
محمد تركي الربيعو / كاتب سوري
ثقافة الكاسيت: التاريخ الاجتماعي للصوت في المدينة العربية
4 – أبريل – 2025م
ربما بات من المتفق عليه، أن واقع النشر في العالم العربي ليس على ما يرام، ومرد هذا التردي لا يتعلق فقط بغياب الداعمين، أو القراء، وإنما أيضا لعدم جدية المحتوى المنشور في الغالب. فمقابل انفجار الأوضاع السياسية والاجتماعية في هذا العالم، وبالأخص بعيد 2010، نرى أن الباحثين العرب، بكل تنويعاتهم، ما زالوا متشبثين بمقاربات تقليدية، وبالأخص على صعيد التاريخ، أو علم الاجتماع. وعلى الضفة الأخرى، يبدو أن بعض أقسام الشرق الأوسط في الجامعات الغربية، تشهد ثورة منهجية في قراءة تاريخ المنطقة. وهذه الثورة، لا تتعلق فحسب بالكم الكبير من الكتب والمراجع، التي قدمتها للقراء، وإنما الأهم من ذلك هي المناهج والمقاربات الجديدة في تاريخ المدينة العربية. وكمثال على هذا التطور، أشير هنا على صعيد مدينة مثل القاهرة، إلى ثلاثة كتب كان لها وقع كبير في حقل الدراسات الغربية عن مصر، سواء على مستوى موضوعاتها، أو على صعيد الأرشيف الجديد الذي جاء بها. ولعل ما جعلنا نأتي على ذكرها دون غيرها، أن هذه الكتب شكلت حلقة متصلة من التراكم المتعلق بالتأريخ لمصر والقاهرة في العقدين الأخيرين، وهو تأريخ يحمل رائحة وأفكار ومقاربات تختلف عن تواريخ أجيال أخرى كتبت عن مصر في العقود الماضية (بيتر غران، تيموثي ميتشل).
العنوان الأول هو للمؤرخة لوسي ريزوفا (عصر الأفندية) فمن خلال اعتمادها «منهجية الأزبكية»، وفق تعبيرها، الذي قضى منها تصفّح أطنانٍ من الورق المُتّسخ في مكتبات سوق الأزبكية، للعثور على كتابات هذه النخب، تمكنت المؤلفة من تعريفنا أكثر بحياة هذه النخب في البيت، وأسلوبها في الاستهلاك ومعتقداتها الدينية وعلاقتها بالأفلام والكتب والناس والمواصلات والموسيقى. لكن يبدو أنّ حدود كتاب ريزوفا لن تتوقّف عند تعريفنا بهذا الجانب فحسب، بل أيضا في كونه فتح البابَ أمام دراسات أخرى في عالم استهلاك الأفندية وما بعد عصرهم، وهذا ما نراه مثلا في أعمال المؤرخة الأمريكية آنا غول/ جامعة ميرلاند الأمريكية. فغول متخصّصة في تاريخ الطعام والجندر في مصر والمغرب العربي والشرق الأوسط عموماً. وقد حاولت الاستفادة من ملاحظات ريزوفا حول حياة الأفندية، كما تبنت طقسها الأزبكي، من خلال الذهاب إلى مجلات وكتب ألّفها عدد من المهتمين بالطعام في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى خمسينيات القرن العشرين. ما مكّنها من الكشف عن أدب كامل للأفندية عن الطعام وإعداده في مدينة القاهرة، وأيضا من دراسة العلاقة بين ظهور الطماطم في القاهرة، ودورها في تشكل الأمة المصرية.
كان الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوراي، قد حث العلماء والمؤرخين، على كتابة السير الذاتية العالمية للأشياء والسلع، ويومها عرف أبادوراي السلعة بأنها «أي شي مخصص للتبادل». فبدلاً من النظر إلى السلع كدليل للقياس الكمي، بات يمكننا تفحص الأشياء كحاملات للمعنى، ومواقع للنزاع، وعدسات جديدة لقراءة وتفكيك العلاقات الإمبريالية، وما بعدها. ويبدو أن دعوة أبادوراي، ومنهج ريزوفا حول الكشف عن مصادر جديدة، كانت سببا أساسيا في دفع عدد من الباحثين المهتمين بتاريخ الشرق الأوسط إلى البحث في زوايا جديدة من تاريخ هذه المنطقة، وهو ما نراه مع صدور ترجمة كتاب المؤرخ الأمريكي آندرو سايمون «إعلام الجماهير ـ ثقافة الكاسيت في مصر»، ترجمة بدر الرفاعي، دار الشروق.
يعد موضوع ثقافة الكاسيت واحدا من الموضوعات التي لاقت اهتمام عدد من المؤرخين والأنثروبولوجيين، إذ لاحظوا مثلاً دور الأشرطة الصوتية في تنشيط الثقافة المحلية في مصر، وتبادل الرسائل الشخصية بين المهاجرين المصريين في الخليج وأحبائهم في الوطن. وفي كتابه «المشهد الصوتي للأخلاق»، عمق تشارلز هيرشكيند من دراسة دور التكنولوجيا في تشكيل الحساسيات الأخلاقية، من خلال تتبع دور شرائط الخطب وصلتها بالإحياء الإسلامي، والدور الذي قام به أيضاً مستمعون مسلمون عاديون في منتصف التسعينيات.
