بقلم: الفوتوغرافي محمود المحمود
“التجريد” في التصوير هو تصوير أشياء أو ظلال أو ألوان متشابهة الأشكال أو الخطوط لأجسام (مستقيمة أو منحنية أو متعرجة) مُرتبة بشكل لافت يخلق لوحة فنية جميلة.
ولا توجد معايير خاصة أو سقف معين لهذا الفن عالميًّا، ولو كانت له معايير خاصة وجب الالتزام بها، أو سقف معين يصطدم به الفنان؛ فسيجعلان هذا الفن يخرج من محاور التصوير، ولا يمكن أن يكون فنًّا طالما تقيد وتقنن.
ويجب أن يظل فن التجريد الفوتوغرافي مفتوحًا على ما هو عليه، ولا يلتزم الفنان بعدد الخطوط أو التدرجات أو الألوان أو الظلال أو المنحنيات أو التعرجات أو الدوائر أو شبه الدوائر أو الأشكال الكروية أو البيضاوية أو المخروطية أو المربعات أو المعينات أو المثلثات متساوية الساقين وغير متساوية الساقين.. إلخ. ويجب أن يكون أمام الفنان متسع كبير من المساحة اللامحدودة لتسمح له بالتفنن.
وقد تكون الصورة المجردة زهرة أو زهورًا أو عمارة أو عمارات أو مزرعة (محروثة بشكل غير معتاد)، وقد تكون أعمدة كهرباء أو طابور سيارات أو أي شيء يوحي بالتكرار.
إن تكرار الأشياء ليس بالضرورة أن يكون جميلاً. كما يلاحظ في الصورة التالية، فقد تواجد فيها عنصران مختلفان من حيث الحجم فقط:
هذه فخاريات (جِرار) بأحجام مختلفة، وتعمدت أن تكون خطوط الترتيب قطرية على غير ما يتخيله العقل للوهلة الأولى، إذ يتخيلها عمودية أو أفقية.
يجب توضيح جميع محتويات الصورة من أبعد نقطة إلى أقربها. ولا نستعمل هنا عملية الوضوح لمناطق معينة والإخفاء أو جعلها ضبابية في مناطق أخرى، حيث لا حاجة لإخفاء أي جزء منها.
قد نصور شخصًا ونحتاج لإخفاء كل ما هو خلفه حتى لا نشتت ذهن المشاهد عن الهدف الرئيسِ، بينما نريد في صورة التجريد إظهارها بالكامل، فهي مكملة بعضها لبعض، وبحاجة لوضوحها من أقصاها إلى أقصاها.
ومن الممكن أن نستعمل الانعكاس كجزء مكمل للصورة التجريدية:
الزجاج وانحناءاته المختلفة شيء جميل، والانعكاس داخله أيضًا أضفى على الصورة جمالية أخرى، إذ صادف أن يكون تجريديًّا خالصًا، وهذا يجعل الصورة أكثر تكاملاً.
نلاحظ أن كثيرًا من الأشكال الهندسية قد تكونت ما بين مربع ومعين ومثلث وخطوط مستقيمة وخطوط منحنية، ما يؤثر على الصورة إيجابيًّا.
وقد تسيطر على الصورة الأقواس بأشكالها المختلفة:
الأقواس تسيطر على معظم الصورة لتأتي الخطوط المستقيمة فتعارض ما ألِفته العين، وهذا يضيف إثارة للناظر تؤثر إيجابًا على الصورة.
وأرجو ملاحظة أن القوس الذي اصطدم بأعلى الصورة قد ظهر معظمه، أي أكمل منظر القوس لنتفادى إرباك العين بكثرة القص وإخلال توازن قوس البداية لأهميته الكبرى في توازن الصورة.
كما نلاحظ أن الأعمدة التي صادف وجودها على أطراف الصورة من الميمنة والميسرة قد ظهرت كاملة مع بعض الفراغ، وهو لنفس السبب السابق.
هاتان الملاحظتان تطبقان على جميع أنواع التصوير وليس التجريد فحسب، غير أنه يجب في الطبيعة ترك مساحة أكبر على جوانب الصورة.
وهذه صورة أخرى مشابهة للصورة السابقة ولكن بزاوية قد تبدو مختلفة:
الأشكال الهندسية في كل أنحاء الصورة، ورغم اختلافها، إلا أنها تكمل بعضها في لوحة فنية جميلة، والأشخاص في الصورة يجب ألا يسيطر وجودهم على الصورة.
