حوار مع المصور السينمائي الإيطالي “فيتوريو ستورارو”
علي كامل
نشر في الفوانيس السينمائية
مغزى الضوء (*)
حوار مع المصور السينمائي الإيطالي “فيتوريو ستورارو”
يعتبر المصور السينمائي الإيطالي فيتوريو ستورارو أحد أعظم المصورين السينمائيين في العالم. ولد في روما عام1940. كان والده يعمل عارضاً سينمائياً في ستديوهات لوكس الشهيرة وكثيراً ماكان يصطحبه معه لمشاهدة الأفلام في غرفة العرض التي لم تكن حينها مزوّدة بأجهزة الصوت مادفع الصغير إلى الإكتفاء بمشاهدة الصور فقط ومحاولة قراءة دلالاتها. إلتحق فيتوريو بالمعهد التقني للتصوير الفوتوغرافي وهو في سن الرابعة عشر ثم واصل دراسته فيما بعد في معهد التدريب السينمائي والمركز السينمائي التجريبي في روما.
بعد لقاءه ببرناردو بيرتولوتشي، الذي كان يدرس السينما هو الآخر آنذاك، نشأت بين الإثنين صداقة وشراكة إبداعية طويلة الأمد توّجت فيما بعد بأيقونات سينمائية رائعة أمثال “إستراتيجية العنكبوت” و “الإمتثالي” و “التانغو الأخير في باريس” و “1900” و “القمر” و “الإمبراطور الأخير” وسواها. أما نتاجاته الأخرى فلعل أشهرها فيلم “القيامة الآن” لفرانسيس فورد كوبولا الذي حاز فيه على جائزته الأولى للأوسكار، ثم فيلم “الحُمر” لوارن بيتي، الفيلم الذي حاز فيتوريو من خلاله على جائزته الثانية للأوسكار،
متابعاً أفلامه اللاحقة “Tucker” أو الإنسان وحلمه، لكوبولا، وفيلم “Dick Tracy” لوارن بيتي، وفيلمه الأول مع المخرج
الأسباني كارلوس ساورا “فلامنكو”، والثاني “تانغو” الذي يحكي قصة نجم التانغو السابق ماريو، الفيلم الذي هو بمثابة وليمة للحواس لاينبغي تفويتها.
لقد حدد ستورارو طبيعة وجوهر عمله في أكثر من مناسبة بكلمات موجزة ومعبّرة بقوله:”إن الصراع بين الليل والنهار، بين الظلال والضياء، بين الأبيض والأسود، بين التكنولوجيا والطاقة، هو الذي يتحكم بي وبجوهر عملي دائماً”. وقد تجلى هذا الصراع بين المصادر المتضادة للطاقة في تعامله مع الضوء، محققاً بذلك وضوحاً جمالياً حقيقياً، مؤكداً، إلى جانب بعض من مجايليه كجويسب روتانو
وباسكويل دي سانتيس، على إنحيازه الواضح لتأريخ إستخدام الضوء في تقاليد الرسوم الزيتية الإيطالية لعصر النهضة والذي أصبح جزءاً من تقاليد السينما الإيطالية.
في فيلمهما المشترك الأول “إستراتيجية العنكبوت” إستطاع ستورارو أن يستكشف كل إمكانات الضوء الطبيعي، مستحضراً، وبرأي العديد من النقاد الأوربيين، ذلك السحر البصري الذي أبدعه لوتشينو فيسكونتي. فيما نرى فيلم “الإمتثالي” على النقيض من ذلك، فهو يبدو كما لو أنه مجرد ممارسة أو تمرين أولي في الضوء والظل، محيلاً المتفرج إلى نوع من الكلوزتروفوبيا أو رهاب الإحتجاز مذكراً إيانا بنمط أفلام التعبيرية الألمانية.
يقول ستورارو في هذا الصدد:(فيلم “الإمتثالي” يكاد يكون مجرد فيلم بالأبيض والأسود في البداية، إلا أنه يُشاهد بشكل آخر مختلف في النصف الأخير، حيث تتداخل الضياء بالظلال ويصبح الإثنان مثل مقطعين يتوحدان ثانية بعد قطيعة).
هذه الثنائية والتوازن ذاتها تكاد تهيمن على فيلم “التانغو الأخير في باريس”، الذي حاول ستورارو فيه أن يعيد إنتاج الضوء الشتوي الباريسي الخارجي، والضوء الصناعي الداخلي، من خلال مزج كل ذلك بتونات حارة، لاسيما اللون البرتقالي، لكي يعيد إنتاج عواطف الشخصية.
