تحقيق – حلا ماضي
وطنية – في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول من العام 1989 أقر اللقاء النيابي في مجلس النواب اللبناني وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية . فأسدلت تلك الوثيقة الستار على ما يزيد عن خمسة عشرة عاما من المآسي عاناها اللبنانيون في مختلف المناطق اللبنانية وأودت بحياة ما يزيد عن 150 الف قتيل وما يقارب 300 ألف بين جريح ومعاق عدا عن 17 ألف مفقود، وخسائر مادية فاقت 100 مليار دولار أميركي ، إضافة إلى هجرة داخلية وخارجية لمعظم أبناء الوطن.
هذا العام تطوى الحرب الأهلية وحرب الغير في لبنان الذكرى الأربعين لإندلاعها، إلا أن صور الشهداء والخراب والدمار والقهر لا تزال ماثلة في ذاكرتنا تذكرنا بنتائج تلك الحرب.
صور وثقت بشكل يومي الأحداث اليومية التي كانت تدور على المحاور التقليدية حينها كالأسواق والفنادق وخطوط التماس في منطقتي المتحف وكنيسة مار مخايل في الشياح.
مصورون إتخذوا من كاميراتهم “سلاحا” لهم يحملونها ويجولون من محور إلى آخر ومن خندق إلى “زاروب” “ليصطادوا” من أشرس المعارك وأقسى المناظر صورا توثق لمآسي الحرب وويلاتها. فمنذ إندلاع الحرب في لبنان في الثالث عشر من شهر نيسان من عام 1975 تحول المصور الصحافي الى شاهد على يومياتها. هم اليوم يتحدثون عن ذكرياتهم مع الحرب ، فتارة يضحكون على “نهفات ” حصلت معهم أثناء عملهم وتارة أخرى يتألمون عندما يتذكرون رفاقا قضوا أثناء تأدية واجبهم الإنساني وتحولوا هم إلى صورة تتحدث عن بشاعة الحرب كما يقولون: كالمصور جورج سمرجيان من جريدة النهار الذي قضى في منطقة إنطلياس في أواخر أيام الحرب لدى سقوط قذيفة الى جانبه فسقط بعد أن صور يوميات الحرب اللبنانية منذ انلادعها. وهذا هو حال المصور خليل الدهيني الذي سقط عندما انفجرت قنبلة تحت قدميه أثناء التقاطه صورا لإنفجار سيارة مفخخة في منطقة كركول الدروز في بيروت في الثمانينيات إضافة إلى غيرهما من المصورين الشهداء الذين سقطوا خلال الحرب وبعدها.
سيف الدين:المصور في قلب الحدث
علي سيف الدين مصور راسل عددا من الصحف والوكالات خلال سنوات الحرب هو يعتبر أن “مهنة المصور أخطر من قتال المقاتلين في ما بينهم وعلى الرغم من عدم وجود أدوات للحماية كالخوذة والسترة الواقية حينها لم يكن المصور يتردد بالتوجه إلى قلب الحدث”.
تعود الذاكرة بالمصور علي سيف الدين إلى أربعين عاما فيتذكر كيف كان يتصل بزملائه منذ الصباح لينطلقوا بعدها معا في جولة يومية على الجبهات المشتعلة حينها (الفنادق المتحف ،الاسواق) فيشاهدون المسلحين المختبئين وراء متاريسهم ويروي كيف كان هؤلاء بداية يحاولون منعهم من الوصول الى “محورهم” من خلال إطلاق الرصاص في الهواء ليس خوفا من المصور بحد ذاته بل خوفا من الصور التي يلتقطونها لهم وهم “يمارسون” هواية القتل والقنص بين منطقة وأخرى، “غير أن هؤلاء سرعان ما تأقلموا مع حشريتنا اليومية وكانوا يطلبون منا أحيانا تصويرهم أثناء قصفهم المناطق المقابلة بقذائف “آر بي جي “وغيرها ثم نشرها في الوسائل الإعلامية حيث نعمل ليشاهدوها في اليوم التالي”.
