واحد من اهم ما كتب عميد الأدب العربى د. طه حسين…. انه رؤية مُثيرة في زمن مضطرب…. رحلة نقدية عبر الحضارة والهوية والحداثة
“مستقبل الثقافة في مصر”
د. طه حسين
♣︎♣︎ المقدمة:
في عام ١٩٣٨، بينما كانت مصر تغلي تحت وطأة تناقضاتها — مُعلَّقة بين تراثها الفرعوني العتيق وجاذبية الحداثة الأوروبية — خطَّ طه حسين، “عميد الأدب العربي”، كتابًا أشبه بزلزالٍ فكري، كتابًا لم يكن مجرد تأملات، بل “بيانًا ثوريًّا” يُحاول إنقاذ أمةٍ تبحث عن روحها. “مستقبل الثقافة في مصر” لم يكن نصًّا أكاديميًّا تقليديًّا، بل كان صرخةً جريئةً تدعو إلى قطيعةٍ مع التقاليد الراكدة، وانزياحٍ صوب عقلانية الغرب وتعليمه العلماني. هذه المقالة تُحلِّل هذا النصَّ المُثير للجدل، وتكشف طبقاته الفلسفية، وسياقه التاريخي، وتناقضاته التي ما زالت تُشعل النقاشات حول الهوية والاستعمار والتنوير.
♣︎♣︎ تلخيص الكتاب.
رحلةٌ في أعماق الهُويَّة والحداثة.
في غرفة مُظلمة فى القاهرة القديمة، عام ١٩٣٨، كان قلَمٌ أعمى يخطُّ كلماتٍ تُضيء طريق أمةٍ حائرة. طه حسين، الرجل الذي فقد بصره في طفولته لكن بصيرته اخترقت جدران الزمن، جلس يُناضل بورقته كما يُناضل الثوار بالسلاح. كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” لم يكن مجرد تأملاتٍ أكاديمية، بل كان “خريطة وجودية” لمصرَ التي تبحث عن نفسها بين ركام الماضي وضباب المستقبل. هذا الكتاب، الذي أثار عاصفةً من الجدل حينها، ما زال يُشعل أسئلةً تحرقُ اللسان: كيف نُحدِّث أنفسنا دون أن نفقد روحنا؟ كيف نستعير من الغرب دون أن نَستعبِد له؟
الفصل الأول:
البداية من قلب العاصفة.
في مطلع القرن العشرين، كانت مصر تشبه سفينةً تائهةً في محيطٍ هائج. الاحتلال البريطاني رحلَ جسديًّا، لكنَّه خلَّفَ جرحًا في الهُويَّة. النخبة المصرية انقسمت إلى معسكرين: مَنْ يرون في الأصالة الإسلامية درعًا ضد الغزو الثقافي، ومَنْ يتطلَّعون إلى أوروبا كنموذجٍ للخلاص. وسط هذا الضجيج، صرخ طه حسين بصوته الجريء: “مصر ليست شرقية ولا غربية، إنها ابنة البحر المتوسط!”.
هكذا بدأ الكتاب كإعلانٍ صادم: الهُويَّة المصرية ليست سَلسلةً واحدةً من التاريخ، بل فسيفساءً من الحضارات المتعاقبة — الفرعونية، اليونانية-الرومانية، العربية-الإسلامية — وواجبُ المصريين أن يَنسجوا من هذه الخيوط تاريخًا جديدًا. لكنَّ حسينًا لم يقف عند حدود الخطابة، بل اقتحمَ المنطقة الأكثر حساسية: التعليم، الذي رآه “ميدان المعركة الحقيقي بين التقدُّم والتخلُّف”.
الفصل الثاني:
التعليم.. حين يصير الفصل بين الماضي والحاضر جريمة.
وصفَ طه حسين النظام التعليمي المصري آنذاك بـ”الجريمة المُزدوجة”: انقسامٌ بين مناهج الأزهر الدينية التقليدية، والمدارس المدنية التي تَستنسخ النموذج الأوروبي بشكلٍ سطحي. هذا الانقسام، بحسبه، خلقَ جيلًا مُنفصمًا: طالب الأزهر يعيش في القرن العاشر، وطالب المدارس الحديثة يَقلد أوروبا دون أن يفهمها.
