العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى:

*تقديم: حمدي سيد محمد محمود

**مشاركة: هناء ظفور

“في عصر ما بعد الحداثة، لم يعد انهيار السرديات الكبرى مجرد تحوّل فكري أو معرفي، بل أصبح تجربة وجودية يعيشها الإنسان يوميًا.

فقد أسقطت العقود الأخيرة، بفضل التقدم التكنولوجي والتغيرات الاجتماعية،

كثيرًا من الأطر التي كانت تمنح الحياة معنى متماسكًا، مثل الأديان، والأيديولوجيات السياسية، والمذاهب الفكرية الكبرى.

وأصبح الإنسان يواجه عالَمًا بلا مركز، حيث لا توجد حقائق مطلقة ولا غايات كونية، بل تعددية متطرفة وانفتاح غير محدود على كل شيء، مما أدى إلى تفشي أزمة المعنى.

العدمية الرقمية وتآكل اليقينيات

في هذا السياق، ظهرت العدمية الرقمية كوجه جديد للمأزق الوجودي للإنسان المعاصر. لقد خلقت الثـ. ور . ة الرقمية عالَمًا تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقي والافتراضي،

وبين الواقعي والوهمي، حيث تتدفق المعلومات بلا نهاية، مما يجعل أي محاولة للتمسك بمعنى ثابت أو رؤية متكاملة للحياة أمرًا شاقًا.

الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وثقافة الاستهلاك المعلوماتي المستمر، لم تساهم فقط في إضعاف السرديات التقليدية،

بل خلقت نمطًا من التشتت الذهني والضياع الوجودي، حيث يبدو أن كل شيء متاح، لكن لا شيء يمتلك قيمة حقيقية.

وفي ظل هذه الفوضى الرقمية، تصبح العدمية تجربة معاشة، لا مجرد طرح فلسفي نخبوي كما كان الحال مع نيتشه أو هايدغر.

التفكك الثقافي ونهاية اليقينيات الأخلاقية

أما على المستوى الثقافي، فقد أدى التشكيك المتزايد في القيم المطلقة إلى خلق عالم نسبي بالكامل، حيث يتم التعامل مع كل الحقائق كوجهات نظر، وكل الأخلاق كنسبية ثقافية.

هذا الوضع جعل الإنسان المعاصر يعيش في حالة دائمة من اللايقين، فلا شيء يبدو مؤكدًا، ولا توجد معايير راسخة لتحديد الخير أو الشر، بل فقط سياقات متغيرة وتفسيرات لا نهائية.

هل هناك مخرج من هذا الفراغ؟

أمام هذا الواقع، يبرز سؤال جوهري:

هل يمكن للإنسان المعاصر تجاوز هذه العدمية، أم أنها قدر محتوم لعصر ما بعد الحداثة؟ هناك مسارات متعددة لمحاولة إعادة بناء المعنى،

بعضها يركز على استعادة البعد الروحي في الحياة، سواء عبر الأديان التقليدية أو أشكال جديدة من التجربة الروحانية.

وهناك من يدعو إلى إعادة اكتشاف القيم الإنسانية الكلاسيكية، مثل التضامن، والإبداع، والسعي نحو الحقيقة، كوسيلة لمواجهة الفراغ.

في المقابل، يرى البعض أن العدمية ليست مشكلة، بل فرصة لإعادة تعريف الذات والحرية، بعيدًا عن الأوهام الكبرى التي سادت في الماضي.

في النهاية، يظل البحث عن المعنى رحلة شخصية وجماعية في آنٍ واحد، ولا يوجد حل جاهز أو وصفة سحرية. لكن الواضح أن الإنسان لا يستطيع العيش في فراغ كامل،

وأنه سيظل يسعى لإعادة بناء أسس وجوده، حتى لو كان ذلك عبر تجارب جديدة لم تتضح ملامحها بعد.”

حمدي سيد محمد محمود

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.