لم يعد خبراً جديداً أننا نعيش في زمن الصورة، لم يعد سبقاً أن نقول إن الصورة أصبحت الأكثر تعبيراً في عصر السرعة، ليس لأن الكلام أو الكتابة لايفيان بالغرض، بل لأننا نبحث عن الأسرع والأنجع لنرشفه في الباص أو على الإشارة الحمراء في السيارة.
في الحقيقة أنا أمام معادلة صعبة الحل، أتساءل: كيف أدرك الفلسطينيون هذا الأمر سنة 1891 ونسوه الآن؟
عندما حمل “خليل رعد” آلة تصويره في شارع يافا في العاصمة القدس، كأول مصوّر عربي، وقد تعلّم المهنة على يد الأرمني جارييد كريكوريان، اعتبرته الدولة العثمانية مصوراً رسمياً، ما أعطاه الأهلية لتصوير الحرب العالمية الأولى وتوثيقها، إلى جانب توثيقه للحياة الاجتماعية في أغلب قرى ومدن فلسطين. ثم لاحقاً جاءت كريمة عبّود عام 1913 أول مصورة عربية، وكانت فلسطينية أيضاً، لتوثق الجانب النسائي من الحياة الفلسطينية من خلال التقاطها عددٍ هائل من اللقطات في الأستوديو النسائي الذي افتتحته تماشياً مع توجهات المجتمع المحافظ، والذي أعدّه منجماً كبيراً لما وصلنا من تصاوير لأثواب فلسطينية ما زلنا نتداولها حتى الآن.
مات خليل ولم تمت تصاويره، وماتت كريمة وبقيت تصاويرها وثائق تحفظ الحق الفلسطيني من الزوال، كما أنهما إلى جانب آخرين أمثال داود صابونجي الذي أقام أستوديو في يافا 1891، منحونا فرصة ذهبية لنرى فلسطين في القرون المنصرمة، ونفرد صدورنا فخراً بالحياة الحضارية التي نتبيّن من خلال صورهم أنها كانت موجودة بقوة في فلسطين قبل الاحتلال، ولكن ماذا بعد؟! من سيوثّق لأحفادنا فلسطين في حقبتنا هذه؟! هل توقفّنا هنا؟ هل انتهت الحياة الفلسطينية بعد الاحتلال وانضوت تحت أسماء جديدة لا تشبه ما كانت عليه؟! أوليست هذه المعركة الأطول والأجدر؟!
حين أمسك “أسامة السلوادي” كاميرا “مينولتا” التي جاء بها ابن عمه من فنزويلا إلى سلواد سنة 1989، لم يكن يدرك بأنه على موعد مع معركة طاحنة، لم يقس آنئذٍ ارتفاع الجبل الذي سيقفز عنه، ربما لأنه ابن ريف رام الله الجبلي.كانت الكاميرا تصوّر تموّجات الصخور على أنها أمواج متلاحقة تناديه، أو ربما افتتانه بالطبيعة والجمال هو من كان يجرّه إلى هذا الموج القاسي.
كانت هذه الكاميرا مفتاح الدخول إلى عالم التصوير ما إن انتهى الفيلم الأول، حتى أسرع إلى تحميضه ليتفاجأ بنتائئج فادحة، ولأنه ابن عائلة كبيرة وفقيرة وبالتالي لن تؤمن بالتصوير كهواية، كونها الهواية الأكثر كلفة في ذلك الزمن، ولأنه تولّه بالتصوير على غفلة، قرر أسامة ابن 16 سنة، أن يتعلم التصوير قبل أن يفني الفيلم الثاني، الذي لم يكن بعدُ يعرف من أين سيأتي بثمنه،فما وجد أمامه فرصة أوفى من قراءة المجلات التي تنشر أخبار الكاميرات وطرق استخدامها، وكان على قدر من الذكاء مكّنه من إقناع أقرانه بدفع مصروفهم اليومي له مقابل لقطات يأخذها لهم، هكذا تمكن من جمع ثمن الأفلام وتحميضها. استغرق الأمر سنتين حتى أصبح السلوادي معروفاً بـ”مصور البلد” /سلواد، يصور في المناسبات العامة، في الثلوج، في الحفلات، إلى أن أنهى دراسته في إلكترونيات الراديو والتلفزيون في سن 19 سنة.
