الفن المعاصر على مفترق … والرقمي يتفوق
مدينة صخب وحراك شعبي وتململ هي بيروت التي ما زال يشع حضورها الثقافي ويرتقي ليستقطب الذواقة من رواد المعارض الفنية الذين توافدوا لحضور افتتاح معرض الآرت- فير الذي تنظمه سنوياً الفرنسية لور دوتفيل (في مجمع البيال- سوليدير) بالتعاون مع فريق عمل لبناني وفرنسي، وشاركت فيه 51 صالة عرض تُمثل 19 دولة، قدّمت ما يفوق الـ 1500 عمل يحمل توقيع 300 فنان، في طليعتهم مارينا ابراموفيتش من صربيا ومهدي مداشي جزائري مقيم في فرنسا، رسمي الخفاجي من العراق، ماحي بنيبين من المغرب، دليله دالياس بوزار من الجزائر، دوفيه ديل داغو من كوبا، ألجير أيسر من ألمانيا، غاوبراذرز من الصين، مروى نجار من الأردن، ليديا فينيري من اليونان، بريجيت زيغر من ألمانيا. وكانت قد استضافت هذه التظاهرة فن النحت في ساحات بيروت وأسواقها ضمن ما يسمى بـ «الآرت ويك»، فضلاً عن الاهتمام بإدراج أجنحة خاصة لفن التصميم ومسابقة التصوير الفوتوغرافي. فالمعرض يسعى للحفاظ على الروابط الفنية بين منطقة الشرق الأوسط، وأفريقيا الشمالية، وآسيا، التي تتمحور حول مشهدية الفن المعاصر على مفترق بين الشرق والغرب.
يأتي إلينا الفن مستهلكاً لا نعرف لماذا؟ ليس مبرراً أن تنطوي هذه التظاهرة على ضعفٍ ما، بسبب الدعم الهائل للقطاع المصرفي اللبناني والرعاية الرسمية والحكومية وإقبال الغاليريات اللبنانية وتزايد عدد الزوار من عام لعام، بما يكفل نجاح المعرض حتى ولو لم يحظ بزبائن الفن والمقتنين كما يحدث عادة في أسواق الفن الخليجية. إذاً ما الجديد في الآرت فير بنسخته السادسة؟ التزايد الكمي على الحساب النوعي ما خلا بعض الاستثناءات التي تشكل فسحة الأمل الوحيدة للاستمرار. فتزايد عدد الغاليريات لا سيما الفرنسية منها، يشير إلى توسع نطاق المعرض ونموه واتساعه بما يسمح بالتنوع الفني بالظهور أكثر من ذي قبل. في الواقع ليس من متغيرات جذرية كبيرة، فمشاركة الغاليريات العربية هزيلة تكاد لا تذكر باستثناء حضور فنانين عرب من خلال غاليريات لبنانية أو فرنسية، وكذلك هي مشاركة الصين وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، فثمة غاليريات صغيرة ناشئة وأخرى تقليدية وغاليريات أجنبية تقدم ما لديها من أعمال للسوق المفتوح على إعادات لما سبق وتم عرضه من اتجاهات فنية عفا عنها الزمن أو باتت منتهية الصلاحية. لم تعد فانتازيا الفنانة فيفيان فان بليرك تدهش أحداً لفرط ما تكررت، وكذلك الأمر بالنسبة لمعروضات غاليري بيون دار Bouillon d’art الفرنسية التي تتركز دوماً على عرض نماذج من الدراسات الإنسانية، وتكاد تكون لوحات جاكلين ديفرو وجاريز ماشادو أفضل معروضات غاليري روشفيلد في باريس، أما AD galerie في مونبيلييه فهي تعرض لوحات روبير كومباس المعروف بأسلوبه الفطري الزخرفي المشحون بالتفاصيل والعناصر اللونية، في حين تميزت غاليري Bel Air Fine Art الباريسية بنتاج المصور الفوتوغرافي كريستيان فوات Voigt الباحث عن الدهشة، الذي يستكشف في لقطاته مواقع لا تخطر على البال: من داخل قاعات المتاحف إلى داخل المكتبات في الأبنية الأثرية وصولاً إلى خزنة آل كابوني بأقفالها المعدنية التي صوّرها واحتفظ بها قبل أن يتم مسح البناء القديم.