إن تصويره لأفلام برتولوتشي قد حققت دون شك أقصى تعبير شعري لها، لاسيما فيلمه الشهير (1900)، الذي له الفضل في إجتذاب إنتباه ودهشة كوبولا حالاً، الذي سيسارع حالاً في دعوته لتصوير “القيامة الآن” الفيلم الذي توّج هذه المرحلة من حياة ستورارو المهنية. فالمشاهد المفرطة في واقعيتها لقصف قنابل النابالم كانت تتعارض من ناحية الدلالة مع الضوء الطبيعي للغابة. هذا التضاد الذي يمكن تلخيصه بمقارنة بسيطة مابين مصباح زيت الزيتون والكشّاف الضوئي.
يستأنف ستورارو مشواره الطويل مع برتولوتشي في مرحلته الثانية أيضاً ويبلغ المثلث أقصى بهائه بإنضمام كوبولا إليه.
في فيلميه “القمر” و “الحُمر” يزعم ستورارو أنه أسس لرمزية اللون تلك التي تجسدت في فيلمي “الإمتثالي” و “التانغو
الأخير في باريس”. وواصل بحثه عن نظام لرموز الألوان فيما بعد في فيلمه “واحد من القلب”مستخدماً الألوان المتعارضة هذه المرة، لتحديد شخوصه وخلق نوعاً من التوافق الخفي بين الظلال اللونية وعواطف الشخصية، منتجاً بذلك تضاداً مدهشاً بين واقعية الحدث والواقعية المفرطة للصورة، وهذا الإستكشاف تواصل في فيلم “الإمبراطور الأخير” أيضاً. يمكننا إضافة ملاحظة عابرة في هذا الصدد أنه حتى في أفلام أقل شهرة كفيلم “السماء الواقية” و “بوذا الصغير” وسواها مثلاً إستفاد برتولوتشي من حضور ستورارو خلف الكاميرا كأستاذ حقيقي للضوء. ومع ذلك يبقى فيلم “القيامة الآن” دون شك هو الإنجاز الأكبر له.
إذا كانت المرحلة الأولى تتجلى في التعامل مع سحر الضوء (أفلام بيرتولوتشي)، والثانية مع رمزية اللون (أفلام كوبولا)، فإن المرحلة الثالثة تمثل بحث ستورارو عن توازن بين العناصر المتضادة (أفلام كارلوس ساورا).
إن تقسيم رحلة ستورارو إلى ثلاث مراحل هو تعسف بالطبع. لكن يمكن القول عموماً أن هذا المبدع الكبير هو أحد القلائل من المصورين السينمائيين من إستطاع أن يحافظ على وحدة أسلوبية مستندة على وعي نظري وتأريخي لتقاليد اللوحات الزيتية الإيطالية التي ترجع إلى بييرو ديلا فرانشيسكا وكارافاجيو.
ولأختتم هذه المقدمة بكلمة موجزة ومعبرة لستورارو نفسه يقول فيها:
(منذ أول خدش للكتابة على جدران الكهوف، ومنذ الرسومات المصرية الأولى، منذ بييرو ديلا فرانسيسكا، كانت لدينا ثمة وسائل للتعبير عن القصص العاطفية والشخصيات العاطفية في أسلوب محدد. وما من شك أنه عند تصميم أية لقطة لفيلم، فإن ذلك هو بمثابة تمثيل لألفي سنة مضت من التأريخ، سواء أدركنا ذلك أم لا).
***
“الضوء هو العالم، والعالم هو الحب، والحب هو المعرفة، والمعرفة هي الحرية، والحرية هي الضوء، والضوء هوالطاقة، والطاقة هي كل شيء”
فيتوريو ستورارو
نص المقابلة:
س: كيف أدركت لأول مرة بزوغ رغبتك في ميدان التصوير السينمائي؟
ج: حسناً، ينبغي القول بدءاً إنني صورة للحلم المتحّقَق لوالدي. فقد كان والدي يعمل عارضاً سينمائياً لسنوات طويلة مع شركة كبيرة في إيطاليا تدعى لوكس فيلم Lux Film، وكان يحلم بدون شك أن يكون جزءاً من تلك الصور التي كان يعرضها على الشاشة كل يوم. وهكذا فقد دفعني بالتالي إلى دراسة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
سيرتي ووالدي شبيهة إلى حد ما بمايحدث في فيلم (سينما بارادايس) **، فقد كنت في طفولتي أذهب وإياه في معظم الأحيان لمشاهدة الأفلام التي كان يعرضها، وقد كنت مفتوناً جداً بأفلام تشارلي تشابلن على وجه الخصوص.
سُمح لي بالدخول إلى معهد التصوير الفوتوغرافي وأنا في الرابعة عشر من العمر، ومن بعد، وحين بلغت الثامنة عشر عاماً دخلت إمتحان القبول في مركز السينما التجريبية (Centro Sperimentale di Cinematografia)، وقتها أدركت أن تلك هي رحلة الحلم، وأن الفشل في ذلك الإمتحان يعني التخلي عن تلك الرحلة. لأنني لم أكن أعرف ماالذي سأفعله حقاً لو أنني لم أستطع إجتياز ذلك الإمتحان، حيث أن قانون القبول يومها لايقبل سوى
ثلاثة متقدمين في العام الواحد، لكنني كنت محظوظاً وإستطعت إجتياز الإمتحان بإمتياز لأدخل هذا العالم الرحب.
س: كيف واصلت دراستك؟
ج: الأعوام الثلاث التي أمضيتها في مركز السينما التجريبية كانت أعواماً مدهشة حقاً، لأننا إستطعنا حينها أن ندرس الشيء الذي نحب. لقد كان
شيئاً ممتعاً، لاسيما في السنة الثانية، أن تتحدث مع المخرج حول موضوعات كالرؤية والقصة، والشروع في إنجاز عمل بدون ضغوط الإنتاج والمسؤولية التي عادة مايأخذها المرء على عاتقه. لكنني مع ذلك أدركت إلى أنني مالم أشرع إلى الدخول في عملية الإنتاج السينمائي فعلاً فإنني لاأستطيع أن أتوازن مع نفسي، لأن الطالب في معهد السينما لايتعلم سوى
النظرية فقط. لذا طلبت من والدي حينها مساعدتي بأن يتحدث مع بعض المنتجين الذين يعرفهم بهذا الشأن. وتم ذلك بالفعل وإستطعت الدخول إلى عملية الإنتاج السينمائي والعمل في موسم الصيف مابين السنتين الدراسيتين و بعد إنتهاء سنتي الثانية أيضاً وبدون أجور بالطبع.
وقد واصلت جهدي فعلاً في الوصول إلى موقع التصوير ومعرفته، وإستطعت أن أفهم بسرعة ماالذي يجري هناك لاسيما إنني درست تسع سنوات تضمنت التصوير الفوتوغرافي والسينمائي معاً.
المصورون السينمائيون الذين إلتقيتهم آنذاك كان مندهشين لصغر سني وحسن إطلاعي. لذا فحين بلغت الحادية والعشرين
كنت يومها أصغر مصور سينمائي في إيطاليا، عندها أدركت حقاً أنني بحاجة إلى معرفة بتكوين الصورة والإيقاع لأنهما عنصرين أساسيين في عملي، لذلك قررت رفض أي مشروع يقدم لي للعمل كمصور.
كنت في الواقع بحاجة وقبل كل شيء إلى دراسة مغزى ميزانسين الكاميرا. لقد كنت شاباً لديّ توق لمعرفة كيف يمكنني بالضبط أن أحكي قصة من خلال الكاميرا؟.
س: متى أنجزت فيلمك الأول كمصور سينمائي؟
ج: في عام 1968 وكان عمري ثمانية وعشرين عاماً. كانت ثمة لحظات تمر بي خلال عملية التصوير لم أشعر فيها بأي
إحساس لتشغيل الكاميرا. يومها قال لي أحد أصدقائي:”فيتوريو، هذا هي اللحظة التي ينبغي لك فيها أن تغادر فيها لتبدأ
التعبير عن نفسك عبر الضوء بشكل كامل”. المخرج السينمائي “فرانشسكو روزي” طلب مشاهدة الفيلم القصير الذي أنجزته مع بعض الأصدقاء واقترح عليّ أن أصور فيلمه الأول “الشباب، الشباب”.
