إيلان.. ،حنظلة.. ،الواقع العربي العاهر
منذ أيام قليلة،بعثت مياه البحر المتوسط، برسالة إلى الإنسانية.البحر،الذي يطوي حد اللانهائي،كل ملكوت الكون في بطنه،ويتسع جلده لما فوق السماء وما تحت الأرض،وأرعبت أهواله امتدادات الأفق،تعفف أخيرا، أن يطوي طي الكتمان،كي لايساهم في الجريمة، مضغة لحم لا تتجاوز كتلتها حجم اليد الواحدة.يتعلق الأمر طبعا،بالطفل السوري إيلان،أو حامل راية النصر،كما هي ترجمة اسمه من الكردية إلى العربية.
إيلان، لن يكون مجرد صورة فوتوغرافية،بالتالي قصد البحر عمدا،أن لايترصد له واسطة ميتا-لغوية،مهما كانت تشكلاتها، بل أراده فوريا، خاما، وعلى السجية،نقيا نقاء الملائكة، من كل أثر آدمي،سواء صغر أو كبر.
لنفترض في المقابل،أن مصورا محترفا،تواجد لحظتها صدفة على الشاطئ،فانتهت الأمواج بجثة الطفل أمام أقدامه.بالتأكيد، سيكتسيه جنون من هول المفاجأة،وستتقاذفه في اللحظة نفسها،حزمة مشاعر،لن يميز بين بداياتها ونهاياتها،على إيقاع مثيرات الكوميديا السوداء،ومتتاليات القهقهة السيكوباتية، لمّا تنهار الحدود تماما بين الكوميديا والتراجيديا.هكذا،تظل الدلالة واحدة : أن نقول العالم كوميديا كبيرة،أوالعالم تراجيديا متواصلة. سيفرح، صديقنا المصور،لأن تفرده واستباقه إلى التقاط صورة استثنائية،لذلك الهول حتى لا أكتفي بقول الحجم،ربما فتحت له أبواب السبق الإعلامي والشهرة والمال.قد يصير، لا محالة سعيدا،غير أنه بالتأكيد،بعد انقضاء فترة وجيزة، من احتفاله بمردوية اقتياته على آلام كبيرة لصبي صغير جدا،سيكتنفه في نهاية المطاف الشعور بالغثيان الوجودي.
أتذكر، بهذا الخصوص، واقعة الرسام والمصور كيفن كارتر،الذي حاز سنة 1994،على جائزة بوليتزر،كأرقى استحقاق دولي يتوج به التصوير الصحفي.الصورة، التي باعها لصحيفة نيويورك تايمز،فجابت كل العالم،ظفر بها كارتر، دون تحسب أثناء تواجده في إحدى المناطق السودانية،التي كانت تعاني المجاعة بداية سنوات التسعينات،لطفلة منهكة تماما، تحتضر،تتوخى ما أمكنتها قواها الخائرة،أن تزحف نحو مركز لتوزيع الطعام،وخلفها على بعد خطوات قليلة،نسر يلاحق خطاها،مترقبا فقط أن تلفظ أنفاسها الأخيرة،وتغدو جيفة كي ينقض عليها ويفترسها.ثلاثة أشهر،بعد نيله الجائزة،عُثر على كارتر ولم يتجاوز بعد عقده الثالث،منتحرا في شقته،يتوسد قصاصة ورقية،تكشف فقراتها عن عذابات ضميره.
لكن صنيعا كهذا،لايكون دائما مآله جحيما،فإن مصورا ثانيا،هو ألبرتو كوردا،كتب اسمه بماء من ذهب على صفحات التاريخ،دون انتظار منه،عندما أسرع إلى تسليط ومضة آلته المصورة على الملامح الشامخة لإرنستو تشي غيفارا،خلال جنازة تأبينية، وتثبيتها في أيقونة تقارب المسيح،لازالت حتى الساعة تستثمر تجاريا،من لدن الشركات الرأسمالية، بعد أن وظفت ثوريا طيلة عقود، قصد الترويج عبر وقارها الرهيب، لمنتوجات مختلفة،لأنها تخلد للثائر الأممي : “أكثر الناس كمالا في عصره”،كما تحدث جان بول سارتر،عن غيفارا الذي سيجسد إلى يوم القيامة، حلم البشر الأصيل، نحو الحرية والكرامة والانعتاق.
من جهة أخرى،هناك شبه غاية التماثل الاستنساخي،بين إيلان رسالة البحر إلى الضمير البشري،ثم شخصية حنظلة الشهيرة التي خلقها ناجي العلي،بعد هزيمة يونيو1967 :طفولة عربية مسحوقة،أجيال تتوارث الهزائم،من الكبار إلى الصغار، إدارة الظهر للعالم،لدى إيلان وحنظلة،حزنا وخجلا ويأسا وزهدا وتحقيرا للجميع… وكل ماتريده من ذات المعاني في هذا السياق،محاكمة رمزية من هذين الطفلين للنظم العربية الفاشلة التي بقيت تتصابى لعبا بقضايا شعوبها، وإدانة للنخب الانتهازية المنبطحة على بطونها، لتحقيق مآربها الشخصية،لأن الطفولة لاتعرف الكذب أو النفاق، لكنها واضحة وتسمي الأشياء بمسمياتها.أيضا،إيلان في كنهه، لم ولن يكون مجرد طفل سوري،إنه حقيقة زمن الكائن المنتمي إلى الجغرافية العربية،منذ مغادرته بطن أمه،بقدر أن حنظلة لم يبتغ له ناجي العلي قط الهوية الفلسطينية،جازما على لسانه :((ولدت في 5يونيو1967 . جنسيتي :أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا،إلخ،باختصار،معيش هوية ولا ناوي أتجنس،محسوبك إنسان عربي وبس)).
كان حنظلة وسيظل شاهدا أسطوريا، يوثق بحكمة كبار حكماء الصمت، سلسلة ارتداداتنا النكراء،مدليا بأحكامه، وقد أدار وجهه، وعقد يديه خلف ظهره،ولن نتبيّن تقاسيم وجهه،إلا عندما :((تصبح الكرامة العربية غير مهددة وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته))(ناجي العلي).
بدورك يا إيلان،أود أن أقول لك: معذرة ياصغيري، جميعنا أذنب في حقك،وساهم في الجريمة بكيفية ما!طيب، نم هناك يابني في سلام،ثم العب مثلما بدا لك. بينما، سنظل نحن هنا، يحكمنا الأمل، على حد تعبير سعد الله ونوس،رغم بشاعة مايقع.