قد نجد التجريد في النباتات كما هو في الصورة التالية للصبار:
وسوف يكون شيئًا لافتًا إذا وجدنا شيئًا ما فيه شذوذ عن باقي أجزاء الصورة. والصورة التالية تجسد ذلك بشكل واضح:
في العادة، نتوقع أن نرى خطوطًا متناسقة لأبعد حد، أما الشذوذ فيها، فهو ما يجعله محورها الرئيس، ويحبذ أن نبحث دائمًا عن كسر هذا الروتين فيما يخالفه، شرط أن يضفي جمالاً جديدًا للصورة، وليس إضافة الشذوذ من أجل المخالفة فحسب.
في الصورة التالية، تشكلت الكثير من الدوائر من أمور مختلفة، صادف أن تواجدت بهذا المكان:
وها هي لوحة جميلة أضفى التجريد عليها كل هذا الجمال رغم بساطتها. إلا أن هذا التجمع اللافت للغاية لكل هذه الدوائر له الفضل الأكبر بإخراج هذه اللوحة الى حيز الوجود الجمالي.
وليس بالضرورة أن يكون الجمال أو التجريد بالدوائر، فقد يكون في غير ذلك، ويدخل شيئًا من الجمال، كما في الصورة التالية:
إن معظم الخطوط التي فيها قطرية ومتعارضة تمامًا لبعضها، وهذا شكل جمالية هندسية، فيما شكل الجرس الكبير إضافة لبعض الشذوذ لكسر روتين تلك الخطوط.
ومع أن الخطوط القطرية في زوايا الصور تسبب إزعاجًا للناظر أو تنقص من جمالها، إلا أنه في هذه الحالة لم تتأثر هذه الصورة به، بل زادها جمالاً.
الدرج بحد ذاته تجريد، ولكنه قد يكون مجردًا من الجمال، وإذا أحسنا اختيار توقيت تصويره، فقد يكون شيئًا مميزًا، وبجمالية تدخل السرور إلى القلب:
هذا منظر جذاب، وكل ما فيه يوحي بالتجريد؛ من الدرج حتى أوراق الخريف التي كونت لوحة تروق لناظرها.
وليس بالضرورة أن تكون أوراق الخريف ما يحيل إلى التجريد أو يبرزه، فقد تكون أشكال هندسية رسمت على كل درجة، وقد تجدها على حائط بُني على طريقة الفن المعماري الإسلامي، حيث تجد فيه كل ما هو جميل من الأشكال الهندسية الباهرة الشكل والدقة، وكذلك الزجاج “المعشّق” الذي يكثر استخدامه في شبابيك الكنائس، لتشكل أجمل اللوحات التجريدية.
ونلاحظ في الصورة التالية كيف شكلت أوراق شجر القيقب الجميلة صورة تجريدية رقيقة:
لقد كانت الساحة بالكامل مغطاة بأوراق الخريف، وأردت الخروج بصورة بعيدة عن “السجاد الطبيعي”، فخرجت بصورة تجريد بألوان جذابة من على هذا الجذع.
والصورة التالية هي جزء من “شمسية” قمت بتصويرها من الداخل في جو مشمس، ما أثر إيجابًا على لون الصورة:
خطوط في كل الاتجاهات وتغلب القطرية عليها، وفي نهاية الأمر شكلت لوحة تجريدية جميلة، ويلاحظ أنه رغم قرب الشمسية للكاميرا، إلا أن الوضوح يعمّ جميع أبعاد الصورة. إن جعل الأجزاء البعيدة ضبابية يضر بالصورة ولن ينفعها أبدًا.
ومن الممكن الحصول على صورة تجريدية ليس من داخل الشمسية، بل من خارجها أيضًا:
ها هي لوحة فنية زاهية بألوان مختلفة وجذابة، ولكن الشكل الخارجي لها شكل لدينا لوحة تجريد. وكما يلاحظ، فلم تكتمل أي شمسية منها، فنحن هنا نبحث عن الجمال وليس عن صورة توثيقية تبين لنا أن البضاعة سليمة ولا ضرر فيها نخفيه على الزبون.
وكما يمكننا استخراج التجريد من جزء من شيء ما كالشمسية، فإن بإمكاننا أن نستخرجه أيضًا من زهرة:
هذه أقل من نصف زهرة تشكلت ببتلاتها لتكون لنا صورة تجريدية، واللون الأحمر في العادة يلفت النظر لحدته الواضحة.
