التاريخ: ٠٣/١١/٢٠٢٢
الطريق
فيلم لعبد اللطيف عبد الحميد
الطريق: حين يكون الوهم علاجا والاشتغال على الوعي معجزة
حنان مبروك
الطريق طريقك وأنت وحدك بطلها
من عوالم البيئة الريفية البسيطة، يبتكر المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد جلّ أفلامه، ويضيف إليها هذه المرة بعدا فلسفيا أكثر عمقا وجمالية عبر فيلم “الطريق” الذي يعلمنا ويذكر القليل منا بأهمية الاشتغال على الوعي الإنساني ومعالجة الإنسان بتدريبه على الوهم.
تعرف الفلسفة الوعي بأنه جوهر الإنسان وخاصيته التي تميزه عن باقي الكائنات الحيّة الأخرى، إذ أنّ الوعي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، وهو ما يطلق عليه “الوعي التلقائي”، أي تلك الأيديولوجيات والقناعات التي تظهر جلية على الإنسان بدءا من سلوكه مع ذاته ومع الآخر فردا كان أو مجموعة، ومع الأمور الحياتية والأشياء من حوله. لذلك فإن وعينا بأنفسنا يعد أساس كينونتنا وتترتب على هذا الوعي نتائج متناقضة إلزاميا فهو قادر على جعلنا أسوياء نقبل التغيير ونسعى إلى الأفضل بناء على ثقتنا في قدراتنا، أو قد يجعلنا سلبيين ننقب عن المشاكل أينما كانت ولا نسعى إلى التغيير.
فلسفة الطريق
فيلم “الطريق” آخر أفلام المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد، الذي يؤكد لنا أن الرهان على الإنسان لا يخسر
هذا الوعي الذي قد يكون للتربية على الوهم جزء كبير في تشكيله هو محور فيلم “الطريق” آخر أفلام المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد، الذي يؤكد لنا أن الرهان على الإنسان لا يخسر وأننا إن راهنا على طفل رهانا صادقا سليما متوازنا ارتقينا به وجعلناه عبقريا، بفعل الوهم الذي يقنعه لسنوات بأنه عبقري.
جاء الطريق في الفيلم ليكون الإطار المكاني العام، الذي يرتاده الفتى صالح ليكون الحامل الرئيسي لأحداثه، المتعلم منها والسارد لها.
هذا الفتى الذي يحمل اسم جده لكنه لم يرث عنه حبه للعلم ووعيه بالحياة والآخر، بل كان فتى غبيا في نظر جميع من حوله، حتى أن مدرسته “الفرابي” قررت طرده لاستحالة تعليمه كما أجمع طاقمها التدريسي.
لم يستسلم الجد لقرار المدرسة، ولم يرض بـ”الطريق” التي رسمها المدرسون لحفيده وحكمهم عليه بالفشل منذ سن الثالثة عشرة، بل قرر أن يوهمه بمصير أفضل ويخط له طريقا ستجعله في المستقبل نموذجا مشرفا لنفسه ولعائلته ولأهل القرية البسطاء.
أوكل الجد لنفسه مهمة تحويل الغباء الإدراكي الخاص للطفل إلى ذكاء معرفي وجمالي محولاً إياه إلى رجل للطريق، يجلس على ناصيته، صيفا وشتاء، في القيض والمطر، ليتأمل حركة المارة ويتعلم منها كل يوم أن الطريق طرقات، ولكل منا طريقه التي يختارها عن وعي ذاتي أو ربما تفرضها عليه المجموعة التي ينتمي إليها، لكن الطريق يشملنا جميعا، يشمل من يصل ومن يضل ومن يتردد، من يتعصب ومن يعيش مسالما، من يصدق ومن يخون، من يكافح الصعاب ومن يستسلم لتغيرات الحياة تتقاذفه يمنة ويسرة.
والطريق هنا استعارة مجازية للحياة، فهي طريقنا جميعا، طريقنا الوحيد الذي نشترك فيه شئنا أم أبينا ولا طريق لنا سواه، وبوعينا ببدايته نرسم نهايته كما نشاء، لتكون إما حبا أو كراهية، إما سعادة أو شقاء.
إنه “الاختيار”، الاختيار الواعي من الآخر الذي يشكل الطفل ويخلق فيه المستقبل الذي يريد، وهو اختيار يذكرنا كم من الآباء والأمهات يعاملون أبناءهم على أنهم أغبياء وفشلة ثم يشتكون من أن ابنهم بالفعل غبي وفاشل، بينما ينمي آخرون لدى فلذات أكبادهم قناعات وهمية بأنهم ناجحون، وبالفعل يفتخرون في النهاية بأن أطفالهم صاروا رجالا ونساء ناجحين.
بالنظر إلى كل العناصر المكونة للفيلم، من إخراج وموسيقى وتأطير للممثلين وقصة وسيناريو، يمكن القول إنها من السهل الممتنع
واختيار بسيط في لحظة مصيرية قد يحملنا نحو العلم والحياة والحب، كما قد يحملنا نحو الموت والاستسلام والكره، قد نجد فيه الحب وقد نضيعه، قد يجمعنا بالشعراء والمفكرين والعلماء والدروس الثرية، لكنه قد يجمعنا بالبلطجية والجهلة والمتعصبين أيضا، قد يعلمنا فهم وتحليل عمق الشخصيات والأحداث وقد يتركنا سطحيين لا تهمنا سوى المظاهر لا نقرأ ما خلفها.
