مشاركة: هناء ظفور

في رواية إيكو ((باودولينو))

مثلا، نشهد أمام أعيننا، صفحة وراء صفحة، تغيّرات لغوية تصاعدية وتحولات تعبيرية متعددة الشكل والإتجاه، ينجح ايكو من خلالها، داخل متاهة من الابتكارات اللفظية العجيبة
والمضحكة أحياناً، في نسج قصّة معلقة بين الواقع والخيال، بين الخرافة والتاريخ، يتماهى فيها اكتشاف العالم مع اكتشاف اللغة حتى (يصيرها)). من أبرز اعمال إيكو على الصعيد اللغوي..

جمانة حداد، صحبة لصوص النار، حوارات مع كتَّاب عالميين، دار النهار، ط1، 2006، ص 17

رواية “باودولينو” لأمبرتو إيكو
رواية “باودولينو” (Baudolino) للكاتب الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو، والتي نُشرت أولاً عام 2000، تُعدّ واحدة من أبرز أعماله التي تجمع بين الخيال التاريخي والفلسفي بأسلوب أدبي معقد وممتع. يعود بنا إيكو إلى القرن الثاني عشر في أوروبا، حيث يروي قصة بطل خيالي يحمل اسم الرواية، باودولينو، وهو شاب ذكي ومخترع يعيش في عصر الحروب الصليبية والبحث عن المعرفة. الرواية تتميز بأسلوب سردي غني بالتفاصيل التاريخية والأساطير، مع لمسة من السخرية الفكاهية التي تُشكل علامة مميزة في أعمال إيكو.
ملخص الرواية
تبدأ القصة في القسطنطينية عام 1204، أثناء نهب المدينة من قبل الصليبيين، حيث يلتقي باودولينو، الراوي، بالمؤرخ البيزنطي نيكيتا خونياتس. يروي باودولينو قصته التي تبدأ من طفولته في قرية إيطالية متواضعة، حيث يُتبناه الإمبراطور فريدريك بارباروسا بعد أن يلاحظ ذكاءه الفطري. يصبح باودولينو جزءًا من البلاط الإمبراطوري، ويبدأ في اختلاق القصص والوثائق المزيفة لخدمة أغراض سياسية، مما يُعزز مكانته لدى الإمبراطور.
مع تقدم الأحداث، يتجه باودولينو ورفقاؤه في رحلة طويلة وخيالية بحثًا عن مملكة الكاهن يوحنا الأسطورية في الشرق، وهي مملكة مسيحية غامضة تُحيطها الأساطير. خلال هذه الرحلة، يواجهون مخلوقات أسطورية مثل الرجال ذوي رأس الكلب وشعوبًا غريبة، مما يعكس مزيجًا من الواقع والخيال. القصة مليئة بالمغامرات والمناقشات الفلسفية حول الحقيقة والخداع، وتنتهي بمأساة تتعلق بموت بارباروسا وتشتت الرفاق، مع ترك القارئ في حيرة حول ما إذا كانت القصة حقيقية أم مجرد خيال.
النقاش والتحليل
الأسلوب واللغة: يتميز إيكو بأسلوبه اللغوي المتقن الذي يمزج بين اللغة اليومية والمصطلحات الأكاديمية، مما يعكس خلفيته كشخصية أكاديمية وعالم سيميائي. لكن هذا الأسلوب قد يكون تحديًا لبعض القراء بسبب كثافة المراجع التاريخية والثقافية التي يتطلب فهمها معرفة مسبقة بالعصور الوسطى.

التاريخ والخيال: الرواية تتقاطع مع أحداث تاريخية حقيقية مثل حروب الصليبية الرابعة وصعود فريدريك بارباروسا، لكن إيكو يضيف طبقة من الخيال الخصب من خلال شخصياته وأساطيره. هذا الاندماج يخلق تجربة سردية فريدة، لكنه قد يُربك القارئ الذي يبحث عن تمييز واضح بين الحقيقة والتخيّل.

الرمزية والفلسفة: تتناول الرواية قضايا فلسفية عميقة مثل طبيعة الحقيقة والكذب، حيث يستخدم باودولينو الكذب كأداة لتحقيق أهداف سياسية وشخصية. هذا يعكس رؤية إيكو النقدية للسلطة والدين والمعرفة في العصور الوسطى، مع إيحاء بأن الحقائق التاريخية غالبًا ما تُبنى على الروايات المزيفة.

الشخصيات: باودولينو شخصية معقدة تجمع بين البراءة والدهاء، مما يجعله بطلًا غير تقليدي. الشخصيات الأخرى، مثل بارباروسا والرهبان والمغامرين، تُضيف أبعادًا متنوعة، لكن بعضها قد يبدو ثانويًا مقارنة بتركيز الرواية على الراوي.
النقد
على الرغم من براعة إيكو في بناء العالم الروائي، إلا أن الرواية قد تعاني من طولها وتشتتها في بعض الأحيان، حيث تتحول الرحلة إلى سلسلة من المغامرات التي قد تفقد التركيز الدرامي. كما أن الاعتماد الثقيل على المراجع التاريخية قد يجعلها أقل جاذبية للقراء العامين مقارنة بأعمال مثل “اسم الوردة”. ومع ذلك، فإن هذا الجانب يكسبها قيمة أكاديمية كبيرة، خاصة لمحبي الأدب التاريخي والفلسفي.
التقييم
“باودولينو” هي عمل يبرز موهبة إيكو في دمج التاريخ بالخيال بطريقة تجذب العقل والخيال معًا. تصلح للقراء المهتمين بالعصور الوسطى والفكر الفلسفي، لكنها قد لا تكون خيارًا مثاليًا لمن يفضلون القصص الخفيفة أو المباشرة. بتقديري، تستحق الرواية 4 من 5 نجوم كعمل أدبي يحمل طابعًا فريدًا، مع توصية بقراءتها بتركيز لاستيعاب طبقاتها المتعددة.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.