“ستورارو”.. مصور سينمائي عالمي يقتبس من نور الرسول محمد
“الضوء هو بالتأكيد المعرفة، والمعرفة هي الحب، والحب هو الحرية والطاقة، والطاقة هي كل شيء. اسمي فيتوريو ستورارو، وأنا لستُ مدير تصوير، أنا مصور سينمائي أمزج الضوء الاصطناعي بالضوء الطبيعي”.
هكذا قدّم المصوّر السينمائي الإيطالي “فيتوريو ستورارو” نفسه عبر الفيلم الإعلاني الذي تم عرضه بالمسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة، خلال تكريمه من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بمنحه جائزة “فاتن حمامة” للتميّز، وذلك في حفل ختام الدورة الـ41 للمهرجان (20-29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019).
السباق مع الضوء.. سيّد الصورة السينمائية
قبل أن يصعد “ستورارو” على خشبة مسرح دولبي بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية لاستلام أول جائزة أوسكار في حياته عام 1980، وذلك عن أدائه المتميز كمدير تصوير لفيلم “القيامة الآن” للمخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا؛ احتاج لكي يخطو أولى خطواته بين التكوين ولقاء المخرج “برناردو برتولوتشي”، ليتحول إلى مايسترو التصوير الذي يفكك أطياف الضوء.
على مدار خمسة عقود كرّس “فيتوريو ستورارو” نفسه كواحد من أكبر المصورين السينمائيين في العصر الحديث، إنه سيّد الصورة السينمائية الذي يسابق الضوء منذ أن كان عمره أحد عشر عاما، ليدخل عالم التصوير الفوتوغرافي عبر التكوين الأكاديمي بالمركز التجريبي للتصوير السينمائي الذي التحق به في سن الـ18.
بالمركز التجريبي التقى “ستورارو” بالمخرج الإيطالي “برناردو برتولوتشي”، وتشكلت بينهما علاقة مهنية متميزة أثمرت إنجاز فيلم “قبل الثورة” عام 1964، وكان الفيلم تجربة ناجحة في ذاتها، ومقدمة لعدة أعمال مشتركة، وقد تجددت لاحقا لتنجب فيلم “حيلة العنكبوت”، وتسعة أفلام عالمية أخرجها “برتولوتشي”، منها فيلم “بوذا الصغير” عام 1993 وهو آخر تعاون بينهما.
فلتر “ستورارو”.. ثلاث جوائز أوسكار
يتحدث الناقد الإيطالي “باولو ميرغيتي” في مقال نشره في مجلة “سينماتيك” الفرنسية عن تلك المعادلة قائلا: “عندما ننقاش أعمال ستورارو تبدو الكلمات وكأنها إعلان حب، حيث يتعامل مدير التصوير مع الصورة كما لو كان يتحدث إلى خطيبته، يعطي للضوء أدوارا في العمل السينمائي، مما يجعل “الحالة العاطفية” ملموسة لدى المشاهد، لأن الضوء والظل واللون هي أشكال من الطاقة التي لا تصل إلى العينين فحسب، بل إلى كل جزء من جسد المشاهد”.
توطدت علاقة “ستورارو” بالضوء، وتُوّجت مسيرته بثلاث جوائز أوسكار، إذ حاز جائزة أحسن مدير تصوير لأدائه المتميز في فيلم “ريدز”(1982) للمخرج وارن بيت ، ثم عن فيلم “آخر إمبراطور”(1988) للمخرج “برناردو برتولوتشي”.
وفي سبعينيات القرن الماضي قام “مختبر رسكو” بتطوير فلتر يقوم بتصوير الضوء والألوان ويحمل اسم “مجموعة ستورارو”، وقد أُطلق على هذه المجموعة اسم “ستورارو” لأن استخدامها يُمكّن المُشاهد من نقل العواطف في المشاهد كما كان يفعل “ستواراو”، وقد حاز المختبر على جائزة الأوسكار عام 1974 لتطوير هذا النظام الضوئي في التصوير الفوتوغرافي.
“محمد رسول من الله”.. علاقة استثنائية مع نبي السلام
الواقع أن “ستورارو” جمعته علاقة استثنائية من نوع آخر مع الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في وقت كانت فيه صورة الإسلام تُعاني الأمَرّين، فولدت تجربة سينمائية بين المصور الإيطالي والمخرج الإيراني ماجد مجيدي، لينجِزا معا ثلاثية فيلم “محمد رسول من الله” (2015)، وهو مشروع سينمائي متميز وفريد من نوعه لأبعاده الإنسانية.
عندما تم عرض الفيلم لأول مرة في عدة قاعات سينمائية عبر العالم، لم تكن العاصمة الفرنسية باريس قد مسحت دموعها بعد سلسلة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وعندما استيقظت الدائرة العاشرة والحادية عشرة على فاجعة مقتل 138 شخصا وإصابة 413 آخرين بمسرح باتاكلان وشارع بيشا وشارع أليبار وشارع دي شارون وغيرها من الأماكن؛ تم توجيه أصابع الاتهام للإسلام.
