في البدء كانت الصورة
مقالة للكاتب المغربي (لحسن موهو ) مجلة الفنون الكويتية العدد 22 عام 2002
اهتم الإنسان بفعالية الكلمات أكثر من اهتمامه بفعالية الصورة ، لهذا تأخرت دراسة الصورة على دراسة اللغة بقدر كبير ،فالتاريخ المعيش يقترح(في البدء كانت الصورة)، في حين يصرح التاريخ المكتوب، في البدء كانت الكلمة.
أكثر من هذا فإن الصورة تذكارية تلعب دور تمديد للحياة ، لأنها سليلة الحنين، كما أن النظر ليس طريقة للتلقي بل هو ترتيب للمرئي لأن الصورة تمتح (المتح هو استخراج الماء من البئر)معناها من النظرة كما يمتح المكتوب معناه من القراءة : فالصورة هي فائض الفكرة.
إن اللوحة الجيدة تعلمنا في المقام الأول أن ننسى الكلام لتعلمنا من جديد فن النظر.
فالصورة علامة ، لها ميزة تكمن في أنها تمنح نفسها للتأويل وتدعو إلى ضرورته، غير أنها لا يمكن أن تقرأ لأن اللغة التي تتكلمها الصورة هي لغة رائيها باعتبار الصورة توقظ في مخيلته خصوبة رائعة في الإيحاء ، فهي تلامس شطآن اللغة من جميع الجهات من غير أن تنتمي إليها: إنها فائض زينة.
الصورة لا تحتاج إلى كلمة لأنها تحمل مهناها في ذاتها، فإذا كانت الكتابة بحاجة إلى قراءة حاذقة فإن الصورة بحاجة إلى عين مرحة لأن اللون سابق على الكلمة بزمن غير يسير.
قد تكون الكتابة بحاجة إلى متعة أو لذة النص (حسب تعبير رولان بارث)، أما الصورة فهي عامل استنفار لشبقية العين التي هي بطبعها عاشقة ونزقة، لذا فإن غض البصر هو درء للفتنة لأن الصورة كلام العين، أو هي خائنة الأعين.
فإذا كانت الكتابة تنقل الوعي إلى اللغة فإن الصورة تمنح الوعي للنظر، فالصورة خطاب مرئي بدرجة عالية ومسموع بصوت مرتفع، حتى أن بلاغة الصورة أصبحت بديلا عن صورة البلاغة ، وصار مجاز المشهد بديلا عن مجاز اللغة وعاد المشهد البصري أكثر سحرا من الخيال الشعري، فشعرية العين اليوم هي أكثر حضورا من شعرية الأذن لأن المجال المهيمن هو المجال البصري حيث يطغى الشاهد على الغائب ، والمرئي على المقروء ، والصورة على الفكرة، والإشارة على الدلالة، والخيال على الواقع
، فالصورة تشل الصوت وتمسح الكلام وتترك بصماتها في الذاكرة حتى أنها تكاد تكون بمثابة مرآة العين، وهي تمارس فراستها في التقاط التفاصيل وغزل الألوان لتقف على كنهها وتسبر أغوارها.
إن عوالم الصورة قادرة على النفاذ إلى الذاكرة وتشكيل الطاقة الحسية والانطباعية للعين ، وكأن أصابع الضوء تلامس ماء العين ، في أجواء احتفالية يرقص فيها النظر على نغمات وايقاع الألوان الغامقة والفاتحة ، وتعانق الصورة أهداب العين ورموشها ، وترسم قبلاتها ما بين شفتي الضوء الظل ، وتختم على القلوب بقصائد ضوئية ينتشي فيها عشق السمع بالنظر ، وتتعانق فيها ملاذات العين بطرب الأذن ، ألم يعتبر الإمام الغزالي أن بصيرة القلب أشد مضاء وتكشفا من بصيرة العين ؟.
تمارس الصورة فن الغواية ، فهي تسرق ما تحاول الكلمةأن ترسمه في القصص ، وتهرب أجواء الكتابة الحافلة ببياض الورقة وسواد المداد إلى لعبة النور والظل ، وتذيب فضاء الكتابة في بهاء الصورة التي هي بمثابة التركيب والأسلوب اللذين تعتمدهما الكتابة ، وتتفوق الصورة بالنظرة القاضية أكثر حين تعمد إلى إلباس الرؤيا بظلال الشعرية حتى أن مكر الكتابة ينهار أمام كيد الصورة التي تفلح في الغالب في طرز الرؤى و نسج الخيالات ، فالصورة اشتعال الحواس،هي تلك الإرتعاشة الأخيرة التي تحاصر روح المتفرج …..هي فسحة العين التي تسمع رفيف الأجنحة ، هي ومضات الألوان التي تداهم العين وتؤلف بين شظايا المشهد الذي (يتزابق) مع الكثافة التعبيرية ، الشيء الذي يجعل الصورة تبوح بما اختزنته العين من ألوان تتماهى مع لمسات الضوء .
تتحرك الصورة على حافة الظل ، تفك أزرارا وتقرع أجراس الحس لتنفذ إلى الوجدان ، وهي تراودنا عن أنفسنا عبر إيماءات ضوئية كأنها تسيل من بين أصابع فنان، تزهو الصورة بألوانها التي تفيض نعومة وعذوبة ورشاقة لتحقق الوصال مع شبكة العين التي تتعقب الصورة كطريدة.
مجلة الفنون الكويتية العدد 22 عام 2002 .أرشفة د.نزار بدور