الحلُّ الذي قدَّمه كان جذريًّا: توحيد النظام التعليمي تحت مظلة الدولة، مع إدخال الفلسفة والعلوم الإنسانية واللغات الأجنبية إلى صُلب المنهج. لكنَّ الجُرأة الحقيقية كانت في تفاصيل رؤيته: تدريس “الإسلام العقلاني” الذي يُحاور التراث بدلَ تقديسه، وربط العلوم الدينية بالفلسفة اليونانية، تمامًا كما فعل ابن رشد قبل قرون. هنا، لم يكتفِ حسينٌ بمهاجمة المؤسسة الدينية، بل اقتحمَ منطقةً محرَّمة: “التعليم الديني يجب أن يخضع للنقد مثل أي تراثٍ آخر”.
الفصل الثالث:
المُتناقض الأكبر.. الاستعمار الذي يُحرِّر!.
أكثرُ ما أثار سُخط خصوم حسين هو تعامله المُربِك مع الاستعمار. فبينما هاجم الاحتلال البريطاني باعتباره “سرطانًا سياسيًّا”، أصرَّ على أن الثقافة الأوروبية — بعلومها وفلسفتها — هي “الدواء”. كيف يُمكن لبلدٍ أن يرفض المُستعمِرَ ويتبنَّى ثقافته؟!
الكتاب يُجيب بتفصيلٍ مدهش: أوروبا ليست كتلةً واحدةً. هناك أوروبا الاستعمار الجشع، وأوروبا التنوير التي أنجبت فولتير وكانط. الأولى يجب مُقاومتها، والثانية يجب استعارة أدواتها. لكنَّ النقاد — مثل المفكر المغربي عبد الله العروي — يرون أن حسينًا وقع في فخٍّ خطير: ظنَّ أن بإمكان مصر أن تَنتقى “العقلانية الأوروبية” دون السموم الاستعمارية المُلتصقة بها، كمن يريد شرب ماء النهر دون أن يبتلَ!
الفصل الرابع:
المرأة.. النصف المنسي من المعادلة.
في فصلٍ قصيرٍ لكنه مُتفجِّر، يربط حسين بين “مرض الثقافة المصرية” و”إهمال تعليم المرأة”. يكتب: “كيف نطالب شجرةً أن تثمرَ ونحن نقتل نصف جذورها؟”. دعوته لتعليم المرأة كانت ثورية في زمنٍ كانت فيه المدارس النسائية نادرة، وحتى بنات الطبقة العليا يُعلَّمنَ القرآن والخياطة فقط.
لكنَّ طه حسين — الرجل المُتحدر من صعيد مصر المحافظ — لم يجرؤ على المطالبة بمساواةٍ كاملة. ناقداتٌ مثل نوال السعداوي تشيرن إلى أن رؤيته ظلت “ذكورية”؛ فقد تحدث عن تعليم المرأة كي تكون أمًّا أفضل، لا كي تكون فردًا مُستقلًّا. ومع ذلك، يبقى هذا الفصل شاهدًا على رؤيةٍ سبقت عصرها بعقود.
الفصل الخامس:
التراث.. بين التقديس والتكسير.
العلاقة مع التراث الإسلامي هي القلب النابض للكتاب. حسين يهاجم بشراسةٍ ما يسميه “التاريخ المقدس” — السرديات الدينية التي تُقدَّس كحقائقٍ مُطلقة — ويدعو إلى قراءة التراث بمنهجٍ نقدي، كما نقرأ أي نصٍّ بشري. يَستحضر ابن خلدون ليُذكِّرنا أن الحضارات تموت حين تتوقف عن التساؤل.
لكنَّ حسينًا، المُلمّ بفقه اللغة العربية، يلعب لعبةً خطيرة: فهو يهاجم “التقليد الأعمى” للتراث، بينما يَستعين بأعلامه لدعم حججه! ينقل عن المعتزلة — الذين قدَّسوا العقل — ويُقارن بين منهجهم ومنهج فلاسفة التنوير، وكأنه يقول: “العقلانية ليست غريبةً عنّا، نحن مَنْ تخلَّينا عنها”.
الفصل السادس:
النهاية التي لم تكتمل.. أسئلة ما زالت تحترق.