ويأتي الفيلم أيضا ليكون رسالة نقد مباشرة للمنظومة التعليمية التي تنتهجها أغلب الدول العربية، وتعتمد على التلقين والتعامل مع التلاميذ بنفس المستويات المعرفية والبيداغوجية، فتدفع الجميع مرغما نحو التحول إلى “قوالب” جاهزة، هي منظومة تفتقر إلى البعد الفلسفي والنفسي في التعامل مع الأجيال الناشئة وطرق تشكيلها، والدليل على ذلك في الفيلم أن العلاج بالوهم أو التربية على الوهم مسألة لم يفكر فيها أحد من المدرسين إلا الجد لاهتمامه الحقيقي بمستقبل الفتى صالح.
ونقل الجد صالح لنا أساليب تعليمية جديدة، علمت الحفيد صالح جميل الدروس من كل المواد، والقواعد الكبرى منها، فاختلفت نظرته للفيزياء والرياضيات وللشعر والتاريخ وغيرها، وصار يفهم كل مادة انطلاقا من ربطها بالواقع والحياة ويعترف بأن العلم ابتكره الإنسان انطلاقا من ملاحظته للحياة ولم يكن شيئا مسقطا أو قواعد منفصلة عن الحياة عليه حفظها والعمل بها دون فهم.
وينتهي الفيلم باكتشاف الحفيد صالح الذي صار دكتورا متخصصا في جراحة الأعصاب، وجميع من في القرية لسر رسالة المدرسة التي أخفاها الجد لأكثر من خمسة عشر عاما، يتلوها على مسامعهم في لحظة اعتراف قاسية، ويخبرهم بحكاية توماس إديسون (1847 – 1931) الذي عاش قصة حقيقية مشابهة للفيلم، وعوض أن تستسلم والدته للمصير الذي اختارته المدرسة لابنها، جعلت منه أشهر العلماء والمخترعين في العالم، وبينما حاولوا هم إطفاء النور في قلبه، أنار هو لهم ولنا الدنيا بما فيها، وكان مخترع المصباح الكهربائي لتتوالي اختراعاته المفيدة للبشرية.
والدرس المختصر لصالح وللمشاهد أيضا كان “يمكن الوصول إلى النتيجة بأكثر من طريقة، فلا تظن أنك وحدك من يملك الحقيقة”.
السر في البساطة
الفيلم يأتي ليكون رسالة نقد مباشرة للمنظومة التعليمية التي تنتهجها أغلب الدول العربية
يتعامل المخرج عبداللطيف عبدالحميد مع الكاميرا ببساطة، حتى أنه لقب مرة بأنه مخرج لسينما البساطة، لذلك تجد كاميراته تنتقل عبر زوايا تصوير ولقطات متنوعة، فلا تكثر من لقطة على حساب الأخرى، وتركز على التفاصيل الدقيقة التي قد يتجاهلها آخرون، وهو أيضا مخرج يعي جيدا أهمية اختيار الممثلين، فتجده مثلا في فيلم الطريق لم يختر ممثلين معروفين لتوفير دعاية أكبر لعمله، وإنما جاء بأربعة ممثلين (الجد، الأب، الحفيد وهو صغير، الحفيد شابا) بملامح جسدية متشابهة، وقدمهم بأداء تمثيلي شديد الإقناع.
وألف المخرج نص الفيلم مع الشاعر السوري عادل محمود، فجاء السيناريو والحوار سلسا، يبدو منظوما بدقة كقصيدة نثرية مقتضبة تبلغنا الرسالة بوضوح، صاحبتها مؤثرات موسيقية اختارها خالد رزق، لتعبر عن الهوية السورية ومنها ما هو مأخوذ من أغاني تراثية.
وبالنظر إلى كل العناصر المكونة للفيلم، من إخراج وموسيقى وتأطير للممثلين وقصة وسيناريو، يمكن القول إنها من السهل الممتنع، وربما يعود ذلك أيضا إلى أن عبدالحميد مخرج “قديم في الصنعة” وهو المتمكن منها والحاصل على نحو خمسين جائزة سينمائية منها عشر جائزات ذهبية. ورغم أن هذه الجوائز سقطت جميعها في قبضة “جبهة النصرة”، التنظيم الإرهابي المسلح الذي يحارب في الشمال السوري إلا أنه لم ييأس ونذر جوائزه “المغتصبة” ليظل فاعلا في السينما، ولم لا يحصد جوائز أكثر.
وما يمكن أن يعاب على الفيلم، هو أن فكرة التربية على الوهم ليست جديدة على السينما، بل تم تقديمها بقراءات ومعالجات بصرية مختلفة تتنوع من مخرج إلى آخر.
لكن “الطريق” الذي يشارك هذا العام في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية هو- إن صح التعبير- الفيلم الأقرب إلى شعار الدورة الثالثة والثلاثين للمهرجان، “حل ثنية”، والذي يمكن أن يكون عنوانا ثانيا للفيلم، فـ”حل ثنية” ببساطة هو اختصار لفيلم “الطريق” بما حمله من رسائل فلسفية عميقة، والفيلم هو أيضا تجسيد سينمائي حي للشعار الذي يؤكد على أهمية أن تفتح السينما طرقا للإنسان ليتبع شغفه بالفن وموهبته، ولو كان من المنطقي إسناد الجوائز للأفلام لأنها تتماهى مع موضوع الدورة لما ذهبت جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي إلا إلى فيلم “الطريق”.
وفيلم الطريق الذي صورت مشاهده في منطقة الدريكيش بريف طرطوس شاركت فيه مجموعة من الفنانين السوريين من بينهم موفق الأحمد وعدنان عربيني وغيث ضاهر ومأمون الخطيب ورباب مرهج وأحمد كنعان ورند عباس وتماضر غانم وماجد عيسى وراما الزين وعلاء زهرالدين وهاشم غزال وخالد رزق وغيرهم.
حنان مبروك
—
Nezar Baddour