الدكتور :خليل الطيار.قلمه بمواجهة عمل للمصور محمد ديجان .هتك الإنسان بانهيار الأوطان
قراءة لمرئيات استثنائية
الجزء الرابع
سحنة الموت…!
هتك الإنسان بانهيار الأوطان!
عمل لمحمد ديجان
• خليل الطيار
لا عجب بأن هناك مشاهدا، وأحداثا استثنائية، لا يتاح لأعيننا- الفقيرة الإبصار- إمكانية رصد تشكلاتها. في حين يتاح لعيون الكاميرات- الفطنة- فرص ثمينة لاقتناصها، واحتواء محصلاتها الجمالية. كما حصل في إنتاج هذا الفاجع البَصًري الاستثنائي، والذي لم تتبلور تشكلاته بطريقة عفوية بالمطلق، بل جاء نتيجة تفحص فاعل لمفردات واقعة مكانية أهملتها أنظارنا، ومرت عليها عين مصور- نبه- يحسن طرق الإبصار الواعي للأشياء، ويمتلك قدرة توظيف تشكلاتها، وينجح في تحقيق سرديات بَصًرية مؤثرة عنها، تجبر المتلقي التوقف عندها لمحاورة متونها، والغوص في أعماق ميادينها.
الإبصار النقدي
يصر “محمد ديجان” في مضمار تجربته المحافظة على هويته الفنية الخاصة،وأسلوبه البصري المتميز. فمجمل أعماله تقترب من معالم مدرسة الواقعية النقدية، يستعين بخصائصها الفنية لملاحقة أوجاع طبقة المحرومين والمعدومين، وملازمة مآسيهم، ويتتبع حياتهم راصدا بعدسته أوضاع حياتهم الموجعة، في ظل أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ما انفكت تعصف بأزمنة البلاد، مخلفة مشاهد مفزعة في حياة الإنسان، لطالما أنشغل “محمد ديجان” في تعقبها وترك علامات بَصًرية فاعلة لها في مسيرته الفوتوغرافية.
وعلى الرغم من غلبة الصفة “التسجيلية” في أعماله، إلا أن “محمد ديجان” كثيرا ما يلجأ بخبرته الطويلة إلى الاهتمام بالجانب الفني ليضيف هامش جمالي لسردياته، يتجاوز فيه حدود التوثيق. فهو لا يلاحق أفعالا، ولا يسجل أحداثا، بل يدون مضامين داخل متون كوادره ليدعها تفتح تحاور مؤكد مع متلقيها، بحيث لا يمكن أن تشاهد له عملاً دون أن تنشغل معه بتعليق، أو تدخل مع متنه في سجال جانبي خارج إطار الصورة!
إخراج دراما الصورة
هذه الفاجعة البَصًرية حملت في مناخ “شيئيتها” مجموعة دلالات، تقصد “محمد ديجان” أن يترك في مقدمتها هيمنة لكتلة إنسان بلا مأوى تلحف أرض الله، تاركا عربة معيشته تشكو وحدتها تحت حزمة ضوء مسالم شذ عن مناخ صفرة الموت! وحتى يؤسس مقارنة مكانية لبيئة فعله الدرامي، اختار خلفية “بانورامية” لبناء قديم ارتبط أثره مكانيا بأحد معالم تاريخ بغداد -ساحة الميدان- وظهر بزاوية مائلة يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وينهار!! وبجمع هذه العلامات الثلاثة بزاوية واحدة نجح أن يقدم لنا مشهدا مأساويا موجعا في ” سرديته “.
كما تعمد “محمد ديجان” أن يخرج مشهده الدرامي بمناخ لوني قاتم،ليساعده على إشباع سحنته المأساوية. فغطاء الرجل المسجى بالعراء، وبهذه السيطرة على مقدمة مساحة الصورة، أعطى دلالة واضحة لهيمنة رداء الموت على المكان، قُبر الإنسان تحت لون صفرته المشؤوم مفترشا قارعة الطريق يئن شاكيا…
“وطني، الموت يغمره
وقبري لم يزل، الرصيف!”
العلامة الثانية ترك فيها “محمد ديجان” وسط مشهده، دلالة لحزمة ضوء بيضاء أضاءت عربة معيشة إنسانه الكادح! وراحت تنتظر أرزاقها المؤجلة قبال تهالك مفرط لاثر مكاني اقترب من سقوطه المحتوم. رغم تصبر أعمدته على المقاومة بقوة، في محاولة أخيرة للمحافظة على تراث البلاد وتاريخها! لكن بدت هيأتها تفصح عن عدم قدرة الصمود، وقد أظهر “محمد ديجان” أحمالها وهي تكاد تلفظ آخر أنفاسها قبل أن تلقى حتفها وتسقط!.
وبهذه التراتب الدلالي أراد “محمد ديجان” أن يخبرنا أن مصاير وسائل عيشنا -العربة- سيبقى مستقبل حركتها مهددا بالتوقف تحت رحمة انهيار بناء الأوطان، وسيقود بلا شك لحتمية موت الإنسان!
لافتات بصرية
“محمد ديجان” لا يبحث عن الإثارة الفنية في إعماله، ولا ينشغل بتزويقها جماليا، بقدر ما يهتم بقيمة المضمون ودلالته، فهو يسعى لتحقيق لافتات بَصًرية يكتب فيها شعارات يقرأ المتلقي معانيها بوجع، يدفعه لتوجيه نقد لاذع عن مآسي إنسان بلاده. ويترك فيها اسمه بوضوح كمصور يقض ومنفعل ولا يرغب بالاسترخاء، وهو يجوب الأزقةوالشوارع والأسواق بعدسته المستفزة، باحثا عن آلامها. لكنه في ذات الوقت لا يبدو سوداويا بالمرة، ولا يرغب أن تنتهي “سردياته” بحالة جزع مستمر، دون أن يتلمس خلاصات لأوجاعها. فنجده يبحث عن قيمه بصرية يترك فيها إشراقة، تطمئن متلقيه، أن يوم إصلاح لا محال قادم!. وحققها لمكانه المحطم في زاوية أخرى دعم فيها مصير مشهده الدرامي، حيث أظهر قمرا أخترق بإضاءته سحابات غيوم تحمل غيث السماء، بددت زرقتها سحنة صفرة المكان المتشائمة!
الواقع الميت، تحييه صورة
“محمد ديجان” يؤمن أن الصورة بإمكانها التصدي للقهر الاجتماعي والظلم، وبإمكانها أن توجه سهام النقد لمحاصرة السلطة بأسئلة صادمة عن مسؤولية تدهور حال بلاده، ليترك في صورته رسائل شعبية ناقدة يلاحق بها باستمرار أوجاع الكادحين، ويبحث عن تفاصيل معاناتهم اليومية بدافع نقد صفحاتها المؤلمة. وهي بلا شك لافتات إدانة يكتب “محمد ديجان” حروفها الضوئية بجدارة.