ترجمة: نجاح الجبيلي
بينما هرب العديد مرعوبين من البشاعات المتزايدة للحرب الأهلية الإسبانية في أواخر الثلاثينات إلا أنّ هناك ثلاثة أزواج – المصورين الفوتوغرافيين الشابين اللامعين “روبرت كابا” و”جيردا تارو”، والكاتبين “إرنست همنغواي” و”مارثا غيلهورن” والموظفين الصحفيين المجتهدين “أرتورو باري” و”إلسا كولكسار”- انخرطوا في النزاع. كما تكتب أماندا فيال في كتابها “فندق فلوريدا” فهم قد خاطروا بحياتهم كي يشكـّلوا مصير الرأي العام.
يُزعم أنّ الأجانب جاءوا بحثاً عن الحقيقة، لكن كما وصف الأمر همنغواي:”من الخطر جداً أن تكتب عن الحقيقة في الحرب، ومن الخطر أن تحصل عليها “. ما بدأ كنزاع داخلي سرعان ما تصاعد. ساند السوفيت حكومة “الأنصار”. ومنعت معاهدة عدم التدخل انكلترا وفرنسا من المشاركة.
ساندت إيطاليا وألمانيا بصورة سرية ثوريي فرانكو إذ أن هتلر اختبر ستراتيجيات القصف التي سيستعملها فيما بعد في بولندا. لكن المعارك القاسية التي تلت واستمرت ما يقارب الثلاث سنوات وقتل فيها ما يقارب 400000 شخص، كانت أيضاً الأولى التي غطاها المراسلون من الخنادق – إذ منعوا خلال الحرب العالمية الأولى من الوصول إلى الجبهة- كما تشير إلى ذلك “فيل”.
سواء أثملهم التقارب أو أغرتهم الشهرة الوشيكة أو الالتزام المضاعف بالقضية فقد انخرطوا متحركين جيئة وذهاباً ما بين باريس ونيويورك أو موسكو والجبهة، مكتسبين بالتملق العقود والتأشيرات والإجازات الصحفية التي تجيز لهم العودة إلى الحرب.
وكلهم عبروا الممرات إلى “فندق فلوريدا” الراقي في مدريد إذ القذائف تنفجر وتهز حيطان الحجر، والبواب “دون كريستوبال” يجادل حول مجموعة طوابعه خلف طاولة الاستقبال.
تتنفس الشخصيات المفتونة عبر صفحات “فيل” بينما هي تنجرف في إحدى المرات عبر تلك الردهة كما فعلت في سيرتها عن الزوجين “سارا وجيرالد ميرفي” ومجموعتهما المتألقة “كل شخص كان يافعاً جداً” التي بلغت القائمة النهائية لجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطني. في اسبانيا التي مزقتها الحرب، كانت مرة أخرى في مجالها إذ تخب عبر المكائد التي جعلت العالم يتحول.
من باريس جاء المهاجر الهنغاري “آندريه فريدمان” الذي يبلغ 22 عاماً بشعره الأشعث وجاكيته ذي الجلد القديم وكاميرته نوع “ليسا” جاهزة ساكنة وحول اسمه إلى روبرت كابا ، وهو “مصور أميركي غني ومشهور”. صديقته البولندية الأنيقة التي اسمها “جيردا تارو” تستخدم كاميرا “رولفلكس” ببراعة وتتسوق التنورات الضيقة والكعوب العالية لبدلات العامل والخف التقليدي من النعل المفتول.
في أيام الخنادق البطيئة نسقوا مشاهد زائفة للمعركة التي أنتجت أحد أبرز الصور في العالم: صورة صورها كابا لجندي وهو يقتل برصاصة قناص خلال حصار ممسرح محولاً “السخرية الشديدة إلى واقع” كما تكتب “فيل”. إلا أن ما شاهدوه بشكل متزايد كان حقيقياً ومفزعاً تماماً. تحولت مدريد وبرشلونة إلى “مشهد لم يره أحد من قبل”. فضاء الحرب المألوف الآن للسيارات المحترقة والبنايات المتفجرة مفتوح مثل “بيوت دمى ذات حجوم مفرطة”.
وبينما الرصاص يئز والقنابل تتساقط بقي كابا في الثغرة وظل يصور “عملاً متجهماً لكنه ضروري له”. توثق فيل كل الوثائق التي جاءت من خلال عدساته- الغارات الجوية وصفوف المهاجرين والأطفال المقتولين وأمهاتهم الباكيات – كما أن رؤية كابا الجريئة تعيد تحديد تصوير المعركة الفوتوغرافي:”مضبباً ، فوضوياً، مؤطراً بشكل مقطع، فورياً، مروعاً، تلك كانت صوراً لما كانت عليه الحرب”.
تدعو “فيل” كتاب “فندق فلوريدا” “بناءً معاداً” مؤسساً على الرسائل واليوميات والسّير والدليل المصّور الذي ترسم صورة جماعية مثيرة بدلاً من تقديم تحليل نقدي، تعتمد على حكايات بحث متقنة كي تروي القصّة وهي تجد متعة بالغة في حدّة التفاصيل التي ينيرها المصباح النابض: وكر المدفعي المصنوع من الكتب المنهجية المكدّسة؛ المتراس المبني سريعاً من حقائب السفر من مكتب الأمتعة ؛ المهاجرون الذين يضعون الماعز وكل شيء في الصالونات المموهة بالذهب لبلاثيوس مدريد؛ الطرد الوردي المتروك في الشارع بعد مقتل مالكته؛ جثتها تنقل في عربة؛ كتابة فيل خفيفة، فورية ومباشرة وحميمة. واللقطة الممزوجة بالحب والكره عن همنغواي الذي جاء من “كي وست” متأخراً عن طريق باريس ومعه كل مخزون لحم الخنزير المعلّب منتظراً وصول المراسلة الشقراء الشجاعة التي عمرها 28 سنة “مارثا غيلهورن” مصنوعة من أجل قراءة مدهشة.