تينة وغزالة على صفحات جريدة “مساء البلد”، كانتا أول التقاطتين للسلوادي في المجال الصحفي، لتجرّه أمواج الانتفاضة الأولى إلى عالم جديد، انخرط في تصوير المواجهات، وراسل بعدها وكالة الأنباء الفرنسية، وأرسل لهم أول فيلم يتضمن مجموعة من لقطاته في الانتفاضة، ليفاجئه مدير مكتب الوكالة في القدس باتصال هاتفي: “نريد أن تعمل معنا، لقد تصدرت صورك التي أرسلتها لنا معظم الصحف العالمية، بما فيها صحيفة Herald Tribune”، كانت اللقطة تلك أيقونة الانتفاضة الأولى، وأول تحليق حقيقي للسلوادي في عالم التصوير الصحفي.. وأول دلالة ملموسة على نبوغ هذا الفتى.
سنة 1995 أقام السلوادي أول معرض صور له، في مقر وزارة الثقافة الفلسطينية، بعد اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، ليكون معرضه أول معرض في ظل السلطة . كان ما زال يعمل مع الفرنسية إلى جانب عمله في جريدة الأيام الفلسطينية كأول مصور يعمل بوظيفة كاملة في جريدة محلية، وكانت تلك الجريدة المنصة التي أطلق منها ثورة حقيقية على صعيد الصورة: “صور من الشارع الفلسطيني” صفحة يومية خصصتها الجريدة للسلوادي عكف على إعدادها يومياً كما لم يفعل أحدٌ من قبل، صفحة “العدسة ” أيضاً الصفحة قبل الأخيرة في “الأيام” والتي ما زالت مستمرة حتى الآن، حولها المحرر عام 1996 إلى خارطة فلسطين التاريخية ليضع عليها السلوادي الأثواب الفلسطينية كلٌّ في موقع مدينته،فكانت الدلالة الأولى على جنون الفتى.
سنة 1998 ظهر على يد أسامة السلوادي أول كتاب فلسطيني مصور “المرأة الفلسطينية عطاء وإبداع”، انتقل بعدها للعمل في رويترز، وكانت الانتفاضة الثانية قد اشتعلت. ويعتبر السلوادي فترة عمله في رويترز (1997-2004) مرحلة مفصلية من خلال المخاطر والأحداث التي شهدها، انتفاضة الأقصى، اجتياح جنين، وحصار “أبو عمار”، إنها حرب حقيقية كما يصفها، طيران ودبابات.. أصيب السلوادي خلالها مرتين، مرة في ساقه في رام الله، وأخرى في ذراعه في مدينة البيرة، ونجا منهما.
ترك رويترز سنة 2004 ليؤسس أول مركبة فضائية، أعني أول وكالة تصوير عربية، تمكّنت من الصعود بالصورة الفلسطينية إلى الأعالي، “وكالة أبولو”التي أصبحت بنك صور فلسطيني، تمكن السلوادي من ربطها بوكالات عالمية مثل وكالة جاما الفرنسية وغيرها. وفي عام 2006 بينما كانت إحدى المسيرات تنطلق أسفل شباك مكتبه، دفعه الشغف للوقوف أمام الشباك ليتلقاها.. الطلقة الطائشة التي غيّرت حياة السلوادي تماماً، المفارقة الأبلغ تجلّت في أن السلوادي لاحق المخاطر على مر سنين وكانت تهرب منه، لتقبض عليه في مكتبه فجأة.
مات السلوادي .. نعم مات لمدة 40 يوماً، هذا التوصيف الحقيقي للغيبوبة التي قضاها مصورنا، بنى عالمه الخاص في البرزخ، حيث هناك أحداث عاشها ما زالت عالقة بخياله وعدسته حتى الآن، عندما أفاق أخبره الطبيب بأن الرصاصة استقرت في العمود الفقري قرب النخاع الشوكي، وأنه استطاع أن يلوي ذراعها ويفيق رغماً عنها، لكنها أفقدته القدرة على المشي إلى لأبد، لكن السلوداي الجبليّ العنيد تمكن من إقناع الطبيب بأنه سيمشي.. وفعل، لم يمشِ على ساقيه ..إنما مشى بساق الحلم وساق الإرادة.
