– محمّد Ajaj Salim بمشاركة صورة الرواية والنقد الروائيّ.
الكَاتبَة المِكسِيكية إِلينَا بُونيَاتُوسكَا وإشكَاليَة الهَويّة وَالأنا
محمّد محمّد الخطّابي/ القدس العربي/ الرّوائية المكسيكية إلينا بونياتوسكا حصلت على جائزة ‘ميغيل دي سيرفانتيس′ الإبداعية السنوية التي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الإسبانية، إلى جانب حصولها على جائزتي ‘أمير أستورياس′، و’بلانيتا’ حيث تعتبر هذه التكريمات من بين أرفع وأهمّ الجوائز الأدبية في اللغة القشتالية التي تمنح في إسبانيا. وإلينا بونياتوسكا هي المرأة الرابعة التي تفوز بهذا التكريم الأدبي منذ 38 سنة من إنشائه، بعد فوز كلّ من الشاعرة الإسبانية ‘ماريا ثامبرانو’ (1988)، والأديبة الأكاديمية الإسبانية كذلك ‘أنا ماريا ماتوتيّ ( 2010)، والشاعرة الكوبية ‘دولسي ماريا لويناس′ (1992). وكانت هيئة التحكيم قد عزت أسباب إختيارها لبونياتوسكا للفوز بهذه الجائزة الكبرى إلى رحلتها الطويلة في عالم الخلق والإبداع، وحرصها الدائم على معالجة قضايا حيوية، وملتزمة لها صلة وثقى بتاريخنا المعاصر . كانت جامعة ‘المكسيك الوطنية المستقلة’ قد رفضت قبول ‘إلينا بونياتوسكا’ في أسلاك الدّراسة بها عندما كانت في ريعان شبابها، حيث كانت الجامعة قد طالبت منها إعادة إختبارالمرحلة الثانوية التي إجتازتها في الولايات المتحدة الأمريكية بنجاح. نفس هذه الجامعة عادت وفتحت لها أبوابها لتكريمها على أعلى مستوى نظرا للإنتشار الواسع الذي حققته أعمالها الإبداعية في مختلف المجالات، وكذا بمناسبة بلوغها الثمانين عاما من عمرها، وذلك بمشاركة العديد من الكتّاب، والنقّاد، والروائيين، والأكاديميين، والطلبة والمعجبين بها. وتحتلّ بونياتوسكا في الوقت الرّاهن مكانة مرموقة في عالم الرّواية المكسيكية المعاصرة، وذلك على إعتبار غزارة أعمالها الأدبية وجودتها، وتزايد الإهتمام بها يوما بعد يوم داخل بلدها المكسيك وخارجها . قالت بونياتوسكا مازحة وجادّة في آن واحد: ‘ثمانون عاما ليست كثيرة، بقي لي أن أكتب تسعة كتب لأستطيع أن أهدي كلّ واحد منها إلى أحفادي التسعة’. ثمانون حولا وما زالت هذه الكاتبة تتمتّع بحيوية فائقة، ونشاط منقطع النظير في الكتابة، والتأليف، والعطاء الثرّ الذى لا ينضبّ، فقد كتبت عن تاريخ المكسيك العديد من التآليف في مختلف مجالات الإبداع الأدبي والرّوائي على وجه الخصوص. تتمتّع هذه الكاتبة بشعبيّة واسعة في مختلف الأوساط الأدبية، والجامعية، والعمّالية، والنقابية، والسياسية باعتبارها كاتبة تقدميّة، ملتزمة مشهودا لها بدفاعها المستميت عن المهمّشين، والمعوزين، والمحرومين، والمنبوذين، والكادحين من الطبقات العسيفة، وبشكل خاص عن السكّان الأصليّين في المكسيك. إبنة الصّدفة تقول بونياتوسكا إنها إبنة الصّدفة فكلّ شئ جاءها بالصّدفة، وهي لم تقرّر شيئا قطّ في حياتها بما في ذلك ولادتها في باريس، وإنتقالها للعيش في المكسيك – الذي تعتبره بلدها – منذ الثامنة من عمرها عندما فرّت عائلتها بجلدها من أوروبا التي تقول عنها ‘إنها تتألم وتتوجّع اليوم من كلّ جنب’، والقدر هو الذي جعلها تكون كذلك