لا تكمن أهمية كتاب أندرو سايمون الجديد في قراءة التاريخ الاجتماعي للصوت في مدينة مثل القاهرة فحسب، وإنما في المنهج الذي قدمه الكاتب، إذ لطالما أغفل مؤرخو الشرق الأوسط الصوت كموضوع للتفاعل، في المقابل شكّل هذا الموضوع فرصة للمؤرخين في مناطق أخرى من العالم مثل عمل بيتر مانويل «ثقافة الكاسيت: الموسيقى الشعبية والتكنولوجيا في شمال الهند». وقد لعب المؤرخون دورا متزايدا في هذا التطور، من خلال الكشف عن التضاريس الصوتية للماضي، أو لدراسة التقاطعات بين الصوت والضوضاء والسياسة والثقافة، فقد ألقوا الضوء على الماضي المسموع، مع ذلك وبالمقارنة مع هذا التاريخ الصوتي المبهر، فإن تاريخ الشرق الأوسط ما يزال على هامش هذه الأبحاث النامية.
كما تأتي أهمية هذا الكتاب في مصادره، إذ يمكن اعتباره امتداد لجهود المؤرخين السابقين في القاهرة، الذين أولوا لفكرة (التحول الأرشيفي) وتجديده دورا أوسع في كتاباتهم. ففي ظل الرقابة التي تفرضها الحكومة المصرية على أرشيفها، وبالأخص بعيد الفترة المتعلقة بما بعد 1952، اضطر عدد من الباحثين إلى الغوص في تواريخ أقدم مثل، الاحتلال البريطاني، وهنا يعتقد آندرو سايمون أن الباحثين في الشرق الأوسط، قليلاً ما ناقشوا فكرة التعامل مع الأرشيف، من خلال تحويلها من مصادر إلى موضوعات للدراسة، من هنا فهو يرى أن كتابه يبحر في ما يسميه «أرشيف الظل» لمصر، وهو مجموعة من المواد البصرية والنصية والسمعية الموجودة خارج دار الوثائق القومية.
يحاول المؤلف في الفصل الأول دراسة تاريخ الكاسيت في القاهرة، من خلال صورة فوتوغرافية لثلاثة رجال يحملون جهاز راديو كاسيت، اذ يتأمل في كيف يمكن أن تكون هذه الصورة مدخلا لكتابة التاريخ الاجتماعي لانفتاح السادات وعواقبه الأولية في عهد مبارك. وفي مجرى استكشاف كيفية اتصال الناس العاديين والنخبة بتكنولوجيا الكاسيت، يبين كيف يمكن للحياة التجارية لوسيلة إعلامية أن توضح ظواهر تاريخية أوسع، تبدأ من البيت الحديث وحتى التأثير المادي للعمال المهاجرين. وفي فصل آخر يناقش تقاطعات الطبقة والثقافة في مصر، إذ أثارت تكنولوجيا الشريط الصوتي، قلقا كبيرا في منتصف وأواخر القرن العشرين، خاصة أنها تضمنت محتوى اعتبره حراس الثقافة المحليون مبتذلاً، وبشكل خاص الغناء الشعبي، الذي رأى العديد من النقاد أنه يسمم الذوق العام.
من أهم الفصول هما الفصلان الثاني والرابع اللذان ركز فيهما المؤلف على دراسة التاريخ الجنائي للكاسيت، من خلال تتبع القضايا الجنائية المتعلقة بالسوق السوداء للكاسيت، وتهريب آلات أو أجهزة الكاسيت عبر الحدود الوطنية. كما يتوقف هنا على الخطوات التي قام بها الملحنون وضباط الشرطة للتخلص من الأشرطة المزيفة، خاصة أن انتشار سوق نسخ الأشرطة أو الكاسيتات غير الأصلية أو المضروبة، قد أدى في رأي الكاتب إلى ما هو أبعد من مضاعفة التسجيلات، فقد غير هذا النشاط بصورة جذرية من حركة المادة الثقافية، عبر تعزيز إمكانية كل من يمتلك جهاز تسجيل ليصبح موزعاً ثقافياً، في وقت كانت فيه شركات التسجيل هي المهيمنة، كما أنه زعزع قليلاً من سيطرة الدولة على الإعلام والإنتاج السمعي، فمن خلال هذا الكاسيت وانتشاره أخذنا نسمع مئات الأصوات، ما كسر من صوت الدولة، وبالتالي يمكن القول إن الكاسيت، سبق عالم السوشيال ميديا بعقود في زعزعة سيطرة الدولة في تشكيل مزاج وأصوات أخرى داخل المدينة العربية.