كثيرة هي الأعمال التي تدور في فلك الموجات الجديدة لفن البوب- آرت الأميركي، التي تستمد وجودها من العمل على خامات وتقنيات معاصرة، بأسلوب التجميع أو التلصيق على صفائح زجاجية، كما يظهر في أعمال كلٍ من ايريك ليوت من فرنسا وبرام ريجندرز من سويسرا (ميكي وسلطة الحب). أما البارز فهو Ready made الذي قدمه كريستيان كارل كاتافاغو من الأرجنتين، من خلال الرسم على غطاء سيارة البورش، والجناح الذي فرشته الإيطالية كلوديا سكارسيلا بالزخارف وعلقت على جناح غاليري الأيبروف دارتيست اللبنانية تصاميمها القماشية بخيوطها الذهبية التي حاكت من خلالها الفنانة حكاية اكتشافها لجذورها الآسيوية وحبها لبيروت. من هونغ كونغ شارك الفنان الجزائري رشيد كيمونه بعمل تجهيزي، تحت عنوان «سِلم السلحفاة» مستبدلاً غطاء السلاحف بقبعات تمثل دول السلام العالمي ONU.
ثمة خطى واعدة على صعيد الفنون الرقمية، اقترحها هذا العام باسكال أوديل القيّم على جناح الواقع الافتراضي، وفي الطليعة شرائط الفيديو العائدة للفنانة مارينا أبراموفيتش، وهي من بين أشهر فناني المعاصرة، من سلسلة «المطبخ تكريماً للقديسة تيريزا» العام 2009، التي تم تصويرها غالباً في مطابخ إسبانية وداخل مبانٍ قديمة تضم دوراً للأيتام تعود لعصر فرانكو، وقد عكست الفنانة من خلالها علاقتها بذكريات جدّتها من خلال قراءة مذكرات القديسة تيريزا، في محاولة للدمج بين العالم الروحاني والحياة اليومية البسيطة. إلى جانب تجهيز فيديو اليزابيت كارافيلا وجانيك سايمن قدمت ندين أبو زكي (نحاتة لبنانية) بعداً تفاعلياً جديداً مبنياً على حاسة اللمس التي يضيفها الزائر، إلى جانب حاسة البصر في تأمل العمل النحتي. أما العمل الأدائي الذي فتن المشاهدين، فهو خروف الفنان اللبناني غسان غزال (غاليري جانين ربيز) الذي جال به في أنحاء المعرض ضمن مشروع حمل اسم «فارو Faro: تضحية أم ضحية» ونقش عليه نقاطاً مماثلة لتلك النقاط المحفورة على الشاشة التحسسية للمكفوفين، في موقف رافض للتطرف والذبح والمجازر الذي يتعرض لها الإنسان الذي بات موصوفاً بالغرائزية الهمجية.
مختارات من الفن العربي قدمتها غاليري آرت سبيس الحمرا، أبرزها لوحة للعراقية ليلى كبه وعمل تجهيزي للنحات العراقي أحمد بحراني، الذي تستضيفه الغاليري حالياً في معرض لأشغاله البرونزية، وبرزت صورة فوتوغرافية مميزة للإيرانية ساره نيروباش، ولوحة للفنان السوري سعد يكن موضوعها صخرة الروشة، ومنحوتات معدنية لبسام كيريلوس وأعمال عدة لأبناء الفنان الكبير بول غيراغوسيان، ايمانويل ومانويلا… ولعل معروضات غاليري فادي مغبغب كانت الأكثر جذباً للعين، تتصدرها مناظر تجريدية بريشة الفرنسي ميشال بيلوال. وبين الرسم الجداري وفن التصميم وفن الشارع، نكتشف لماماً موهبة الشاب اليوناني الأصل فوتيس جيراكيس الذي لمع اسمه في الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، في رسم المناظر والوجوه وأيقونات الغناء العربي على جدران المدن التي زارها والأخرى التي ما زالت تنتظر.