لقد كانت تلك اللحظة أشبه بحلم، لأن روزي منحني الحرية في التعبير عن نفسي، وكان يقدم لي الإرشادات في نفس الوقت
مثل بقية الطلاب. لقد كان روزي بمثابة أباً لي. أتذكر حين شارف الفيلم على النهاية، أحسست كما الحب الأول وهو يدنو من نهايته، وأن في غضون أيام قليلة سينتهي التصوير، وليس ثمة سبيل أستطيع من خلاله أن أشعر بتلك الهزة وذلك الوهج مرة أخرى.
من الممكن أن أعمل مئات الأفلام الأخرى، أفلام صغيرة وكبيرة، مدهشة أو عادية، لكن، لن تكون جميعاً بذات الطريقة تلك مطلقاً. يومها بكيت. نعم بكيت، لكنني أدركت في نفس الوقت أن تلك هي الطريقة الصائبة للتقدم خطوة فخطوة لمعرفة أشياء جديدة. وقد أحببت ذلك جداً.
بعدها وفي أحد الأيام صادف أن دخلت إحدى الكنائس وكانت معي خطيبتي، التي هي زوجتي الآن، فطالعتني هناك لوحة زيتية مذهلة. لم أكن أعرف يومها إسم الرسام، إلا أن تلك اللوحة لامست شغاف قلبي حالاً وبقوة. عرفت فيما بعد أنها “نداء القديس ماثيو” للفنان العظيم مايكل أنجلو كارافاجيو.
ما أدهشني فيها حزمة الضوء التي تشطر اللوحة من الأعلى إلى الأسفل إلى قسمين أحدهما معتم والآخر مُنار بضوء النهار.
أتذكر أنني كنت أفكر حينها أن هذين القسمين كانا يجسدان الجانبين الإنساني والإلهي للحياة وكذلك الوجود الواعي وغير الواعي للبشر. تلك هي المرة الأولى التي رأيت فيها كيف يُستخدم الضوء والعتمة كإستعارات للحياة والموت. أتذكر أيضاً كتاب لوليم فولكنر إسمه (أبسالوم أبسالوم!) تتحدث فيه الشخصية الرئيسية كيف أن شعاع شمس توغل داخل غرفة وشطرها الى أقسام كما لو أنها الأقسام الأخرى لحياة للشخصية. إنه ذات المفهوم الذي تتضمنه لوحة “نداء القديس ماثيو”. كل ذلك جعلني أفكر أنني بحاجة حقاً لئن أفهم باعث الضوء ودلالته.
حين وصلت إلى ستديوهات السينما الكبيرة كان رصيدي المهني ماتعلمته كمصور سينمائي في معهد السينما، ومعهد السينما لايعّلم الكثير. إنه يعلمّك تكنولوجيا التصوير بالدرجة الأولى، لكنه لايزودك بمعلومات عن الفنون الأخرى للأسف الشديد. السينما هي إحدى الفنون التي تقتات بالفنون الأخرى كالأدب والرسم والموسيقى والمعمار والفلسفة وسواها. كان
ينبغي أن يعطوا دروساً في كيفية إستخدام الألوان، دلالة الضوء والعتمة والحركة وسواها، بنفس الطريقة التي يستخدم فيها الكاتب الكلمات ليكتب أدباً. لذا فقد إبتدأت أتعلم وأقرأ وأصغي وأشاهد وأعمل أي شيء من أجل إدراك مغزى ما أفعل وليس الإكتفاء فقط بالمعرفة التكنولوجية التي زوّدنا بها معهد السينما. كنت أعمل حينها من خلال “الإحساس” فقط، ولم أكن أعي ماهية الضوء والظل تماماً. لكنني في وقت لاحق، أدركت أنه يمكن للوّن أن يعني “شخصية character” فعلاً.
الضوء يحكي القصة من خلال اللون، تماماً مثلما هي الكلمات في الأدب، والنوتة في الموسيقى، فهم جميعاً يروون لنا إحاسيس القصة.
وهكذا ومنذ تلك اللحظة وحتى هذه اللحظة لم أتوقف مطلقاً عن أن أكون تلميذاً أو دارساً. لقد كنت أعمل بشكل إحترافي وأواصل البحث في نفس الوقت.
أنجزت ثلاث كتب كان “الكتابة بالضوء” آخرهم، والذي وضعت فيه جّل تلك المعرفة التي يمكن أن تتأتى من أولئك الفلاسفة والرسامين والعلماء الذين إطلعت وتعمقت في نتاجاتهم. وهكذا فقد كنت محترفاً ولكن في ذات الوقت هاوياً لأنني في عملي على كل فيلم كنت ومازلت أسعى أن أضع على الشاشة ماتعلمته من أرسطو وبلاتو، من موتسارت ودوستوييفسكي، وأي إحساس كنت قد إكتسبته عبر أي شكل فني. إنني مازلت أبحث وأنا أحب ذلك.
س: إذن، مع كل ما تتمتع به من خبرة، إذا نظرت إلى الخلف اليوم، فهل هناك خبرة عمل ما محّدد كان لها الأثر الأكبر عليك؟
ج: الكثير يسألني هذا السؤال لكن الإجابة عليه تبدو لي عسيرة جداً لأننا كمصورين أو كتّاب أو موسيقييين، ننجز عادة مشروعاً واحداً فقط طوال حياتنا. إذا كتبنا مقالات عدة أو أنجزنا أفلام عديدة أو قمنا بتلحين أغان، فكل واحد من هذه الأعمال هو بمثابة خطوة صغيرة في حياتنا تمثل لحظة واحدة مميزة خاصة ونوعية. ماننجزه في الواقع ليس سوى عمل واحد فقط، هو فلم حياتنا.
كل فيلم، سواء كان جيداً أو رديئاً، يمثل خطوة واحدة مميزة خاصة ونوعية. لايمكنك أن تتناول صفحة واحدة من كتاب وتقول أنها أفضل صفحة فيه. كما لايمكنك أن تأخذ نوتة واحدة من سمفونية وتقول أنها أفضل نوتة فيها. وهذا الشيء ذاته ينطبق على السينما أيضاً.
السينما على التضاد من الفوتوغراف والرسم، هي فن الحركة. إنها بحاجة إلى إيقاع، بحاجة الى زمن لتتقدم به من البداية عبر رحلة حتى النهاية.
بوسعي أن أسمّي بعض عناوين أفلام كانت بمثابة نقاط حاسمة بالنسبة لي، ولو تأملت تلك الأفلام فبوسعك رؤية التطور الحاصل في حياتي الإبداعية. إلا إن أية نقطة وسيطة بين نقطة عبور وأخرى هي نقطة مهم جداً أيضاً.
لايوجد شك مثلا أن فيلم روزي “الشباب، الشباب” هو بمثابة حجر الزاوية في حياتي ومحتمل أن يكون الفيلم الثاني هو “الإمتثالي” لبرتولوتشي. لكن، لم يكن بمقدوري تصوير فيلم “الإمتثالي” لو لم أكن قد صوّرت إثنين أو ثلاثة من الأفلام التي عملتها ما بين تلك الفلمين، لأنهم أضافوا لي إدراكاً، منحوني فرصة كي أبرهن على ماتعلمته من تلك التجربة الأولى.
“الإمتثالي” كان بمثابة فتح بوابة جديدة، فرصة لإكتشاف الهّزة في الروح، إحساس باللون الأزرق. وقد واصلت إنجاز مشاريع عديدة أخرى بعد هذا الفيلم لأعبّر عن “الشخصية” و “الإحساس” عبر اللون الأزرق، وقد إستمر ذلك معي لغاية
فيلم “التانغو الأخير في باريس” الذي صور في نفس المدينة، باريس، ولكن بقصة أخرى، وقدإكتشفت اللون البرتقالي هذه المرّة لأعبر عن أحاسيس تلك الشخصية. بعدها قمت بتصوير فيلم “1900” الذي كان موضوعه يتناول البحث عن توازن بين مراحل مختلفة من الحياة: قصة شخصيتين، فلاح ومالك الأرض. تابعناها في أربعة مراحل مختلفة الطفولة، المراهقة، البلوغ، الشيخوخة مثلما هي الفصول الأربعة في الطبيعة تماماً.
بعدها جاء فيلم كوبولا “القيامة الآن” والذي كان بمثابة تحليق مفاجىء فوق سحب كل التجارب والبحوث التي عملتها بشأن الضوء. لم يكن بمقدوري تصوير ذلك الفيلم مطلقاً بالطريقة التي عملتها به دون تلك الخبرات التي كنت أمتلكها من قبل، لأنني وضعت فيه كل رؤيتي الفلسفية. حين تحدثت مع فرانسيس فورد كوبولا حول كيفية حل مشكلة الشخصيات الرمزية،
كنت أعني الجانب الفلسفي بالطبع. إنه فيلم يمثل الجانب المعتم للمدنية، لذا كان ينبغي أن يُصّور بالطريقة التي يتم فيها تصوير ذلك الجانب غير الواعي لأنفسنا. لاوجود للظل أو العتمة. إنهما موجودان فقط بسبب الضوء. الضوء هو العنصر الذي يخلق الظل. إن عالم العتمة ينتمي إلى عالم المدنية، لذا فمن العتمة فقط التي تمثل اللاوعي، يمكن أن ينشأ، خطوة فخطوة، شيء أشبه بلغز يُظهر لنا وجه الخوف، الخوف من أية حرب. تلك كانت رؤية فلسفية لم نكن ندركها في حينها.
