثرات مدرسة نيويورك التي أسست لفنون ما بعد الحداثة من جهة أخرى. لذا تبدو علاقته بتجارب فناني النيو- دادائية والبوب آرت علاقة وطيدة تدور في فلك أيقونية الصورة وعالم المفردات motif البصرية التي تعبّر عن وقائع الحياة اليومية للمجتمع الأميركي ذي الطبيعة الاستهلاكية: إشارات أرقام أخبار النشرة الجوية منظر السنترال بارك من هنا نصب الحرية من هناك ناطحات مانهاتن… دولارات وأحذية وماركات تجارية ودولاب الحظ وتعليقات صحافية ثم حديقة وطائر وشمس وصقيع… إذاً هي صور من حياة استهلاكية بلا سياقات محددة يتم توليفها بمنطق تجميعي دلالي، قائم على تداخل المسطحات وتكرار الأشكال (متعاكسة ومتعامدة).
وكثيراً ما تتردد عبارة New York وكثيراً ما تتقاطع صور النساء مع كتابات شعرية متحررة (متراصة ومبعثرة وعشوائية) تملأ فراغات المطبوعة وتسيّدها بطوابير من سطور نابضة بالرقة تفيض بالمعاناة والضغط النفسي، ليست إلا الوجه الآخر والخفي لفنان يعرف كيف يستنطق نفسه ويصادقها.
هذه المثاقفة في اكتشاف الحضارة الجديدة التي وصفها جميل في إحدى نصوصه بـ «الحضارة العدوانية»، دفعته إلى المضي في تحدي ذاته، حتى أضحى ما ينقشه ويكتبه على سطوح محفوراته شبيهاً بالمونولوجات أو اليوميات، إذ أنها تعكس نضجه المبكر ووعيه بمحاولات إيجاد صيغ فنية معاصرة تواكب الاتجاهات العالمية في فن الغرافيك، وتؤكد في الوقت عينه على ثراء خصوصيته الشرقية. فجميل ملاعب على رغم قلقه كانت له عين تصِفُ وتنتقدُ ما يحيطها، ولكن سره أنه كان شخصاً واثقاً ومتفائلاً لذا ظهر عالمه مطمئناً وممتعاً وعلى جانب من التسلية.
لعل السر أيضاً يكمن في فن الغرافيك نفسه، الذي لطالما كان الميدان الذي يحلّق فيه جميل ملاعب ويبرع، لا سيما في ما يخص الحفر على الخشب وكيفية تسليمه زمام الأمر لبداهته في تقسيم العالم إلى حقول أفقية مثل أرض خصبة مهيأة للحرث، أو بطريقة عمودية شبيهة بالشلالات الهابطة من أعلى قمة في المخيلة. هكذا تتراءى الناطحات الشاهقة المتعامدة على الآفاق الوهمية لجسور نيويورك التي تربط بين ضفتي الحقيقة واستعاراتها الشعرية وأوهامها وسحاباتها الرمادية التي تفيض بعبارات البوح العاطفي وتزدحم بالصور والتفاصيل لكأنها في سباقٍ مع الزمن… في عصر السرعة والحركة والازدحام وسط عالم الدعاية والاستهلاك والشهرة.
ونيويورك مدينة المال والتجارة صانعة نجوم السينما وملوك الجاز، هي المدينة الساحرة ذات السطوة التي يبدو فيها الإنسان صغيراً ومسحوقاً تحت أقدام ناطحاتها وهو يوجّه ناظريه إلى الأعلى ليراها واقفة متألقة مثل فسيفساء ألوان وأضواء خاطفة.
ثم كان لجميل ملاعب رجعة أخرى إلى نيويورك في عام 2015 ولكن هذه المرة بشَعرٍ أشيب وتجربة عميقة.