بعد ٣٠٠ صفحةٍ من الحجج المُتدفقة، يُنهي حسين كتابه بتحذيرٍ مُرعب: “إذا فشلنا في صناعة ثقافتنا الجديدة، سنصير شعبًا بلا وجه، نعيش على هامش التاريخ”. اليوم، بعد قرنٍ تقريبًا، يبدو السؤال أكثرَ إلحاحًا: أين نحن من رؤية طه حسين؟
– هل تحوَّل التعليم في مصر إلى “مصنع أيديولوجيات” — كما خاف — بدلَ أن يكون منصةً للتساؤل؟
– هل تحالفَت النخبة مع السلطة لقمع أي صوتٍ يُشبه صوت طه حسين؟
– لماذا فشلنا في صناعة “الحداثة العربية” التي حلم بها، بينما نجح اليابانيون والكوريون؟
الغريب أن الكتاب نفسه يحمل إجابةً ضمنية: طه حسين لم يكره التراث، بل كره الجمود. لم يُحبذ الغرب، بل أحبَّ العقل. ربما تكون هذه الرسالة — رسالة الحرية من الخوف — هي ما يجعل “مستقبل الثقافة في مصر” مرآةً نرى فيها أزمتنا الحالية بوضوحٍ مؤلم.
☆☆ الكتاب الذي صار سؤالًا
“مستقبل الثقافة في مصر” ليس كتابًا يُقرأ، بل كتابٌ يُعاد كتابته مع كل جيل. صفحاته لا تحتوي إجاباتٍ جاهزة، بل تُلقي بكرة النار في أحضان القارئ: ما الثقافة التي نريد؟ كيف نُصالح الماضي مع الحاضر؟ هل نستطيع أن نُحدِّث ديننا دون أن نَخونه؟
طه حسين، الرجل الذي عاش في الظلام، ترك لنا كتابًا يُشبه مصباحًا يَشفُّ عن الحقائق المُرة: أن مشكلتنا ليست مع الغرب أو الشرق، بل مع أنفسنا. مع خوفنا من أن نكون — كما قال — “أسيادًا في وطننا، لا عبيدًا للآخرين أو للذين ماتوا منذ ألف عام”.
السؤال الآن: هل نجرؤ على إشعال هذا المصباح مرةً أخرى؟.
والى روايات وكتب أخرى قريبا ان شاء الله
الروائى خالد حســــــين
إلى هنا انتهى التلخيص…. شكرا جزيلا
لمن أراد الاستزادة . اليكم المزيد …
♣︎♣︎ السياق التاريخي والثقافي الاجتماعي للكتاب.
رحلة في أعماق التحولات الخفية.
♧ التمهيد: مصر على مفترق القرون.
قبل أن تُولد فكرة الكتاب في رحم عام ١٩٣٨، كانت مصر تعيش في ظلِّ صراعٍ وجودي خفيٍّ، لم تكن معاركُه تُخاض بالسيف، بل بالكلمة والهوية. القرن التاسع عشر — الذي شهد غزو نابليون (١٧٩٨–١٨٠١) — لم يُدخل مصرَ إلى العصر الحديث فحسب، بل زرعَ فيها بذرةَ سؤالٍ مسموم: هل نستطيع أن نكون شرقيين وأوروبيين في آنٍ؟. حمل محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٨) هذه البذرة وحوَّلها إلى مشروعٍ مُمنهج: جلبَ البعثات التعليمية من فرنسا، وأنشأ المدارس الحربية، لكنَّه — بذكاءٍ استعماري — حافظ على فصلٍ صارم بين “العلوم النافعة” (الهندسة، الطب) و”العلوم الإنسانية” التي ظلَّت حبيسة الأزهر. هذا الانقسام لم يكن بريئًا؛ بل كان إستراتيجيةً لخلق نخبةٍ تقنية تخدم الدولة دون أن تُفكِّر في أسئلة الحرية أو الهوية.
♧ الطبقة السرية: النخبة المثقفة والماسونية
خلف واجهة الإصلاحات العلنية، كانت تعمل شبكاتٌ فكرية خفية. المحافل الماسونية — التي انتشرت في القاهرة والإسكندرية منذ منتصف القرن التاسع عشر — أصبحت ملتقىً للنخبة والأدباء الذين تبادلوا أفكار التنوير الأوروبي. طه حسين نفسه، رغم عدم انتمائه العلني، كان يعيش في دائرة تأثير هذه الأجواء، حيث تَشَكَّلت مفاهيم مثل “العالمية” و”العقلانية” كأدواتٍ للتحرر من الاستعمار الفكري قبل العسكري. لكنَّ هذه الحركات كانت تُخفي تناقضًا: فبينما دعت إلى المساواة، ظلَّت حكرًا على النخبة الناطقة بالفرنسية، مما خلقَ هوةً بين المثقفين والجماهير.
