المدرسة النورية في حمص… جامعة عمرها أكثر من ثمانية قرون
بقلم – خالد عواد الأحمد :
شهدت سورية خلال الفترة الأيوبية حركة عمرانية لا مثيل لها لا تزال بعض معالمها ومشيداتها ماثلة إلى الآن، ويعود السبب في ذلك إلى الوحدة التي تحققت في أيام نور الدين الزنكي، وإلى الإزدهار الإقتصادي واستتاب الأمن بالرغم من انهماك الدولة في حروب الفرنجة الصليبيين وتحرير الأراضي المقدسة، وتجلت هذه الحركة العمرانية في توسيع المدن وتجديد أسوارها وتشييد القلاع والحصون وتزويد الطرق العامة بالخانات كمحطات للقوافل وامتلأت المدن بالمباني العامة من مساجد ومدارس وخانقاهات “دور ضيافة ومنازل للصوفية” والعمائر المختلفة كالمدارس العلمية والدينية التي تحولت إلى مراكز إشعاع علمي وحضاري امتد إلى جميع أصقاع الأرض، ولكن لسوء الحظ فإن الكثير من هذه المدارس اندثر وانمحت آثاره بينما بقي الجزء الآخر يتابع تأدية دوره في نشر العلم ولكن بأسلوب آخر إذ تحولت هذه المدارس إلى مكتبات عامة، والمدرسة النورية التي أنشأها الملك المجاهد “أسد الدين شيركوه” عم البطل صلاح الدين الأيوبي بعد أن أقام في مدينة حمص عام 627 هـ هي واحدة من المدارس الأيوبية في بلاد الشام، وتشغل مكانها اليوم المكتبة الشرقية في الجامع النوري الكبير الذي كان بدوره بمثابة “سوربون” مصغر، ففي صحنه ومصلاه الخارجي وغرفه المتعددة درجت أجيال وأجيال، ويقول أبو الفضائل الحموي في أحداث سنة 627هـ/1229م : (… وفيها شرع السلطان الملك المجاهد صاحب حمص في …و… وعمًّر مدرسة جميلة غير المدرسة النورية أولاً) وفي ذلك إشارة إلى أن المدرسة النورية التي شادها نور الدين زنكي كانت قائمة قبل هذا التاريخ.
ولا تختلف هذه المدرسة في تصميمها المعماري عن الطراز الأيوبي عموماً –كما يقول الباحث د. منذر الحايك” لـ”زمان الوصل” فهي تحوي باباً كبيراً مزيناً بزخارف كثيرة ميزت هذه العهد من التاريخ الإسلامي، ويبدو محيطها بما يحويه من عناصر معمارية متناسقاً مع الشكل العام للجامع الكبير سواء باستعمال الحجر أو بالشكل المعماري، وقد مثلت هذه المدرسة ما بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلاديين مركزاً للدراسات والعلوم الدينية والفقهية يؤمها الدارسون وطلاب العلوم والاقامة فيها في بعض الأحيان، ولم تقتصر مناهج التدريس في المدرسة النورية على تدريس وتحفيظ القرآن والحديث والفقه وأصول اللغة العربية شأن المدارس القديمة الأخرى في بلاد الشام وانما امتدت لتشمل مختلف العلوم والمعارف وخاصة الطب والصيدلة والفلك والكيمياء، وكانت المدرسة تحوي غرف تدريس للطلاب ومكان إقامة لهم” وأردف محدثنا أن المدرسة النورية يغلب عليها مثلما هي العمارات الأيوبية بشكل عام طابع البساطة والتقشف في البناء المعماري، كما تخلو من قبة، والقباب كما هو معروف كانت عنصراً أساسياً في العمارة الأيوبية، وتتألف بوابة المدرسة من مصراعين كبيرين مصفحين بالنحاس والمسامير الموزعة بأشكال هندسية لإعطاء مظهر جمالي، وأغلب الظن أن هذه البوابة قد بُنيت بعد العهد الأيوبي في عام 969 عندما أحرق المدرسة مع الجامع الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس، وبعد تجديدها أحرقها ثانية دوق أنطاكيا البيزنطي وذلك عام 1002
وفي الستينات من القرن الماضي تحولت “المدرسة النورية” إلى مكتبة ضخمة تحتوي على قاعتين كبيرتين فيهما عدد كبير من الكتب والمخطوطات النادرة يلجأ إليها الدارسون للإطلاع والقراءة، وتحتوي المكتبة اليوم حوالي 3300 كتاب في التاريخ والقصة والاجتماع والتربية والتفسير والفقه والتاريخ الإسلامي والتاريخ الطبيعي .
ويعد الجامع النوري الذي يحتضن المدرسة الأثرية من أكبر وأقدم المساجد القديمة في مدينة حمص، ويشبه في طرازه المعماري إلى حد كبير الجامع الأموي في دمشق من حيث تخطيطه وهندسته المعمارية، وتعرض الجامع لأضرار فادحة من جرّاء استهداف قوات النظام له خلال السنوات التسع الماضية، ولا سيما في مدخليه الجنوبي والغربي المؤدي إلى صحن الجامع، كما تهدّم السقف والجدران بشكل جزئي، وتعرضت أجزاء من الجدران الداخلية والواجهة الجنوبية للحريق، وانهار الجزء العلوي من المئذنة. إضافة إلى واجهة المدرسة النورية.