عندما قررت أن أضفي لوناً صارخاً جدا على الطبيعة، وضعت لوناً دُخاني، ذلك الذي يستخدم عادة للطائرات المروحية ليعطي إشارة الهبوط أو التحليق. لقد وضعت لوناً صناعياً، طاقة صناعية في الإنارة التي إستخدمتها تقف على قمة الطاقة الطبيعية، لأن مفهوم جوزيف كونراد في “قلب الظلام” يتمحور حول أن كل ثقافة تسعى أن تعتلي فوق الثقافة الأخرى بوسائل عنيفة. وكان ينبغي عليّ تجسيد ذلك المفهوم بشكل بصري.
إن جّل تلك الدراسات والبحوث ساعدتني لأعبّر عن ذاتي خلال العناصر التي أمتلكها. مثلما يمتلك الموسيقي نوتاته أمتلك أنا الضوء والظل واللون. وهذا ماسعيت إلى عمله منذ البداية.
بعد فيلم “القيامة الآن” أحسست أنني بحاجة إلى التوقف عن العمل لهنيهة لأنني بلغت نقطة كان من المستحيل عليّ الإستمرار، مالم أعرف الكثير عن مفهوم الضوء.
وبالفعل توقفت عن العمل لعام واحد وعدتُ لأصبح تلميذاً من جديد، أقرأ الكتب سعياً في معرفة مكونات الضوء، وهذا هو ماقادني إلى إكتشاف الألوان. وكانت تلك متعة مابعدها متعة، فقد إكتشفت القيمة الرمزية للون، المعنى، الفلسفة، فلسفة الضوء.
لقد تعلمت أن كل لون بوسعه أن يغير من عمليات البناء والهدم فينا، يغير ضغط دمنا. وعن طريق هذا الإكتشاف فقط إستطعت عمل فيلم بيرتولوتشي “القمر”.
لقد أدركت فلسفة اللون، أدركت أن كل لون بوسعه أن يغيّر أجسادنا ومواقفنا، وهذا ماجعلني قادراً على تصوير حياة”الإمبراطور الأخير”، الفيلم الذي يتحدث عن حياة شخصية واحدة منذ البداية وحتى النهاية. أما كيف إستطعتُ تصوير تلك الشخصية، فقد كان ذلك فقط من خلال مجاز الضوء!.
بالتالي، إذا كانت الحياة تتضمن لحظات مختلفة عديدة من مشاعر وأحاسيس، فإن الضوء هو الآخر يتضمن ألواناً مختلفة عديدة، وفي إمكاني أن أعمل صلة بين الإثنين وأروي رحلة حياة هذه الشخصية بشكل بصري.
س: الذي يسمعك يتكونّ لديه إنطباعاً أن المصورين السينمائيين ينبغي عليهم دراسة الفلسفة..
ج: تماماً. لايفترض بالمرء طبعاً أن يكون ممثلاً أو شاعراً أو رساماً ليكون مصورا سينمائياً، لكنه بحاجة في الأقل أن يعرف شيئاً عن كل أشكال الإبداع هذه.
في فيلم (ladyhawke) صمّمت إضاءة لكنيسة يعود بنائها إلى أوائل القرون الوسطى. لماذا يوجد نوع محدد من العمارة في مرحلة معينة، وهي في مثالنا هذا عمارة تنتمي إلى القرون الوسطى؟ ماالفرق بين المعمار القره وسطي والمعمار القوطي؟
من أجل أن تستخدم الضوء بشكل صائب، أنت بحاجة إلى معرفة موضوع الخوف من نهاية العالم، الخوف من الخالق. ذلك هو بالضبط ماكان يتحكم بعقول الناس في حينه، وكان الخلاص يتم عبر المعمار القوطي. فقد أصبحت النوافذ عالية جداً، وثمة فيض هائل من الضوء في الداخل، ثمة رجاء في المستقبل. كل هذه العناصر هي أشياء جوهرية.