♧ الاستعمار البريطاني: الاحتلال الذي اخترق العقل.
عندما احتلَّ البريطانيون مصر عام ١٨٨٢، لم يكتفوا بالسيطرة على قناة السويس، بل صمموا على احتلال العقل المصري. السير إيفلين بارينغ (لورد كرومر)، المعتمد البريطاني، كتب في مذكراته: “المصريون غير قادرين على الحكم لأنهم يفتقرون إلى العقلانية العلمية”. هذه العبارة — التي تبدو عنصرية — كانت جزءًا من إستراتيجيةٍ أعمق: تشجيع التعليم الديني التقليدي (خاصةً الكتاتيب) لضمان بقاء الشعب في حالةٍ من الجمود الفكري، بينما تُدار الدولة بواسطة بيروقراطيةٍ بريطانية. هنا، يَكمن أحد مفاتيح كتاب طه حسين: هجومه على الأزهر لم يكن عداءً للدين، بل ثورةً ضد الاستعمار المزدوج — البريطاني العسكري، والأزهري الفكري.
.
♧ النساء الخفيات: صالونات السيدات وتحرير العقل.
قبل أن تُطلق هدى شعراوي حركة تحرير المرأة العلنية عام ١٩٢٣، كانت صالونات السيدات السرية في القاهرة تُشعل ثورةً ثقافية. سيدات مثل لبيبة أحمد — التي أسست مجلة “الفتاة” عام ١٨٩٢ — كنَّ يناقشنَ حقوق التعليم والعمل في غرفٍ مغلقة، بعيدًا عن عيون المؤسسة الذكورية. طه حسين، الذي تزوج من سوزان بريسو الفرنسية — المثقفة المستقلة — استقى جزءًا من أفكاره حول تعليم المرأة من هذه الأجواء. لكنَّ الكتابة عن المرأة في “مستقبل الثقافة” ظلت مُتحفظة، ربما خوفًا من استفزاز التيار المحافظ الذي كان يرى في تعليم الفتيات “فتنةً تهدد الأخلاق”.
♧ الصراع الخفي: الأزهر vs السوربون
لم يكن صراع طه حسين مع الأزهر مجرد اختلافٍ فكري، بل كان جزءًا من حربٍ باردة بين مؤسستين: الأزهر — الذي حوَّله الاحتلال العثماني إلى قلعةٍ للتقليد — والبعثات التعليمية إلى فرنسا، التي أنتجت جيلاً من المثقفين المُؤوربين. القصة الأكثر إثارةً هي أن الأزهر نفسه لم يكن كتلةً واحدة: داخل جدرانه، كان هناك شيوخٌ — مثل علي عبد الرازق — يكتبون أفكارًا تنويريةً تحت أسماء مستعارة، بينما يظهرون في العلن كحراسٍ للتقليد. كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعبد الرازق (١٩٢٥) — الذي دعا إلى فصل الدين عن الدولة — كان محاولةً موازيةً لطه حسين، لكنَّ تم قمع المحاولة بشراسة، مما كشف عن عمق الانقسام داخل المؤسسة الدينية نفسها
♧ الاقتصاد الخفي: القطن والثقافة
وراء الجدل الثقافي، كان هناك اقتصادٌ يتحكم في مصير الأفكار. مصر في الثلاثينيات كانت إمبراطورية القطن، الذي حوَّل الفلاحين إلى عبيدٍ لأرضهم، بينما صنعَ ثرواتٍ طائلةً لطبقةٍ من الباشوات الذين مولوا المشاريع الثقافية. صاحبة الصالون الثقافي الشهير مي زيادة، على سبيل المثال، كانت تعتمد على دعم هؤلاء الأثرياء، مما جعل الثقافة رهينةً لرغبات النخبة. طه حسين، في كتابه، هاجم هذه التبعية الطبقية غير المعلنة، داعيًا إلى تعليمٍ مجانيٍّ يُحرر العقول من رباعية: الفقر، الجهل، الاستعمار، والتبعية الاقتصادية.