إبنة لوليّ العهد أمير بولونيا السّابق (إنها تنحدر بشكل مباشر من سلالة إستانيسلاو الثاني بونياتوسكي آخر ملوك بولونيا). يقول الكاتب المكسيكي ‘خوان فيغورو’: إن تاريخ المكسيك الحديث لا يمكن فهمه دون قراءة أعمال ‘إلينا بونياتوسكا’. فقد كتبت عن العديد من المواضيع التي ما زالت مرسومة أو بالأحرى محفورة في ذاكرة المكسيكيّين، كالزلزال المدمّر الذي ضرب مكسيكو سيتي عام 1985، وعن مذبحة طلاطيلوكوالشهيرة في أكتوبر/تشرين الأول 1968) فالكثير من المكسيكيّين لم يعرفوا ما حدث بالضبط في ذلك اليوم المشؤوم حتى قرأوا ما كتبته عنه بونياتوسكا، فقد تمّ إطلاق النّارالعشوائي من طرف الجنود على المتظاهرين فقتلوا 300 منهم بلا رحمة، وجرحوا الآلاف. هذه الحركة الطلابية هي الوحيدة في العالم التي إنتهت بمذبحة حقيقية في أكتوبر/ تشرين الأول 1968 وفى ذلك التاريخ تمّ إيقاد مشاعل ومشاعر الحركات الطلابية والجماهيرية لإنطلاق كفاح مستميت للطبقات الإجتماعية الكادحة في المكسيك. تقول الكاتبة ‘ماري لوث باينادو’: ‘إنّ’ إلينا بونياتوسكا’ تتطلع دائما إلى المستقبل، وهي لا يروقها ما تراه اليوم من تظلّم وتفاوت وتجنّ يقع على الشباب المكسيكي الذي تشعر بإنشغال كبير عن مستقبله، هذه المرأة التى تكافح وتناضل في مختلف الواجهات بما فيها المؤسّسة التي تحمل إسمها، تحوّلت إلى صوت المستضعفين، والطبقات المقموعة، هجرت الأريستوقراطية الأوربية، وقطعت أيّ صلة لها بها لتنخرط مع الجموع المكسيكية المناضلة والعسيفة، فقد زجّ بها في السّجون، وتربطها صلات وثقى مع أتباع ‘ساباتا’ (جيش ساباتا للتحرير الوطني) الذي أنشئ في يناير/كانون الثاني 1994. ‘ زَهرَة لِيسْ’ أعمالها الرّوائية تحفل بتحليل عميق وبليغ للشريحة العمّالية المكسيكية، على الرغم من أنّها لا تنتمي إليها، بل على العكس من ذلك إنها تنتمي إلى أسرة ميسورة مهاجرة كما رأينا من قبل، وهي كاتبة بارعة في إختيار الكلمات المناسبة لكل مقام، فلا تجد في لغتها مثلا أبدا إسم الشوكة أو كلّ ما يمتّ إلى البذخ بصلة وهي تتحدّث عن العمّال. كما أنها في كتابتها عن الحبّ مثلا نجدها تلجأ إلى إستعمال لغة بدائية قديمة ولكنّها موفية وعميقة، وهذا ما نجده في قصّتها ‘ليمبو’ حيث تعمل بطلتها مونيكا على مساعدة المستضعفين والمحرومين والمعدمين. روايتها ‘زهرة ليس′ تقدّم لنا إنطباعا واضحا حول إشكالية الهويّة في المكسيك، وهي مسألة ما زالت قائمة إلى اليوم في هذا البلد الذي كاد أن يكون ملتقى العالم، نظرا لتعدّد وتنوّع الأجناس فيه، ونظرا لعملية التوليد التي شهدتها هذه البلاد من جرّاء الإختلاط والإمتزاج والإنصهار والهجرات المتوالية التي عرفتها، والكاتبة نفسها تعيش هذه الإشكالية، فهى مكسيكية وفرنسية في آن واحد، فقد ولدت في باريس1933، وقدمت إلى المكسيك في نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي من أمّ مكسيكية، وتابعت دراستها الأولى في ويندسور سكول، ثم في فيلاديلفيا. وتتصادف هذه المعلومات مع هذه الرّواية، ممّا يدعو للإعتقاد أنّ هذا العمل الإبداعي إنّما هو ترجمة ذاتية للكاتبة نفسها في قالب روائي، حتى وإن كانت