كيف يمكن أن أدرس لمدة تسع سنوات فن الفوتوغراف وسنتان في معهد السينما ولم يخبرني أحد مطلقاً عن رسام إسمه كارافاجيو!. لقد إكتشفت
ذلك بنفسي وبالصدفة!. لم يقل لي أحد عن وجود موسيقي إسمه بيتهوفن، أو كتّاب مثل فولكنر، دوستوييفسكي أو تشيخوف، لاأحد!.
أظن أن من المهم جداً حقاً أن يصبح المرء مصوراً سينمائياً.
س: من المعروف عنك أن لديك إدراكاً مميزاً للمصور السينمائي كونه جزءاً من الفريق الإبداعي. هل ممكن أن تحدثنا قليلاً عن ذلك؟
ج: في إيطاليا، كما في كل دول أوربا، قانون السينما يسلّم بثلاثة عناصر هي:(السيناريو، الموسيقى والمخرج).إلا إن هذه العناصر الثلاث لاتصنع الفيلم.
بإمكانك أن تؤلف قطعة موسيقية إن كنت موسيقياً، وإذا كنت كاتباً بوسعك أن تنتج أدباً، بإمكانك أن تعمل مسرحاً، لكن
هذا ليس بفيلم. لايمكنك عمل الفيلم بدون وسيلة التصوير. الفيلم هو لغة الصورة. لكن، مع ذلك، أرى أن الهارموني بين الصور والموسيقى والكلمات يمكنه أن يشكل فيلما جيداً. لهذا السبب كنا نتقاتل نحن المصورين السينمائيين في أوربا في الحصول على إقرار رسمي بأننا مؤلفون مشاركون في خلق الفيلم. الآن، أخيراً، إعترف قانون السينما الإيطالي بالمصور السينمائي على أنه مؤلفاً فوتوغرافياً للفيلم. لكننا نسعى لإعتراف العالم كله بذلك. أعني وبأمانة، لا أظن أن أفلام بيرتولوتشي التي صورتها ستكون نفس ماهي عليه لو أن شخصا آخر كان قد صوّرها. كان من الممكن أن تكون أفضل أو أسوأ بالطبع، لكنها على كل حال، لايمكن أن تكون نفس الشيء.
س: من وجهة نظرك، هل توجد نظرة أو طريقة تعبير أوربية واضحة المعالم في السينما؟
ج: حسنٌ. لقد عملت مع القليل من المخرجين الأميركان وكان أبرزهم فرانسيس فورد كوبولا ووارن بيتي، هذان المخرجان اللذان كانا يبحثان عن الجانب البصري الذي يُدعم قصة الفيلم. وهذا هو بالضبط مانفعله نحن في أوربا. إن صناعة السينما، لاسيما صناعة السينما الأميركية، يمكن ودون أي شك أن تكون أشبه بمصنع كبير ينتج أفلاماً يتماهى أحدها مع الآخر، وبذات الهدف وبنفس البنية. أما الموقف الأوربي بهذا الشأن فهو عموما، أن تجرّب، أن تعطي كل فيلم نظرة أو طريقة تعبير محددة. وهذاهو الفرق بين أغلبية السينما الأوربية وأغلبية السينما الأمريكية.
أن تجد فكرة محددة في كل فيلم هو شيء طبيعي بالنسبة لنا. ربما لايبحث الأمريكيون كثيراً جداً عن هذه النظرة أو طريقة التعبير المميزة والفذة، لإنهم يسعون إلى إتباع أسلوب التعبير الذي كان مؤسسا أصلاً، لأنه أكثر ضماناً لهم!. محتمل أننا أكثر تجريبية ومجازفة بالقياس معهم.
س: ماذا يحتاج مشروع الفيلم اليوم لينال إهتمامك؟
ج: لقد أنهيتُ للتو فيلم “كارافاجيو”، وفي نفس الوقت أعمل مع كارلوس ساورا في مشروع فيلم يتناول قصة أوبرا دون جيوفاني. هكذا وكما ترى فأنا أهتم بالمشاريع التأريخية والملحمية أو قصص الناس الحالمين والكثيري الرؤى. مشاريع كهذه تمنحني فرصة أن أكون أنا نفسي حالماً.