♧♧ الكتاب الذي كشف ما أخفته الدولة.
“مستقبل الثقافة في مصر” لم يكن مجرد كتاب، بل كان فضيحةً تاريخية كشفت الأسرار التي أرادت النخب إخفاءها:
– أن الاستعمار ليس جيشًا غازيًا فحسب، بل هو نظامٌ فكري يزرع التخلف ويحصده.
– أن الصراع بين الأصالة والحداثة هو في الحقيقة صراعٌ بين مصالح النخب المُتحكمة في رأس المال الثقافي.
– أن مصر لم تكن يوماً “أم الدنيا” البريئة، بل كانت ساحةً لحرب حضارات خفية، حيث تقاتل الفلاسفةُ والجواسيسُ تحت عباءة الدين والعلم.
☆☆☆ الدرس الأهم: الثقافة — في نظر طه حسين — ليست ترفًا، بل هي سلاحٌ وجودي؛ مَنْ يسيطر على التعليم يسيطر على المستقبل. لكن السؤال الذي ظلَّ معلقًا: مَنْ يسيطر على المُنَظِّرين أنفسهم؟.
♣︎♣︎ ما بين السطور: ما لم يصرِّح به طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر”
1. “الدين لله.. والوطن لمن يدفع الثمن!”
رغم حرص طه حسين على تجنب الاصطدام المباشر مع المؤسسة الدينية، إلا أن الكتاب يُخفي بين سطوره دعوةً علمانيةً مُبطَّنة. حين يكتب: “التراث الديني يجب أن يُدرَّس كتاريخٍ لا كوحي”، فهو يُلمح إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، لكنه يلفّها بغلافٍ تربوي.
2. “نحن لسنا عربًا.. بل ورثةُ الفراعنة!”
الكتاب يرفض الهوية العربية لمصر رفضًا هادئًا. حين يتحدث عن “البحر المتوسط” كحاضنةٍ للحضارة المصرية، ويُقارن بين الإسكندرية القديمة وباريس الحديثة، فهو ينسج سرديةً خفيةً تُعيد مصرَ إلى الجذور الفرعونية-اليونانية، وتُقلّص من دور الهوية العربية الإسلامية. هذه الفكرة — التي لم يجرؤ على صياغتها بوضوح — كانت مُستوحاةً من الصراع الخفي بين القومية المصرية (التي تزعَّمها سعد زغلول) والقومية العربية التي بدأت تتصاعد مع ظهور الحركات الإسلامية عام ١٩٢٨. كأن حسينًا يقول: “نحن لسنا جزءًا من الشرق الأوسط.. نحن أوروبا الصغرى!”.
3. “الاستعمار الجيد: عندما يكون المُستعمِرُ مُعلِّمًا!”
رغم هجومه اللاذع على الاحتلال البريطاني، إلا أن الكتاب يُخفي إعجابًا مُربكًا بالاستعمار الفرنسي، الذي يراه “استعمارًا ثقافيًّا” أنتج نهضةً في لبنان والمغرب. حين يمدح سياسة فرنسا في دمج النخب المحلية في الحضارة الغربية، فهو يُلمح إلى أن الاستعمار قد يكون شرًّا ضروريًّا لإنقاذ الشعوب من براثن التخلف! هذه الفكرة — التي لم يصرح بها — تعكس تناقضًا عميقًا في وعي النخبة المصرية: كراهية الاحتلال العسكري، مع حُلمٍ سريٍّ بالاندماج في الحضارة الغربية كندٍّ لا كعبد.
4. “المُثقفون خونة.. ولكن!”
طه حسين — الذي عاش حياةً مترفةً كأستاذ جامعي — يهاجم في الكتاب النخبةَ المصرية هجومًا غير مباشر. حين يكتب: “التعليم يجب أن يكون للشعب لا للطبقة”، فهو يُشير إلى أن المثقفين المصريين — ومنهم هو — تحوَّلوا إلى طبقةٍ منعزلةٍ تتعامل مع الثقافة كرفاهيةٍ نخبوية. الأكثر إثارةً هو اتهامُه الضمني للمثقفين بالتواطؤ مع الاستعمار: فالكثيرون منهم — مثل لطفي السيد — تلقوا تعليمهم في أوروبا بمنحٍ بريطانية، ثم عادوا ليُديروا مؤسسات الدولة تحت السيطرة الاستعمارية. كأنه يقول: “نحن جزءٌ من المشكلة.. لا الحل!”.