في تلك الأثناء كان “ستورارو” يتنقل رفقة مجيدي لتقديم فيلمه الحامل لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك في تصريح لمجلة “المصور الأمريكي” العالمية عام 2015، وقد تحدّث “ستورارو” عن تجربته السينماتوغرافية مع مجيدي قائلا “محمد لم يكن رسول الله فحسب، بل رسول السلام أيضا، وهذا الأمر مهم جدا”.
“ستورارو في محمد”.. قصة اندهاش
لقد حمل مدير التصوير الإيطالي على عاتقه مسؤولية نقل ما كان يشعر به تجاه شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يكتفِ بتقديم صور سينمائية جميلة تقرأ السيناريو وترافق رؤية المخرج، بل كان دائما جاهزا لمواجهة أسئلة الصحفيين، ولا يتردد في التعبير عن إعجابه بقصة الرسول، وهو ما نلمسه في كلامه عندما تحدث عن الأسباب التي جعلته كمدير تصوير حائز على ثلاث جوائز أوسكار يقف خلف الكاميرا لتصوير ثلاثية “محمد رسول من الله”.
نجد في مقال صادر بتاريخ الأول من ديسمبر/كانون الأول 2018 في مجلة “المصور الأمريكي” بعنوان “ستورارو في محمد: رسول الله” تفاصيل بداية المشروع، واندهاش ستورارو أمام عظمة سيرة الرسول، كما قال “عندما انتهيت من قراءة كتاب عن حياة محمد وضعته على الطاولة، وقد لمحت وميضا قادما من جهاز الحاسوب الخاص بي، لقد وصلتني رسالة إلكترونية من أحد الوكلاء السينمائيين بلوس أنجلوس يسألني، هل أوافق على عرض من المخرج ماجد مجيدي لتصوير فيلم “محمد”؟”.
حينها شعر “ستورارو” بإحساس رهيب جعله يحدث نفسه قائلا “يا إلهي، لا أصدق! إنه ثبوت الحقيقة عندما نقع في حب شخص ونؤمن به، ترسل تلك الطاقة وتتحول إلى رسالة حقيقية”.
وهذا ما حدث في بداية الأمر، وقد وجد “ستورارو” نفسه مستعدا للموافقة على هذا المشروع الذي تم إخراجه في التوقيت المناسب، ليساهم في نفي وجود أي علاقة للإسلام بالإرهاب، بعدما أبرز فكرة أن “الرسالة المحمدية تحمل معها المحبة والتسامح والانفتاح على الأديان الأخرى والمؤمنين الآخرين” كما قال “ستورارو”.
أصغر مصوّر في تاريخ السينما الإيطالية
إن المصور الذي كرّمه مهرجان القاهرة في الدورة الأخيرة له يُصنَّف في خانة أهم مديري التصوير في العالم، فقد خاض تجارب مهمة ومتعددة تمخضت عن أكثر من خمسين جائزة عالمية في رصيده، ولم تزده كلها إلا تواضعا، وهو ما تعكسه موافقته كمدير تصوير عالمي يقبل بمرافقة تجربة سينمائية جزائرية فتية بعنوان “عطور الجزائر” للمخرج الجزائري رشيد بن حاج الذي تم عرضه عام 2012، وشارك فيه “ستورارو” كمدير تصوير.
وحين حلّ مؤخرا ضيفا على مهرجان القاهرة السينمائي كان حريصا على أن يقضي أسبوعه بين السينمائيين العرب الشباب تحديدا، يبادلهم خبرته الطويلة بكثير من الأسئلة التي لا يزال يبحث فيها عن إجابات لها، وذلك حول مفهوم شباب اليوم لعالم التصوير السينمائي، وهو ما صرّح به دون تردد في الكلمة التي ألقاها في حفل الختام مخاطبا الشباب الذين رافقهم “جئتُ لأتعلم منكم أيضا، فبالتأكيد لديكم أشياء لا أعرفها”.
إيمان ستورارو بالشباب ليس وليد صدفة، وإنما هو نابع من مساره الطويل في السينما، فهو نفسه كان يُلقّب في ستينيات القرن الماضي بأصغر مصوّر في السينما الإيطالية، وهو اللقب الذي حاز عليه عام 1961 في سن الـ21، بعدما تميز عن أبناء جيله في التصوير، وأصبح أصغر مصوّر في السينما الإيطالية.
“الكتابة بالضوء”.. 60 عاما مع كبار المخرجين
قام “ستورارو” خلال مساره السينمائي بتأليف سلسلة من الكتب باللغة الإيطالية تُعتبر اليوم مرجعا مهما في عالم التصوير السينمائي، وأبرزها كتاب “الطبيعة والأسطورة” عام 1992، و”الكتابة بالضوء”عام 2001، وهو خلاصة تجربة رجل يبلغ من العمر اليوم 79 عاما (من مواليد 24 يونيو/حزيران 1940 في روما)، وشارك في إنجاز 58 فيلما عالميا.
ولا يزال اليوم يرافق خلف الكاميرا أعمال كبار المخرجين، خاصة المخرج الأمريكي “وودي آلن”، الذي قرر الاعتماد على “ستورارو” لتصوير أحدث أفلامه، بداية من “مقهى سوسيتيه” (2016)، وفيلم “عجلة العجب” (2017) ، وفيلم “يوم ممطر في نيويورك” (2019).