لا تعد الصور التي التقطها سيف الدين صورا عن أطفال قتلوا أثناء نومهم عندما سقطت القذائف فوق رؤوسهم، صور عن أباء قضوا خلال توجهم إلى عملهم أو لشراء ربطة خبز لأولادهم إلا أن صورة واحدة لا تفارق عينيه وبقيت حاضرة في ذهنه رغم مرور عشرات السنين، صورة تعود إلى سيدة كانت نائمة في منزلها عندما سقطت إحدى القذائف في الغرفة المجاورة فحملها ذووها محاولين تغطيتها بأي شيء وهي تصرخ في الشارع والدماء تغطي وجهها لا تعرف ماذا حدث لها.
وهل يتطلب التقاط صورة التعرض للخطر و”التجرد” أحيانا من الحس الإنساني والبحث عنها بين الضحايا والسيارات المفخخة؟ لا ينفي سيف الدين طغيان الشغف المهني لدى المصور الحربي إلا أنه كان يعتبر أنه كلما كانت الصورة قاسية ومؤلمة ربما تردع المقاتل أو الزعيم من تكرار ما تظهره صورة الحرب من بشاعة.
ويقول: “كنا نلتقط الصور ونمكث ساعات داخل “استديوهاتنا المظلمة” لتظهيرها متحملين روائح الادوية الكيميائية الخاصة بتلك العملية والتي حولت شعرنا إلى اللون الابيض وفي أحيان أخرى سببت للبعض حساسية مزمنة”.
سلمان: الصورة وثيقة تاريخية
على الرغم من التعرض للخطر خلال سنوات الحرب وجهوده في توثيق الحرب اللبنانية من خلال الصور الفوتوغرافية التي كانت ولا تزال الوثيقة التاريخية الوحيدة لأرشيف تلك الحرب إذ أنه لم يكن التقاط الصورة سهلا كما هو اليوم فإن المؤسستين سواء الرسمية أو الاعلامية لم تسلطان الضوء على الدور الذي قام به المصورون آنذاك كما يقول رئيس قسم التصوير في جريدة السفير اللبنانية عباس سلمان والذي واكب أحداث الحرب في لبنان لحظة اندلاعها عام 1975 وهو لا يزال يذكر إحدى أوائل الصور التي التقطها لدى استشهاد رائد في الجيش اللبناني أمام عينيه بسبب رصاصة أحد القناصين عندما كان الاخير في عداد لجنة أمنية كانت تسعى لوقف القتال بين منطقتي عين الرمانة والشياح.
لكن هل كان اشتعال المحاور في تلك الايام وسقوط الصواريخ والقذائف العشوائية على مختلف المناطق اللبنانية على حد سواء يجعل المصور يتردد بالنزول الى الشوارع والقيام بالمهمة؟ أجاب: “كنا نقول في قرارة نفسنا في كل يوم “قد نذهب قد لا نعود لا نعرف ماذا ينتظرنا”، لكن هذا الإحتمال لم يجعلنا نتردد لحظة بأن نسبق المقاتلين أنفسهم إلى المحاور التي بتنا نعرفها متراسا متراسا”.
ويقول سلمان: “المصور كان يذهب لتأدية مهمته و”دمه على كفه” كنا نمشي في “الزواريب” وننزل في الفجوات التي سببتها الصواريخ لالتقاط زاوية مناسبة للصورة”.
وعن الصور التي لا تزال ماثلة بذاكرته رغم مرور السنين يتذكر “صورة ذلك الطفل المختبىء داخل حفرة وينتظر هدوء القصف وسكوت الرصاص ليهرب إلى جهة لا يعرفها ولكنها قد تكون أكثر أمانا، فكلما أنظر إلى تلك الصورة يتبادر إلى عقلي إبني أو أي طفل لبناني آخر يختبئون داخل فجوة ويخيم عليهم الظلام بسبب عبثية حرب الغير على أرضنا”.
مصورو الحرب اللبنانية صحافيون عشقوا مهنتهم وضحوا بحياتهم من أجل التقاط صور تؤرخ قساوة الحرب وبشاعتها ليراها الرأي العام، عل تلك الصور توقظ المشاعر وتردع الجيل الجديد من تكرار تجربة الحرب فتكون تلك الصور ذكرى نقول عند مشاهدتها “تنذكر وما تنعاد”.