5. “المرأة.. ذلك العدو اللذيذ!”
رغم دعوته الظاهرة لتعليم المرأة، إلا أن الكتاب يُخفي خوفًا مُزمِنًا من تحررها الكامل. حين يربط تعليمَ الفتيات بـ”تحسين الأمة”، فهو يحصر دور المرأة في خدمة المشروع الوطني، لا ككائنٍ مستقل. الناقد المتمعن سيلاحظ أن حسينًا — رغم زواجه من سوزان الفرنسية المُتحررة — لم يجرؤ على ذكر قضايا كالطلاق أو تعدد الزوجات، وكأنه يخشى أن يُفقد الكتابَ رصانته. ربما كان يخشى أن يؤدي تحرر المرأة إلى زعزعة النظام الأبوي الذي يراه ضروريًّا لاستقرار المجتمع، حتى لو كان هذا الاستقرار قائمًا على الظلم.
6. “الحداثة.. تلك الكذبة الجميلة!”
رغم إيمانه الظاهري بالحداثة، إلا أن الكتاب يَشُدُّ الرحالَ إلى الماضي بحثًا عن شرعيةٍ لها. حين يربط بين المعتزلة وفلاسفة التنوير، فهو يُلمح إلى أن الحداثة الأوروبية ليست سوى سرقةٍ لأفكارنا المدفونة! هذه الفكرة — التي لم تُصرح بها النخبة العربية إلا فيما بعد — تكشف عن مركب نقصٍ خفي: الرغبة في إثبات أننا لسنا تابعين، بل أسيادٌ نسينا مجدنا. لكنها أيضًا تعكس خوفًا من أن تكون الحداثة غريبةً عنّا، فاختلق حسينٌ سرديةً تاريخيةً لتبرير استيرادها.
7. “السياسة.. ذلك الوحش الذي أخفيه!”
الكتاب يتجنب الخوض في السياسة بشكلٍ مباشر، لكنه يَختزن هجومًا شرسًا على النظام الملكي الفاسد. حين ينتقد الفساد الإداري في المدارس، فهو في الحقيقة ينتقد النظام الذي سمح للباشوات بشراء المناصب التعليمية. الأكثر دهاءً هو تهكمه غير المباشر على الملك فؤاد — الذي أَسَّس جامعةً سمَّاها باسمه — حين يكتب: “التعليم يجب أن يكون وطنيًّا لا ملكيًّا!”. ربما كان حسينٌ يخشى أن يُشارك سيرةَ أستاذه أحمد لطفي السيد، الذي سُجن بسبب انتقاده الملك.
★ ما لم يقله طه حسين صراحةً — لكنه تناثر بين السطور — هو أن الثقافة المصرية كانت ضحيةً لثلاثة أوهام:
– وهمُ “الأصالة” التي حوَّلَت التراث إلى تابوتٍ مُقدس.
– وهمُ “الحداثة” التي تحوَّلت إلى تقليدٍ أعمى.
– وهمُ “الاستقلال” الذي لم يكتمل إلا على الورق.
الكتاب، في جوهره، كان محاولةً لإنقاذ مصر من نفسها: من انقسامها الداخلي، ومن خضوعها الطوعي للاستعمارين الخارجي والداخلي. لكنَّ طه حسين — الرجل الذي عرف كل هذا — اختار أن يكتبَ نصف الحقيقة فقط، لأن النصف الآخر كان سيُكلفه حياته. وهنا يكمن المأساة: أن الكتاب الذي أراد أن يكون شعلةً للحرية، تحوَّل إلى شاهدٍ على عصرٍ لم يجرؤ أبناؤه على قول كل شيء.
♣︎♣︎ إرث الكتاب: لماذا ما زلنا نقرأ طه حسين اليوم؟
بعد ٨٥ عامًا على صدوره، ما زال الكتاب يُشعل أسئلةً ملحَّة:
– هل نجحت مصر (والعالم العربي) في صناعة حداثتها الخاصة، أم أنها تاهت بين أصوليةٍ تُقدِّس الماضي واستهلاكيةٍ تُقلِّد الغرب؟
– هل كان طه حسينٌ سيتخلى عن رؤيته لو رأى “الحداثةَ” تتحول إلى ماديةٍ جوفاء؟
– كيف نُوازن بين الهوية والانفتاح في عصر العولمة؟
الغريب أن حسينًا نفسه تنبأ بفشل مشروعه إذا تحوَّل التعليم إلى “تلقين” جديد، أو إذا تحالفت النخبة مع السلطة لقمع التفكير الحر. اليوم، بينما تُغلِّف الشعارات الوطنية مناهجَ التعليم، وتُسيطر الخطاباتُ الدينية المُتشددة على الفضاء العام، يبدو سؤال “مستقبل الثقافة” أكثرَ إلحاحًا من أي وقتٍ مضى.
