انور الدرويش … السفر في فضاء زمكانية الازقة
بواسطة سماورد في يناير 10, 2024
د. عقيل ماجد الملا حسن – العراق
الدرويش … مُحباً .
الفنان والفوتوغراف (أنور الدرويش) من المصورين القلائل الذين أعطوا أهمية وفعل للعدسة في التوثيق أولاً وابراز جمالية الشكل واللون والتشكيل ثانية، عند الرجوع إلى تاريخ الدرويش التصويري الذي أخذ بُعداً زمانياً في عالم التصوير نراه ترك أثراً وسمة خاصة به، عبر ما يلتقطه مع لحظات متعددة تقتصنها عينه الباحثة عن المابعد الصورة فخلال عمله في شعبة الاعلام والعلاقات في كلية الفنون الجميلة بوصفه مصوراً لمجمل الفعاليات والندوات والمناقشات التي تجري داخل الكلية، نراه يوثق بمحبة الأشخاص والأحداث وهو حامل كامرته التي لا تفارقه حتى وهو جالس، يبحث عن زاوية أو بقعة ضوء أو حركة أو إيماءة لتكون عينه وحركة يديه قد سرقتها بسرعة البرق مع اعتلاء البسمة على شفته وعينيه المتخفية خلف نظارته، ولطالما عمّد على البحث بين الشعب والوحدات الادارية لالتقاط الصور للسادة المنتسبين فلا يوجد منتسب إلا وله صورة لدى الدرويش، وهو يغلق الباب والستائر ويتحكم بالزوايا والاضاءة لخلق وصناعة لقطة تتناسب مع الآخر وصورته، فهو مُحب للجميع.
الدرويش ونوافذ الزمن:على قاعة المعرض في كلية الفنون الجميلة من يوم 26 /11/2023 أفتتح المعرض الشخصي الثالث للفنان الفوتوغرافي (أنور الدرويش) والموسوم (نوافذ الزمن) وبحضور السيد عميد كلية الفنون الجميلة الأستاذ الدكتور نشأت مبارك صليوا وبرعاية السيد رئيس جامعة الموصل الأستاذ الدكتور قصي كمال الدين الاحمدي وبحضور عدد من الفنانين والأدباء والمثقفين من مدينة الموصل، وهنا بدأ الدرويش يسافر بنا نحو الزمن ونوافذه المتعددة والأزقة الضيقة التي انمازت بها مدينة الموصل، إذ التقطت عدسته تلك المحلات والبيوتات المهدمة التي غادرها أصحابها والتي ما زال بعضهم يقطنونها بالرغم من دمارها، إذ يتعامل مع تلك الموضوعات بوصفها أحداثاً وقصصاً عبر تشكيلاتها الحركية واللونية وتلك الأقواس والمسطحات والشبابيك وانحناءات الشكل وحركة المارة بوصفها لقطة سينمائية عابرة للحدود، فعامل الزمكانية أخذ بفعله بتلك الأزقة، ففي صورة الصبية الجالسين أمام الدار وهم يلعبون ويتحدثون ويضحكون بينما طفل قادم اليهم وتعلو على شفتيه الابتسامة مع حركة جسدته المتمايل، نرى انفتاح العلامات السيميائية وهي تتكشف عبر ذلك الفضاء الممتد للزقاق وتاريخانيته، بينما كتب على الجدار عبارة (دار داخل الفرع للبيع) ويتهاوى أجزاء من ذلك الجدار بفعل الزمن والحرب، وتعلو أعلى الزقاق الشبابيك المستطيلة الخشبية المُطلة على الزقاق، فاللون والحركة والزمن والمكان واللقطة ما هي إلا تشكيلات بصرية ماتعة اقتنصها الدرويش في تلك اللحظة.
وفي لوحة العربة والأطفال نراه يعطي لتلك التشكيلات الجسدية الثابتة والمتحركة في آن مع اللون للشمس والعربة الخشبية التي تنقل الأحمال والمواد المختلفة نظرة أخرى مغايرة فهي أصبحت لعبة لذلك الطفل وهي يضحك وكأنه يسافر عبر الزمن داخل الزقاق جاعلاً من أشعة الشمس ضوءً داخلياً ينير دربه نحو السمو والجمال، منسجماً مع ثنائية الظل والضوء لبناء تشكيلاً وتكويناً ثانية، فالصورة متعددة البناء والتكوين.
أما لوحة العمال التي كانت لعدسة الدرويش لحظات توثيقية لحملة الأعمار التي شهدتها كلية الفنون الجميلة بعد أن أصابها الدمار والحرق على أيدي عصابات داعش لتدمير الجمال والفن في المدينة، فالعامل هو اليد التي استطاعت أن تعيد ذلك الرونق والبهاء في ربوع مدينة المحبة والسلام، فالأول يسير داخل الظل (المُعتم) مرتدياً خوذته وملابسه ولا يظهر منه غير الخطوط الخارجية للشكل، في حين العامل الثاني يسير خلفه في (الضوء) جاعلين من زمكانية الممر حكاية عمل وعشق وجهد وإصرار على إعادة الروح.
والعودة الى تلك الأزقة والبيوتات القديمة التي أكلتها الحرب والسنون، ففيها حكاية أخرى فعمد الدرويش على صناعة تقاربات زمانية ما بين الظل والضوء، الرجل الكبير والشاب، وتلك الدمية الملتصقة بثقب الجدار، ففيها تداخل للأزمنة المختلفة، الرجل الكبير يقف حاملاً حقيبته وقد رسم الزمن خطوط التعب والخوف والقلق والشعر المغطى بالبياض من تلك الأيام، أيام الحروب المختلفة التي انهكت الجسد والفكر والقلب، ينظر إلى ذلك الشاب الواقف في الظل مع ضوء لظله موجهاً نظره إلى الرجل الكبير قارئاً لتلك الملامح المُثقلة بالخوف والحزن، أما الدمية فهي زمن ثالث لذلك الطفل الغائب المجهول المنتظر زمنه المفقود، فالجميع داخل غرفة مهدمة، داخل زقاق مهدم، داخل تلك الشخصيات أيام وأحلام مهدمة منشطرة مقسمة فاقدة الامل، فشكلت الصورة حالة من التداعي النفسي والجسدي والاجتماعي وهي تسعى نحو قراءة المستقبل.
القفل وقاعدته، ذلك الواقف بشموخ والغالق لتلك الأبواب، الساتر لتلك البيوت والاجساد والألسن، يقف هنا شامخاً بعد خلع الباب عنه، بيد أنه ما زال متمسكاً بالجدار متمسكاً ببيئته ومكانه ووظيفته، أراد الدرويش أن يُعطي لذلك القفل صورة يستحق الاحتفاء به عبر ثنائية الضوء والظل جاعلاً منه (بوتريه) وأنت تنظر إليه لوحده بعيداً عن محيطه، فهو إحساس زمكاني ناتج عن تلك اللحظة التوثيقية الحالمة بعودة الباب والعائلة والبيئة.
إن أنور الدرويش عين ثاقبة للحظة والزمن والمكان، فهو يطفو على نهر من ميكانزمات متعددة، يتحقق فعلها الحركي مع تداخل ذلك الفضاء والمكان الناتج من بيئة طقسية، حداثوية، موروثة فعالة تعشق تلك الأزقة وتلك الأبواب والشبابيك والكتابات على الجدران وضحكات الأطفال واللعب والبكاء والحزن والفرح، يحاول الدرويش أن تكون عدسته وعينه هي ذاكرة المدينة والحدث والتاريخ والزمن والمكان.