إنه لشيء عظيم ورائع أن تمتلك فرصة أن تدرس، أن تبحث، أن تحصل على معرفة تلك الفترة التأريخية التي يتناولها الفيلم، تلك الشخصية وكيفية التعبير عنها.
الشيء العظيم هو أن تعمل وفي نفس الوقت تحس بمتعة التجربة. بالنسبة لي، ليس ثمة فرق بين حياتي الخاصة وحياتي المهنية. يسألني البعض أحياناً:”ألم تتعب؟”
إجيب ببساطة: إنني لا أشعر بالتعب حين أعمل شيء أحبه. إنه شيء يشبه ألى حد ما أنني أعمل دائماً وفي نفس الوقت أنا في إجازة دائمة.
س: لو إفترضنا أنك إمتلكت صالة سينما ليوم واحد، فماهي الأفلام التي ستعرضها؟
ج: سيكون فيلم ستانلي كوبريك “أوديسا الفضاء 2001″ حتماً. لقد شاهدت هذا الفيلم عندما كنت أعمل فيلمي الأول في عام 1968. أتذكر أنني كنت عائدا من المدينة التي كنا نصور فيها وكانت زوجتي حامل بطفلنا الثاني، وفي يوم الأحد ذهبنا معاً لمشاهدة الفيلم. لقد سحرني ذلك الفيلم. لاأعرف بالضبط عدد المرات التي شاهدت فيها هذا الفيلم.
***
علي كامل
مخرج سينمائي يقيم في لندن
”الفوانيس السينمائية” نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة
فيلموغرافيا
(ف.س. مديراً للتصوير في الأفلام المختارة التالية)
1968: فيلمه الأول youthful’ youthful إخراج: فرانشيسكو روزي
1970: إستراتيجية العنكبوت. إخراج: برناردو بيرتولوتشي
1971: الإمتثالي. مقتبس عن رواية البرتو مورافيا بنفس العنوان. إخراج: بيرتولوتشي.
1972: التانغو الأخير في باريس. بيرتولوتشي.
عصابة الزرق. بازوني.
أورلاندو فيوريسو. رونسوني.
1973: ماليزيا. سامبيري.
جوردانو برونو. مونتالدو.
1974: الخطى. بازوني
1975: الفضيحة. سامبيري.
1976: (1900) بيرتولوتشي.
1977: القمر. بيرتولوتشي
1979:فيلم (القيامة الآن) فرانسيس فورد كوبولا.
أغاثا المقتبس عن أغاثا كريستي. كوبولا.
1981: الحُمر. وارن بيتي
1982: واحد من القلب. كوبولا
1983: فاغنر. بالمر.
1985: فيلم Lady hawke: ريتشارد دونير.
فيلم كابتن يو. كوبولا.
1987: الإمبراطور الأخير. بيرتولوتشي.
الفيلم الكوميدي (عشتار) إخراج: إيلين ماي
1988: Tucker: الإنسان وحلمه. فرانسيس فورد كوبولا.
1989: قصص نيويورك. إخراج: وودي ألن، مارتن سكورسيزي، و كوبولا.
الحياة بدون زوي. كوبولا.
1990: Dick Tracy. وارن بيتي.
فيلم (السماء الواقية) بيرتولوتشي.
1992: بوذا الصغير. بيرتولوتشي.
1993: توسكا. ج. باتروني جريفي.
1994: فلامنكو. المخرج الأسباني كارلوس ساورا.
1995: تاكسي. ساورا.
1998: تانغو. وفيلم Bulworth. كارلوس ساورا
1999: غويا في بوردو. كارلوس ساورا.
2000: ميكا. للمخرج الجزائري رشيد بنحاج.
2004: طارد الأرواح الشريرة: البداية. ريني هارلين و باول شرادر.
2005: جميع الأطفال غير المرئيين. جون وو، ردلي سكوت، ستيفانو فينيروسو.
2007: الفيلم التلفزيوني كارافاجيو. أنجيلو لونجوني.
2009: أوبرا دون جيوفاني. كارلوس ساورا
(*) المصدر:
.Projections (15) European Cinema Edited by Peter Cowie & Pascal Edelmann First published in 2007 .page 47-45.
هذا اللقاء جرى عبر التلفون بين باسكال إيدلمان و فيتوريو ستورارو في 8 فبراير 2007.
(**) سينما بارادايس (1988) فيلم للمخرج الإيطالي جويسب تورناتور يحكي قصة طفولته.