☆☆ بيانٌ لم يكتمل
كتاب طه حسين ليس نصًّا مقدسًا، بل هو “خطابٌ مفتوح” يُجادل مع قارئه. فيه التناقُداتُ التي تُعبِّر عن أزمة مثقفٍ عربيٍّ أراد أن يكون جسرًا بين عالمين، فاتُّهم بالخيانة من كلا الجانبين. اليوم، بينما تستعيد مصر الحديثة عن “المشروع الحضاري”، وتتصارع النماذج (التركي، الإيراني، الخليجي)، يبدو إعادةُ قراءة هذا الكتاب ضرورةً لفهم جذور أزمتنا: كيف نُحدث توازنًا بين الأصالة والحداثة، دون أن نفقد روحنا أو نغرق في التبعية؟.
♧♧♧ السؤال الأكبر: هل كانت رؤية د.طه حسين “حلمًا مستحيلًا” أم خريطةً لم نعرف كيف نسير عليها؟.
البوتقة التاريخية: أزمة الهوية المصرية
لفهم جرأة رؤية طه حسين، يجب العودة إلى مصر أوائل القرن العشرين: بلدٌ خرج لتوِّه من الاحتلال البريطاني (١٨٨٢–١٩٢٢)، لكن ظلَّت رواسبه الثقافية تُخيِّم على حركة النهضة. الحركة الوطنية بقيادة سعد زغلول نجحت في انتزاع الاستقلال السياسي، لكنها تاهت أمام سؤالٍ وجودي: أيُّ حضارة نريد؟.
♣︎♣︎ نبذة عن طه حسين:
سيرة أكاديمية شاملة.
الميلاد والنشأة: صراعٌ مع الظلام
وُلد طه حسين في 14 نوفمبر 1889 بقرية الكيلو بمحافظة المنيا بصعيد مصر، في أسرة فقيرة كان ترتيبه السابع بين ثلاثة عشر طفلًا. أصيب بالعمى في الرابعة من عمره بسبب إهمال علاج التهاب عينيه، حيث لجأ أهله إلى حلاق القرية بدل الطبيب، فاستخدم علاجًا بدائيًا أفقده البصر. رغم ذلك، أظهر ذكاءً حادًا وحافظة قوية، فحفظ القرآن في التاسعة من عمره في كُتّاب القرية، وتعلَّم على يد الشيخ محمد جاد الرب، الذي أذهله بسرعة حفظه وقدرته على استيعاب القصص الشعريّة مثل سيرة عنترة بن شداد .
♧ التعليم: من الأزهر إلى السوربون
التحق بالأزهر عام 1902، لكنه اصطدم بجمود مناهجه، واصفًا سنواته هناك بأنها “كأربعين عامًا من الرتابة”. في 1908، انتقل إلى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة لاحقًا)، حيث درس التاريخ واللغات السامية، وحصل على الدكتوراه الأولى عام 1914 عن أطروحة “ذكرى أبي العلاء”، التي أثارت جدلًا واسعًا لانتقاده التقاليد الدينية، مما أدى إلى رفض منحه شهادة الأزهر .
ابتعث إلى فرنسا عام 1914، حيث درس في جامعتي مونبلييه والسوربون، وتخصص في التاريخ اليوناني والقانون الروماني، وحصل على الدكتوراه الثانية عام 1918 عن “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”. هناك، تزوج من سوزان بريسو، التي أصبحت عينيه، تقرأ له الكتب وتدعم مسيرته العلمية، مما ساعده على تعميق معرفته بالثقافة الغربية .