لو تمكنت من إدخال جزء من حشرة تكون مختبئة بين البتلات، وظهر رأسها، فسوف يجعلها صورة أكثر قوة.
لكن حين يتم تصويرها بالحشرة مع فتح العدسة على مصراعيها، فلن تكون صورة تجريدية بأي حال من الأحوال، لأن مقومات الصورة التجريدية التي كانت ستحول الصورة الى تجريدية غابت عن المشهد، لتبقى صورة مجهرية (Macro) فحسب.
فحوى الكلام: يجب ألا يكون أي جزء منها ضبابيًّا، بل واضحة المعالم بالكامل.
الصور التالية تمثل الصور التجريدية التقليدية خير تمثيل:
قوارب تصطف بشكل مرتب وجميل ولكنه ليس بالمنظر الغريب، إذ يمكن ملاحظة وجوده بجانب أي نهر أو بحيرة سياحية.
لحاء شجرة صنوبر معمرة (يقدر عمرها بمئتي عام)، شكلت عليها هذه التشققات لوحة رائعة. وهذا المنظر ليس بغريب، فهو متوفر في كل الغابات والحدائق القديمة.
وهذا حائط مانع للانهيارات الجبلية مكون من الحجارة الكبيرة، وقد كسته الطحالب الرطبة التي ضربها الصقيع وجعلها بيضاء.
المنظر مألوف ويمكن للجميع تصويره ببساطة، غير أن الطحالب قد لا تكون غطت الحجارة في الوطن العربي، إلا ما ندر.
ان تشققات الجبال، سواء كان ذلك بفعل البراكين والزلازل، أو بفعل الانهيارات الجبلية التي تسببها عادة مياه الأمطار أو الزلازل القوية، تترك خلفها لوحات تجريدية تشعرك بعظمة وقوة الخالق (سبحانه وتعالى):
فهذه التشققات بفعل البراكين، تركت أشكالاً وخطوطًا ومنحنيات تكفي لميلاد صورة تجريدية.
وبفعل الانهيارات، هذه لوحة جميلة وقوية.
في العادة، يمكننا استخراج صورة تجريدية من النباتات والأشجار، وبتنوع كثير، وذلك لكثرة أعدادها وأنواعها. دعونا نلقي نظرة على بعضها:
أوراق نبتت على جذع شجرة، ومع وجود الظل، تضاعف عددها، فتشكلت هذه اللوحة التجريدية.
وهذا أيضًا من النباتات (نوع من أنواع الصبار) يأخذ هذه الأشكال الجميلة.
وهذا أيضًا صبار تتكرر فيه نفس النبتة حتى تتشكل لوحة تجريدية جميلة.
وهذا جزء من نبتة مثلت الصورة التجريدية خير تمثيل.
إن البحار وشواطئها فيها الكثير مما يستحق التصوير، ويمكنه تمثيل الصورة التجريدية وبكفاءة عالية مع جمال رفيع المستوى:
المد والجزر يتركان هذه البرك الجميلة في وقت معين، فإذا صادف هذا التزامن مع الشروق أو الغروب، كما في هذه الصورة والصورة التالية، فإنه يشكل صورة تجريدية زاهية وبديعة.
أشكال هندسية متعددة تشكلت مع كل لون فيها، حيث الشروق ساعد كثيرًا على إيجادها فكونت منظرًا بديعًا.
هذا الشاطئ سقطت عليه شمس الغروب فاستخلصت منه هذا الجزء الجميل حين كان يأتي الموج لأعلى منطقة من الشاطئ، وعندما يعود كان يترك خلفه الرمال المبللة التي أثرت عليها أشعة الشمس فظهرت بهذا الجمال.
والصور الليلية فيها الكثير من التكرار الذي يولد الصورة التجريدية:
مصابيح على شجرة عيد رأس السنة كانت تلمع كالبلور، فضيقت العدسة حتى أحولها من دائرية إلى أشكال هندسية ثمانية.
أشجار عيد رأس السنة كانت لوحة جميلة خاصة أنها تمثل التصوير الليلي والتجريد في آن واحد.
إن عالم تصوير التجريد واسع كما أسلفنا وبينا، وكل ما يحتاجه المرء هو حضور قوي أثناء التصوير حتى يتمكن من استخلاص المنظر الجذاب من أماكن غير متوقعة.