البطلة في القصّة أسمها ‘ماريانا’ وليس ‘إلينا’. إنّ ‘زهرة ليس′ إلى جانب أنّها عنوان الرّواية فهي كذلك إسم لمطعم كان يقدّم طبيخا مكسيكيا تقليديا في باريس، تلتقي فيه النخبة الأريسطوقراطية الباريسية، وبالتالى فإنّ المحتوى المكسيكي في الرّواية يكتسب قوّة أكبر، وهذا المطعم المكسيكي ذو الإسم الغربي هو الذي يفتتح الرّواية ويغلقها كذلك، التي تبدأ بالحديث عن أمّ مريانا البطلة (إلينا الكاتبة) فتقول: ‘إنّني أراها تخرج من دولاب عتيق، وقد إرتدت غلالة بيضاء طويلة’، وتنتهي إلى القول: ‘بلدي هو الإنفعال العنيف، إنه الصّياح الذي يخنقني عندما أنطق باسم ‘لوس′ (إسم أمّها) بل إن بلدي هو النّور نفسه أو حبّ النور’ (ولوس في اللغة الإسبانية معناه النور) أو ‘لوث’ على طريقة نطق أهل مدريد وقشتالة. فى رواية إلينا تتذكّر حياتها الأولى في فرنسا والرّحلة الطويلة إلى المكسيك، وتتذكّر مراهقتها وعائلتها وظرفها، ونجد في الرّواية إستحضارا لشخصية أخرى كان لها تأثير عميق عليها وهي الخادمة ‘ماغدا’ التي كانت حكيمة وتثير الضحك’ وكانت من عائلة غارقة في البؤس والفقر والشقاء، وعلى الرّغم من ضحكتها الصّافية إلاّ أنها تخفي آلاما مبرحة في داخلها، ومن ثمّ جاء إهتمام إلينا بالطبقات المعوزة في المكسيك في مختلف أعمالها. ونجد في الرّواية نقدا لاذعا لبعض الرجال الذين تقول عنهم إنهم ‘يقولون ما لا يفعلون’، ففي شخصية ‘الأب طوفيل’ وهو راهب يصل من فرنسا إلى المكسيك، ويحاول تقديم النّصح للنساء من الجالية الفرنسية المقيمة في المكسيك، ومن بينها إلينا وعائلتها ولكنّه ‘لا يخلف سوى التشاؤم والرّيبة والغموض، هل هو ملاك أم شيطان؟ فمهمّته حسب زعمه هو إنقاذ الشابات من الوقوع في الخطيئة والوحل الإجتماعي، أهو شيطان إذن أم ملاك؟ تقول إلينا: ‘الإجابة توجد في إسمه فطوفيل باللغة الألمانية تعني الشيطان’. إنّ أشباح جدّاتها تلوح لها في مرايا البيت، إنها تأبى العودة إلى الماضي، وإنّما تتطلّع دائما إلى المستقبل. المظهر السلبي لـ ‘زهرة ليس′ هو تأكيد حبّها لبلدها الأوّل (الماضي) وتشبّثها ببلدها الحالي المكسيك (الحاضر) الذي يعني بالنسبة لها في هذه الحالة المستقبل. إنّ الحزن الذي تشعر به وهي تتّخذ هذا القرار لا يخلق أيّ إزدواجية متضاربة في نفسها بل على العكس، إنهاعلامة مضيئة كبداية حياة طبيعية عادية حتى وإن كانت تقوم على نوع من الصراع الداخلي، والمناوشه والمعاناة. وقمّة التعبير الرّمزي يصل مداه في هذه الرّواية عندما تقوم البطلة في لحظة مّا في آخر المطاف بتهشيم وتحطيم المرايا التي تظهر لها فيها جدّاتها، ويعني ذلك جعل حدّ نهائي للماضي. بانوراما عصر التحوّل لإلينا بونياتوسكا رواية أخرى شهيرة لا تقلّ أهمية عن سابقتها وهي رواية ‘تينيسما’، هذه الرواية تنقل القارئ إلى المكسيك في العشرينات، حيث تسلّط الأضواء بالخصوص على المصوّرة الفوتوغرافية الإيطالية ‘تينا مودوتّي’ ومن إسمها يأتي عنوان الرواية مدغوما ومختصرا . هذه الرّواية تتعرّض لمشكل حسّاس في هذا البلد وهو إشكالية الهويّة، حيث يتألف سكان المكسيك من إثنيات ثلاث: السكان الأصليّون الهنود، ثمّ المولّدون الخلاسيّون، ثم الجنس الأوربي الأبيض الوافد أو المستعمر بمن فيهم الإسبان الذين ولدوا في المكسيك، والذين يطلق عليهم إسم ‘كريولوس′. وتعمل الكاتبة في هذه الرّواية على إبراز مختلف الأجواء والطقوس في ذلك العصر الذي عرف تحوّلا سريعا نحو عالم اليوم، ممّا يضفي على روايتها مسحة من الواقعية التاريخية التي تتناوش فيها وتتداخل الصّراعات السياسية والإجتماعية، والثقافية. وقبل الشروع في كتابة هذا العمل الرّوائي كانت ‘إلينا بونياتوسكا’ قد أجرت إتّصالات مع مختلف الشخصيات التي كانت ما تزال على قيد الحياة والتي عاشت في ذلك العصر، وقامت بتسجيل شهادات حيّة عنها وذلك بغاية التعرّف أكثر على الشخصية الرئيسية في الرواية وهي ‘تينا مودوتّي’. ولم يكن هذا الكتاب تكريما لهذه الفنّانة الإيطالية وحسب، بل كان تكريما كذلك لجميع بنات جنسها في ذلك الوقت اللائي خضن غمار السياسة والتغيير والأدب والإبداع. وكان الكاتب المكسيكي المعروف ‘ كارلوس مونسيفايس′ قد علّق على هذا العمل الرّوائي فقال: ‘من وجهة نظري كقارئ فإنّ هذه الرواية تتوفّر على جميع العناصر التي تجعل منها رواية تاريخية وسياسية وإجتماعية ناجحة’. وأضاف: ‘وعلى الرغم من أنّ الشخصية الأساسية في هذه الرواية هي ‘تينا مودوتّي’ فإنّ نهر الأحداث يجري ويجرّ معه القارئ نحو عوالم أخرى لشخصيات ثانوية وأحداث جانبية، إلاّ أنّها برمّتها تخدم السياق العام للحكيّ، فالكاتبة تضع قارئها أمام بانوراما متعدّدة الجوانب للحياة السياسية، والإجتماعية، والثقافية في ذلك العصر.كما تنتقل بالقارئ في جولات وفسح حالمة خاصّة في شوارع مكسيكوسيتي المترامية الأطراف وأحيائها التي كان يقيم بها الفنّانون والأدباء والشّعراء، والتي لم تكن تقلّ شأنا أو تشعر بأيّ غيرة من باريس أو نيويورك أو مدريد، حيث كانت البلاد تخطو أولى خطواتها نحو المعاصرة والعصرنة في مجتمع حديث العهد من الخروج من صراع إجتماعيّ خطير. وقد جعلت بونياتوسكا من هذه الفنّانة الإيطالية المولد الطلائعية التي إستوطنت المكسيك بؤرة إنطلاق لأحداث الرّواية المتشعّبة والمتشابكة التي لا يضيق القارئ بكثرة صفحاتها نظرا لأسلوب الكاتبة الآسر، وخفّة روحها وسعة ثقافتها وتمكّنها من الفنّ الروائي، ولا تقدّم بونياتوسكا في عملها الرّوائي هذا أيّة أحكام مسبّقة بل إنها تترك شخصيتها الرئيسية في الرّواية تواجه لجّة واقعها في ذلك المجتمع المتلاطم والمتصارع والمشاكس، المتأرجح بين المعاصرة والأصالة والرّغبة في الإنفتاح والإنعتاق والتحرّر وعدم الرضوخ لنير التقاليد والأعراف الإجتماعية البالية. من أعمالها الإبداعية الأخرى: ‘حتى لا أراك’، ‘جرح باولينا’، ‘جلد السّماء’، ‘شهادات’، ‘ليلة طلاطيلولكو’، قوّة الصّمت’، ‘لا شئ لا أحد أصوات الزلزال’، ‘القطار يمرّ أوّلا’، ‘بائعة السّحاب’: ‘أوكتافيو باث كلمات الشجرة’ ‘نخبك يا خيسوسا’ التي تتناول قصة حياة إمرأة من الطبقة العاملة في مطلع القرن العشرين بالمكسيك. وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى التي تجاوزت الأربعين عملا.
* كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا)