مقالي المنشور في الصفحة الثقافية لجريدة طريق الشعب عن تخطيطات الفنان والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي … شكرا لكادر الصحيفة وللاخ الاستاذ حسب الله حسب الله يحيى
“الخط نقطة تتنزه”
تخطيطات خالد خضير نموذجا
• خليل الطيار
نزهة النقاط
“الخط نقطة تتنزه” هذا ما يصفه المنظر “بول كيلي” في كتابه الثمين والثري في فلسفته “نظرية التشكيل”، وربما يعد هذا التوصيف الدقيق مفتاحا لتعقب حركة تنزه نقاط الخطوط في أعمال “خالد خضير” النادرة التشكل، فهي تنطلق من نقطة ابتداء تأخذ طريقها لتتنزه في معمارية خطوطه البعيدة المدى … لكن “خالد خضير” لا يرغب لهذه النزهة، أن تكون استجماما عفويا وعابرا، بل يفرض على نزهة نقطته الأولى أن تحدد معيار رحلتها، ويرسم مواطن توقفاتها المؤقتة لتسهم بإظهار عوالم مخبئة في إدراج ذاكرتنا، ويترك لنقاطه وظيفة بيان حروف معانيها المكتشفة، فهي محطات وعوالم استذكار لأحاسيس مضمرة في دواخلنا، وتخرج من خزين ثقافي ومعرفي معمق عند “خالد خضير” وتظهر مجتمعة أحيانا دفعة واحدة كمكابدات قلقة، تجد في لوحاته مستقرا لتعلن عن نفسها بمفردات رمزية متعددة في دلالتها. وتفرض أثرها بقوة في مضمار تخطيطاته المحررة من قسرية الإطار. فهي نقاط ارتحال لخطوط لا تقبل التوقف عند حدود نزهتها المتناهية داخل مساحة مقيدة، بل تنظر لتستريح معبرة عن بداية مضمون مؤجل الاكتمال، لتعاود رحلتها في تخطيط آخر، سنجد فيه استكمالا لآثار ما تركته من انطباعات وعوالم، ظهرت شاخصة بقوة في لوحاته السابقة والمتعاقبة والأسرة.
إذ لا يمكن معرفة مدى حدود النقطة في لوحات “خالد خضير”، إلا بمشاهدة كل جغرافية تخطيطاته، ومحاولة الوصول إلى المنتهى فيها. وبالكاد ستتوقف تشكلاتها، فهو يبقي نقاط ذاكرته تتنزه مسترخية بحرفية عالية، لتدلل على اتجاهات رحلتها الممتدة إلى ما لا نهاية لتدخل أزمنة حاضر تلقيها، بعد أن تأسست بأزمنة أحلام ماضية، لا يمكن القبض عليها بنقطة واحدة. لذلك يمنحها حرية رسم خطوطها الحاضرة لتتعرف على عوالمها بهدوء وتعرفنا بها في ذات الوقت.
الانعتاق من ربقة التأطير
منذ أن جَرَّ “خالد خضير” أول خط على نطوع رسومياته ووضع نقطها، كان يدرك أن “تأطير اللوحة” سيقيض حدود البوح فيها، ويعجزها عن احتواء فكرته، فحررها منه. هذا التحرر من حدود الإطار، ترك له مساحة مفتوحة، غير مقيدة بربقة التوازنات الفنية المشروطة، فهو لا يرسم داخل مساحة، وإنما يتجول في عوالم. لذا لا نجد في لوحته مكانا محسوسا أو ملموسا بل نعثر فيها على أفكار متعددة! فهي لوحات مفتوحة الأفق تستوعب علامات “سيميائية” تنقط له ما يريد تكثيف التعبير عن دلالاتها. فهي مسرودات نقطية لا تقبل التكيف مع الكم ولا تقبل تحديدها بسرد مكتوب ينتهي معناه عند نقطة رأس السطر!
تنقيط خزين الذاكرة
متون تخطيطات “خالد خضير” تحتوي على مكنونات متشعبة يستعيض لسردها، بالرمز، والاستعارة، والتماثل، والتشابه. وسرعان ما تنبعث فيها العديد من موروثات ثقافته المكتنزة في مدياتها، ما تنفك ترمي بضلالها بقوة في لوحته فنجد له تماثلا لرقعة الشطرنج التي يجيد رسم استراتيجية تنقلاتها مستفيدا من تشكلات مربعاتها الميدانية. كما نجد في لوحته آثارا من النقوش والمنمنمات الإسلامية والآثارية، كما في توظيفه لرسمة السعفة السومرية، يماثل فيها ما يتفلت من تشبع مخيلة بيئته المحلية، حيث تشكل سعفات “نخيل البصرة” إرثا في ذاكرة لوحاته التخطيطية. كما تترك موروثات قصص “كليلة ودمنة” و “ألف ليلة وليلة” تأثيرها عنده، كما يستفرغ صياح ديكة “شهريار” المخلصة من قهرية العذابات والموت المحتوم! وطالما بقيت علامة الرأس المقطوعة، في تشكلاتها الحسينية المفجعة، تحملها قواعد تخطيطاته دائما، والتي يحاول أن يترك فيها أثرا لخياطة أوجاع جسده النازف.
لو تتبعنا مسار خطوطه وتنقيطاته، سنجد أن رسوميات “خالد خضير” تعتمد طريقة السبك المتداخل والمترابط، رغم تزاحم الخطوط والنقاط في نقوشاتها. فهو يعتمد طريقة الحائك الماهر الذي يجيد فن وضع “العقدة” الأولى لسجادته وهو يدرك مسبقا مكان إنهاء عقدتها الأخيرة مهما طال مداها.
ثراء النقد بالتطبيق
يبذل “خالد خضير” جهدا لتكون رسوماته ممثلة عن مستوى وعييه التنظيري، فهو ناقد حاذق ترك إرثا نقديا متفردا، عزز من رصيد النقد التشكيلي المتخصص، ويعد من أعمدته الفاعلة في ملاحقة مستوى منتج التشكيل العراقي، يواكب أفقه، وتحولاته، ويرصد مفاهيمه الفنية، ويتابع بحرص نتاج الرسامين الرواد ومجايليهم، ويرصد بوعي تطور أفق اللوحة الحديثة على أيدي الرسامين المعاصرين، ويترك لها قراءات معرفية معمقة.
هذه الثقافة المعرفية المتخصصة أجبرت “خالد خضير” على ان لا تظهر رسوماته المبكرة في حالة ابتدائية سائبة من حدود التصنيفات الأسلوبية. ولا تتوقف عند مضمار التخطيط، بل ترك فيها أثرا جماليا لتتلمس مساحة اللوحة التشكيلة الحديثة وتختار نفسا “سيميولوجيا” كمرتكز لسردياتها. فهي أعمال تضطرك إلى الحفر في أخاديدها إلى ما لا نهاية ولا يمكن حصرها بعنوان محدد. فهي أقرب إلى المتون المفتوحة التأويل، منها إلى حالة العنونة المحددة.
إن لوحات “خالد خضير” التخطيطية، تمتلك كل مقومات معاييرها الجمالية، لأنها تتأسس على إرث معرفي غزير، فهو لا يترك فيها أثرا لثغرة، شكلا ومضمونا، لأنه الناقد الأول لمضمار لوحاته. ناهيك عن أن أعماله تعد مصفوفة شطرنجية، امتلك خبرة عريقة في رقعتها لاعبا ومدربا، لكنه استبدل في رسوماته البيدق بقلم التخطيط، ليتلاعب من خلاله بنقلات مصفوفاته البَصًرية، ليعطي بحكمة قرار كش ملك لأحكام قبضة سرديتها ؛ فتخرج لوحاته التخطيطية من يد لاعب مهاري يجيد فن صناعة نجاحها مسبقا. وهو ما يثير استغراب جمهور التشكيليين عن أسباب عدم تطوير “خالد خضير” هذه البدايات المدهشة لاشتغالاته التخطيطية، المثيرة في مفاهيميتها، والفريدة في اسلوبيتها؟ وقد لا تبرر انشغالاته التنظيرية، واهتماماته النقدية لتضييع فرصة الحصول على فنان تشكيلي مثري، أفصحت بداياته عن مستقبل لمشروع فنان تشكيلي كبير.