كان يدعوها “موكي” وتسميّه “سكروبي” وحجزا غرفاً قريبة؛ لكن بالنسبة لهمنغواي، حتى قضية الزواج يمكن أن تتنافس مع ما دعاه “القتال المدهش من بيت إلى آخر”. لعب المستشارون السوفيت “الأنصار” به مثل الكمان، ودعوه إلى الغرف المليئة بالدخان “المتخمة بالناس الذين يجعلون الأمور تحدث” كما تكتب “فيل”. حتى أنهم سمحوا له أن يطلق النار على أهداف بالبندقية القناص. “كل شيء كان محسوباً لجذب حبّ همنغواي في أن يكون على المسار الداخلي، وأن يعرف ويمتلك الأمور التي لا يمتلكها الآخرون، والتي لا يمكنه أبداً التكلم حولها”. كما أملوا، كانت مراسلاته تمجّد قضية “الأنصار”. وما أن يتم الانتهاء من الكتابة، حتى يتسلى ويقدّم الويسكي ويدّور أسطوانات موسيقى “شوبان” لزملائه المراسلين، والآمرين السوفيت، والأمريكان الذين يقاتلون في كنيسة “إبراهام لنكولن” التابعة إلى “الألوية الأممية”، كلهم ثملون من أجل الصداقة الحميمة.
تكتب “فيل” بأنهم يدورون من مشرب “ميامي” إلى “جيكوت” الذي قدمت فيه فتاة من دائرة الصحافة عرضاَ للتعرّي سمته “أرملة الجنرال مولا”. في الوقت نفسه، كانت “غلهورن” يرافقها الكثير “مثل جميلة حفلة الأوبرا في عطلة نهاية الأسبوع ” وتقضي وقت التسوّق في شراء المناديل والأحذية المصنوعة يدوياً ورداءً فضياً مصنوعاً من جلد الثعلب مشمئزة من الضجيج والطعام مفجرة صمامات الفندق بسبب سخانها الكهربائي.
كانت اسبانيا المكان المناسب. بعض الكتاب كانوا مؤمنين صادقين بالقضية مثل إيلين بلير (جورج أورويل). كان الآخرون مسافرين يوميين يحضرون المشاهد الرهيبة. قصفٌ مبكر على “فندق فلوريدا” جعل من “جون دوس باسوس” عاري القدمين والكاتب الفرنسي الطيار “أنطوان دو سان أكزوبري” أن يقدما “الجريب فروت” الطازج إلى كل امرأة هاربة. وصلت “ليليان هيلمان” وظهرت “دوروثي باركر” بقبعة وردية مدهشة. ثم جاء “لانكستون هيوز” إضافة إلى “أيرول فلاين”.
توضّح “فيل” بأن الموظف الرئيس في مكتب الصحافة في مدريد ” أرتورو باري” كانوا بالنسبة إليه “متواضعين واثقين بأنفسهم” رأوا “قتال بلده حدّ الموت كمجرّد قصة أخرى”. مع ذلك، وبجنب المندوبة النمساوية وعشيقته “إلزا كولسار”، عضو الحزب الاشتراكي المخلصة، اعترف “باري” بالإلحاح على إظهار تلك القصة ولم يترك مركزه أبداً.
بالطريقة نفسها فإنّ وصف “فيل” للحرب وشاهديها المتطوعين يلبي حاجتنا للسرد في مواجهة القسوة – شيء يتجاوز الدعاية، وأحياناً، هو ضروري مثل الغذاء والملجأ. في الختام فإن الإيمان بالحقيقة وقوة القصة أنقذتهم كلهم تقريباً. تارو، المعروفة لدى “الألوية” بـ”لا بيكوينا روبيا” الشقراء الصغيرة سحقتها دبابة متقدمة فماتت في السادسة والعشرين. مع ذلك فهي “تطورت” مع الآخرين في الجبهة. بينما قال أحد معارفها:” حين جاءت هنا كانت امرأة طفلة تعبث في الحرب، أصبحت مقاتلة ضد الفاشية”. استمرّ “كابا”، رغم محنة الفقدان، ليصبح أحد أشهر المصورين الفوتوغرافيين في العالم.
برزت “غلهورن” أيضاً كنجمة، وكتابتها تدور حول “السلطة والقسوة” التي أفادتها جيداً بينما كانت الخلافات تنتشر في أوربا. (فيما بعد تزوجت من همنغواي وأعلنت النبأ في يوم غزو نورمندي وأخيراً حصل الطلاق بينهما).
غير أنّ الحرب الأسبانية بالنسبة لهمنغواي أنجزت الوعد. كان ثمة “أمر ديني تقريباً يتعلق بها” كما لاحظ صديقه القديم سكوت فتزجيرالد. حين تلاشى الدخان وشفي من دوره كمرّوج، ذهب إلى “هافانا” وجلس إلى طابعته الملكية وبدأ رواية “لمن تقرع الأجراس”. كما يروق له القول:” كل ما تحتاجه أن تكتب جملة واحدة صادقة. اكتبْ أصدق جملة تعرفها”.