طقوس غزاوية في جعبة هلال رمضان
لمحتها من بعيد وهي تقف حائرة أمام بسطة الفوانيس المقامة في سوق الزاوية بالقرب من ميدان فلسطين (الساحة) تَرددتْ قليلاً قبل أن تُقبل عليها وفرحتها كانت واضحة على وجهها الخمري وعينيها الواسعتين ثم وقَفتْ أمام تلك البسطة واشترت فانوس رمضان وكأنها امتلكت جوهرة ثمينة خاصة بها، تلك هي الطفلة وردة ذات العشر ربيعاً والتي لم تصبر حتى تعود إلى منزلها لكي تسمع ما ينشد الفانوس بل باشرت أمام البسطة الصغيرة بوضع أحجار البطارية داخله، ثم نشد الفانوس أمام مرأى ومسمع جميع المارة والباعة والمتسوقين الأغنية الشعبية المعروفة (حالو يا حالو .. رمضان كريم يا حالو).
يهل علينا شهر رمضان من كل عام وفي جعبته الكثير من العادات الرمضانية الموروثة عن الأجداد، فمع الإعلان عن ظهور هلاله تُزين شوارع مدينة غزة والمآذن بالأضواء وتعلو الابتهالات ويلهو الأطفال بالفوانيس التي تعتبر موروث تاريخي عند العرب ومن أحد الطقوس المميزة التي تحل علينا كل عام من شهر رمضان الكريم، هذا الشهر الذي يشهد التلاحم الأسري وصلة الرحم والمودة والألفة بين الأقارب ويلتئم فيه شمل كافة الأسر خاصة عند اقتراب موعد آذان الإفطار وعند السحور، حيث أن الإفطار فرحة عامة للجميع بعد صيام ساعات طويلة والصائم تكون له فرحتان، الفرحة الأولى عند ربه والثانية عند إفطاره.
كما أن شهر رمضان الفضيل يقوي الترابط والتكافل الاجتماعي ويزداد فيه قرب المؤمن إلى ربه وذلك من خلال تردده الملحوظ على المساجد خاصة وقت صلاة التراويح وليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر.
ويلعب المسحراتي الدور الهام في شهر رمضان لإيقاظ الغافلين عن السحور، فالسحور سنة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فللمسحراتي كل الاحترام .. عندما ينشد ويقول (اصحي يا نايم وحد الدايم).. توجهت في ساعات الصباح الأولى إلى سوق الزاوية والذي يعتبر عبق الحضارة والتراث في مدينة غزة ورسمت بعض الصور والمشاهد القلمية في هذا الشهر الفضيل.
وأنا أسير بين زحام المواطنين شد انتباهي بشكل كبير الحشد الهائل من المواطنين المتجمعين أمام أحد محلات القطايف المشهورة في سوق الزاوية بغزة، هذا المحل الذي لا يكل ولا يمل منذ الصباح الباكر حتى موعد رفع آذان المغرب، فالأطفال والنساء والشيوخ يتوافدون تجاهه؛ فمنهم من ينادي ويقول: كيلو ونصف قطايف وآخر أربعة كيلو.. وطفل صغير يزاحم الحشد الهائل بصعوبة ليقول للبائع “يا عمو بدي نص كيلو قطايف عصافير”,, اقتربت أكثر لأراقب عن كثب مشهد اكتظاظ المواطنين وحتى أسترق بعض النظرات لهذا المحل الذي يعج بالزبائن، فصاحبه كان مشغول كثيراً بصب عجينة القطايف على الصاج الساخن.
حيث أن القطايف تباع فقط في شهر رمضان أما في غير شهر رمضان فلا يكون لها النكهة الخاصة بها لأن المواطنين لا يتقبلونها إلا في هذا الشهر الفضيل.
سوق الزاوية هذا السوق العريق يتألف من أكثر من 30 حانوتاً أو دكاناً ويوجد في كل حانوت اللوازم الرمضانية لهذا الشهر الفضيل وجميع الأغراض البيتية وكافة أنواع الأجبان من جبنه صفرة وبيضة والكشكوان والحلاوة وكافة المكسرات الخاصة بالقطايف، إضافة إلى تمر هندي، قطين، سوس، خروب، قمر الدين، فريكة، حمص، جوز، لوز، جوز الهند، وجميع مكسرات القطايف؛ وكافة أنواع الخضار والفواكه واللحوم ويكفي رائحة البهارات والتوابل التي شدتني للتمعن بأصنافها العديدة إضافة إلى رائحة العطور والمسك.وبينما كنت أتجول بين أزقة هذا السوق أحد أشهر أسواق المدينة لأعيش الأجواء الرمضانية الجميلة وجدت مجموعة من المصورين يلتقطون بعض الصور لمحل فوانيس حيث يخصص صاحبه أبو محمد محله لبيع الفوانيس منذ سنوات طويلة ويعرض أحدث الموديلات الجديدة والألوان الجذابة كان محله الصغير يعج بالأطفال المتوافدين لشراء فوانيس رمضان التي تعتبر بهجة الأطفال في هذا الشهر الفضيل وليشاهدوا الألوان الجذابة وسماع الأناشيد الرمضانية التي ينشدها كل فانوس، وبعد برهة من الوقت أتت طفلة صغيرة إلى هذا المحل وطلبت من صاحبه فانوس لها لونه أحمر ولأخيها لون أزرق…
هذا ولم تمنع الظروف الاقتصادية الصعبة في قطاع غزة بعض الأطفال الغير قادرين على شراء فوانيس رمضان من استراق بعض النظرات للفوانيس الملونة المعروضة في محل أبو محمد.
ورغم انتشار القنابل الصوتية الحديثة المخصصة للأطفال للعب فيها إلا أن للفانوس رونق خاص به كونه معروف منذ حوالي 500 عام عندما دخل على العالم الإسلامي الفانوس الرمضاني وعُرف مع بداية العصر الفاطمي في مصر، ففي يوم 15 من رمضان سنة 362 هجريّة 972 م وصل المُعزّ لدين الله إلى مشارف القاهرة ليتخذها عاصمة لدولته، وخرج سكانها لاستقباله عند صحراء الجيزة ومعهم الفوانيس الملونة والمضيئة، حتى وصل إلى قصر الخلافة، ومن يومها أصبحت الفوانيس من مظاهر الاحتفال برمضان ومن الشعائر الهامة.
في النهاية أقول إن كل شيء في رمضان له طعم آخر حتى طعام الإفطار فمع ثبوت هلال رمضان من كل عام تعم الفرحة قلوب الجميع فهو شهر له طابعه المميز ورونقه الخاص بطقوسه الغزاوية التي يحملها لنا الشهر الكريم في جعبته وبعاداته وتقاليده التي نسترجعها دوماً عبر شريط ذكرياتنا والتي تبقى أجمل ما ننتظره في هذا الشهر المبارك من كل عام؛ وهنا توقفت حواسي كلها وأنا أردد بدهشة وفرح (كم أنت رائعة وجميلة يا غزة, فرغم الألم غزة استقبلت رمضان بالأمل)..
فكل عام وحبيبتنا غزة وأنتم بألف خير..