خاطرة ( 12 ) في عصر التراكمات –
التراكم في الفن :
الفنون أنواع كثيرة كانت أقل عددا قبل الثورة الثقافية العالمية في القرن العشرين
– فتفرع من كل فن عدة فنون – وصار من الصعب عدها أوحصرها :
ويشكل الإبداع عمودها الفقري المشترك – فبدونه يبقى العمل الفني عملا عاديا – والمبدعون في كل أشكال الفنون يشكلون نسبة ضئيلة جدا من عدد العاملين فيها – فليس كل من رسم لوحة – أو عزف لحنا – أو لحن قطعة موسيقية – أو غنى أغنية – أو نحت تمثالا – أو صور صورة فوتوغرافية – أو صنع لوحة زخرفية – أو قام بتمثيل دور في فيلم أو مسلسل – أو أخرج مسلسلا أو فيلما – أو قام بالإشراف على تصوير عمل فني – يسمى فنانا مبدعا !!
والتراكم يظهر في موضوع الفن في أجلى صوره أكثر من ظهوره وتأثيره في أي مجال من مجالات الحياة :
فقد يتقن عازف عزف أغنية أو مقطوعة موسيقية ويسمعك لحناً صحيحاً لا خطأ فيه ؟
بينما لو أعاد عزفه مئات المرات بل آلاف المرات لسمعت شيئا يحرك مشاعرك وأحاسيسك ( وهذا هو الإبداع ) وقد حصل نتيجة تكرارات لا عد ولا حصر لها ؟
وهذا ينطبق على الرسم فمن لا تتجاوز الرسوم التي رسمها العشرات ليس كذاك الذي رسم آلاف اللوحات المسودَّة منها – أو اللوحات الفنية التي تم عرضها أو هي جاهزة للعرض ( وطبعا سبق ورافق ذلك مشاهدته لأضعاف ذلك من اللوحات – وشارك معلِّميه أو مدرِّسيه وزملاءه في عمليات النقد لمعرفة مكامن الضعف أو القوة في أعمال غيرِه الفنية – أو حتى أعماله هو بالذات ؟
وكذلك في مجال اللحن فكلما كانت آلافٌ عدة – بل عشرات الآلاف من الألحان متراكمةٌ مختزنةٌ في ساحة اللاشعور في رأس الملحن – كلما كان الإبداع ممكناً أو غزيراً – وربما لا يكون كذلك دائما فقد يحفظ آلاف الألحان لكنه لا ينجح في تلحينٍ يمكن التفاخر به , وذلك تبعا لمقومات أساسية يجب توفرها إضافة للتراكم – منها الإلمام بقواعد الموسيقى من أنغام وإيقاعات – وتوفر المقدرة على النقد – حيث لا بد من شرطي : جدة اللحن : وعدم طرقه من قبل غيره من قبل –
إضافة الى جماله وإدخال الفرح والسعادة في نفس سامعه – فعندما يكون اللحن معروفا من قبل فلا تكون الملكية للملحن الجديد لأنها ملك لمن سبقه إليه ؟
كما أن لحنا جديدا ركيكا لا يحرك الأحاسيس لا فائدة منه –
وهكذا تكون شروط عديدة يجب أن تكون متوفرة من اجل إبداع اللحن أهمها توفر الهواية والدافع – مقرونة بوجود الموهبة – مقرونة بحد أدنى من معرفة قواعد الموسيقى خاصة في الأنغام والإيقاع –
ويكون العمود الفقري للتلحين هو التراكم وحفظ آلاف الألحان في العقل الواعي واكثر منها في العقل اللا واعي ( اللاشعور ) – مضافٌ إليها قدرة الملحن على النقد والقدرة على التقييم لمعرفة جدة اللحن وجودته وجماله في آن معا – حيث إن توفر واحدة فقط من الثلاثة : الجدة – أو الجودة – أو الجمال – تعني عدم وجود اللحن اصلا ؟
وما ذكر في مجال التلحين يمكن تعميمه على كل أشكال الفنون وما عليك إلا أن تستبدل كلمة اللحن والموسيقى بأي فن من الفنون حتى تصل إلى وصف لطريقة الإبداع في ذلك الفن – والعامل المشترك بين كل الفنون هو التراكم الكبير التدريجي والطويل والمستمر لأعمال فنية يجب أن تسبق الإبداع ؟
وجميع من يمتلكون الهواية والرغبة يكون الدافع عندهم متوفرا وقد يمتلكون قواعد علم ذلك الفن – وقد تكون لديهم تراكمات كبيرة وتجارب كافية – كما تكون لديهم خبرات في مجال النقد والتقييم – فقد يجعل منهم ذلك نقادا جيدين , أما عملية الإبداع فان لها شرطا أساسيا وهو الموهبة أو النبوغ ؟
والموهبة والنبوغ يخضعان لقانون نسبية النبوغ : فليس كل ممارسي أي عمل فني قادرين على الإبداع الحقيقي فيه –
فمن بين كل عدة آلاف ينبغ واحد في ذلك المجال نبوغا حقيقا – وكلما كان الإبداع راقيا كلما ارتفعت النسبة إلى مئات الآلاف أو الملايين فنسبية النبوغ لظهور مخترع أو عالم مبدع كبير – أو موسيقار يبدع مقطوعات عالمية تكون محصورة بين مئات الآلاف أو الملايين –
وعندما يصغر عدد المتنافسين على الإبداع تكون نسبية النبوغ أقل احتمالا في الوقوع – حيث تكون بين عشرات الآلاف من العاملين في ذلك المجال فقط مما يحد من ظهور النوابغ ؟
وهنا أذكِّر أهلي في موريتانيا أنهم في عدم إشراكهم كل الشعب الموريتاني في اكثر الفنون وخاصة الموسيقى التي يحصرون ممارستها في فئة اجتماعية هي الإيغاون – والرسم والزخرفة والصناعات التقليدية في فئة اجتماعية هي المعلمين – وهم بذلك يتجاوزون نظرية نسبية النبوغ مما يؤدي إلى تخلف هذه الفنون وعلى رأسها الموسيقى ؟
وقد قدمت لهم هذه النصيحة منذ أربعين عاما وما زلت اكررها كلما سنحت لي الفرصة بذلك – وقد حصل بعض التطور الخجول لكنه مازال لا يصل إلى الحد الذي معه يمكن أن يشارك كل الشعب في كل الفنون ؟
وما زال موضوع التراكم في الفن مقصرا فليس هناك من يحفظ ألحانا وأغان إلا ما ندر وبكميات قليلة – رغم انه تحرك في مجال الرسم والتصوير والى حد ما في التمثيل والخط والعزف ؟
مع تمنياتي أن أجد موريتانيا مثل أخواتها العربيات في كل الفنون كما في كل العلوم ؟
والى خاطرة قادمة في تراكم جانب آخر من جوانب الحياة , استودعكم الله على أمل اللقاء بكم بإذن الله ؟
دمتم للفنان الباحث فريد حسن