♧ المسيرة المهنية: بين الأكاديميا والسياسة
– أستاذًا وعميدًا: عُيّن أستاذًا للتاريخ اليوناني بالجامعة المصرية عام 1919، ثم عميدًا لكلية الآداب عام 1928، لكنه استقال بعد عامين بسبب ضغوط سياسية. عاد ليشغل المنصب مرة أخرى عام 1936، ودعا إلى فصل التعليم الديني عن المدني، وتبني مناهج نقدية مستوحاة من اوروبا.
– وزير المعارف: في 1950، قاد إصلاحات تعليمية جذرية كوزير للمعارف، أبرزها إقرار مجانية التعليم وإنشاء جامعات مثل عين شمس، معتبرًا أن “التعليم كالماء والهواء حق للجميع” .
– دور ثقافي: أسس مجلة “الكُتاب المصري”، وترأس مجمع اللغة العربية، وساهم في تأسيس دار الكتب المصرية، محوِّلًا الثقافة إلى سلاحٍ للتحرر الفكري .
♧ التحديات: معارك الفكر والوجود
1. هجوم الأزهر والمحاكمات: أثار كتابه “في الشعر الجاهلي” (1926) عاصفةً بتشكيكه في صحة الشعر الجاهلي وربطه بسياقات قبليّة، مما اعتُبر إهانةً للإسلام. حُوكم بتهمة “الردة”، وصدر قرار بحظر الكتاب، لكن القضاء برَّأه لاحقًا .
2. الصراع مع التقليد: وُصِف بـ”الغربي المُتغرب” لدفاعه عن تبني النموذج الأوروبي في التعليم، مما أثار غضب التيارات المحافظة التي رأت في أفكاره تهديدًا للهُوية .
3. الإعاقة والتمييز: واجه تحديًا مزدوجًا ككفيف في مجتمعٍ يعاني الأمية، لكنه حوّل إعاقته إلى قوة، مستخدمًا السمع والذاكرة في تحصيل العلم، ودافع عن حقوق ذوي الإعاقة عبر سيرته الذاتية “الأيام” .
♧ أهم الأعمال: إرثٌ يتحدى الزمن.
1. الأيام (1929-1972): سيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء، روى فيها معاناته من الفقر والعمى، وتحوله إلى رمزٍ ثقافي. تُرجمت للإنجليزية والفرنسية، وأصبحت مرجعًا في أدب السيرة الذاتية العالمي .
2. مستقبل الثقافة في مصر (1938): دعا إلى تعليمٍ علماني موحد، واعتبر مصر جزءًا من حضارة البحر المتوسط، مُثيرًا جدلًا حول الهوية .
3. في الشعر الجاهلي (1926): طبق المنهج النقدي الديكارتي على التراث، وشكك في صحة نصوص ما قبل الإسلام، مما أثار أزمةً فكرية ودينية .
4. دعاء الكروان (1934): رواية تناولت قمع المرأة في الريف المصري، وحُوِّلت لفيلم سينمائي ناجح .
5. الفتنة الكبرى (1947): دراسة جريئة عن الصراع بين الإمام علي ومعاوية، ناقش فيها أزمات الحكم في الإسلام المبكر .
♧ الإرث: صوت التنوير في عصر الظلام
رُشح 14 مرة لجائزة نوبل، وحصل على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1973. يُعتبر رمزًا للعقلانية والتمرد على الجمود، إذ مزج بين التراث العربي والمناهج الغربية، معتبرًا أن “الثقافة سلاح وجودي” . رغم الانتقادات، ظلّت أفكاره حجر زاوية في النقاش حول الهوية والتعليم في العالم العربي، إثبات أن الإعاقة الجسدية لا تُعيق العقل المُنير.
والى روايات وكتب أخرى قريبا ان شاء الله
الكاتب والروائى خالد حسين
رواياتى وكتبى:
♣︎ رواية من الظل إلى العرش عن دار طفرة للنشر والتوزيع
♣︎ على منصة أمازون “باللغة الانجليزية”
♧ Egypt: Your Premier Tourist Destination
♧ The Queen of the Pyramids
♧ I am Pharaoh series
#الكاتب_الروائى_خالد_حسين #رواية_ذات_الالقاب_السبعة #رواية_من_الظل_الى_العرش
#دعوة_للفكر_خالد_حسين
#مستقبل_الثقافة_في_مصر_طه_حسين
#Novelist_Khaled_Hussein
#Egyp_Your_Premier_Tourist_Destination
#The_Queen_of_the_Pyramids
#I_am_Pharaoh_series
***************