يقول السلوادي: “لقد غيرت سيارتي، ورخصة قيادتي، ومكتبي، بما يلائم حالتي الجديدة بعد أن أصبحت ساقاي مجرد عبء علي، وأسست مجلة “وميض”، مجلة مختصة بالتصوير، استمرت بالصدور لثلاث سنوات، بعدد شهري على 120 صفحة باللغتين العربية والإنجليزية، لتكون مجلة رائدة على مستوى المنطقة، ولم تتوقف لولا ضعف التمويل، “فلسطين كيف الحال؟”، “القدس”، و “الحصار” ثلاثة كتب أصدرها السلوادي منذ 2008- 2011، قبل أن يتفرّغ لمشروع حياته، كصيّاد حصيف، راح يتصيد التراث الفلسطيني، ليطلق مشروعه الأعظم: ” مشروع توثيق التراث الفلسطيني” في محاولة جادة لحماية التراث من السرقة، بعد أن بدأت إسرائيل بنشر الثوب الفلسطيني في المجلات العالمية على أنه إسرائيلي، دون أن يهتز رمش لأحدهم، في 2012 صدر أول كتب التوثيق “ملكات الحرير” الذي تضمن الأثواب الفلسطينية مشفوعة بشرح يخص كل ثوب، وأخذ المشروع بالتوسّع، ليشمل كل شيء معرض للسرقة، ليصدر بعدها كتاب “بوح الحجارة” الذي وثق فيه التراث المعماري الفلسطيني مشفوعاً بشروحات أيضاً، ولم يلبث السلوادي حتى وجد نفسه تحت مسؤولية كبيرة ومتمددة، عندما بدأ الناس يرسلون له صوراً وأخباراً تؤكد سرقة الإسرائيليين للتراث الفلسطيني: المأكولات، الألعاب الشعبية، النباتات، والطيور وغيرها، فتمدد مشروعه على 10 كتب ما زالت تحت الإنجاز، ضمن سلسلة طويلة من الدعوات التي يوجهها السلوادي طوال الوقت لرعاية هذا المشروع المكلف جداً الذي يقوم به بمفرده، دون التفات المؤسسات المعنية إليه. ويشرح السلوادي عن أهمية المشروع قائلاً: ” لقد خسرنا المعركة العسكرية والسياسية، وعلينا ألا نهزم ثقافياً، فالأرض ستعود مهما طال الزمن، لكن التراث والثقافة هما الرابط الوحيد الذي يجمع أبناء شعبنا على نفس رجل واحد، وتراثنا هويتنا، التي إن فقدناها فقدنا كينونتنا كشعب واحد، ونصبح جماعات متفرقة، والمؤسف هو انعدام الوعي بأهمية الشأن الثقافي لدى القطاعين العام والخاص، ولكنني مستبشر بتعلّق الناس في الفكرة، الناس الذين كانوا يراسلونني كلما أمسكوا بقطعة مسروقة من أثاث تراثنا بيد العدو”.
غياب مؤسسات تعنى بحماية التراث الفلسطيني، دفع السلوادي إلى التدرّع لهذا الدور، حتى غدا أشبه بحارس لتراث شعب يتمدد على أكثر من 5000 سنة، بيدين من نار، و وعين لا تمسها النار لأنها باتت تحرس في سبيل فلسطين، وساقين لا تعرقلهما مكيدةٌ يواصل السلوادي مهنته الوجودية، إلى جانب دوره كمحاضر في عدد من كليات فلسطين وجامعاتها في مجال التصوير، ليزرع بذار مصورين جدد، كي لا تهرم العدسة الفلسطينية ولا تعمى..
حصل أسامة السلوادي على كثير من شهادات التقدير والميداليات والتكريمات منها : حصوله عام 1996شهادة تقدير من وزراة الثقافة الفلسطينية لتغطية أحداث انتفاضة النفق،وعام 1999 المركز الثاني في مهرجان التصوير الدولي في العراق، وعام 2000 تكريم من قبل نقابة الصحفيين الفلسطينيين، كما كرمه عام 2010 مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام الوثائقية،ومنح عام 2012 الميدالية الذهبية للاستحقاق والتميز من الرئيس محمود عباس، وكرمه إتحاد كتاب وأدباء فلسطين واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم عام 2014 ومُنح لقب “عين فلسطين”.
*شاعر وكاتب فلسطيني