Sabri Yousef مع لينا هويان الحسن
الرِّوائيِّة السُّوريَّة لينا هويان الحسن سنبلة بدويَّة شامخة على جبينِ الزَّمن
صبري يوسف – ستوكهولم،
الرِّوائيَّة السُّوريَّة لينا هويان الحسن كاتبة زاخرة بتجربة بدويّة عميقة، تفتخر ببدويّتها ومعتزّة بهذا الانتماء البدوي، ومتحسِّرة على اختفائه مع مرورِ الزّمن، لهذا تريد إعادته عبر ذاكرتها المنقوشة بهذا الإرث الفريد؛ لتخلِّده عبر إبداعها الرّوائي عربون محبّة وانتماء!
أثَّرتْ طفولتها الَّتي عاشتها في البادية تأثيرًا كبيرًا على تجربتها الرّوائيّة، كانت معينًا لا ينضب لإرواء عطشها لهذه الفضاءات الرَّحبة، فاستلهمَتْ من هذه العوالم آفاقًا سرديّة فريدة وساحرة، وأبدعَتْ روايات مدهشة في بنائها الخلَّاق، تفتقرُ إليها المكتبة العربيّة!
عمَّقت دراساتها الفلسفية وعملها في الصّحافة السُّوريّة من فضاءات حرفها وسردها، فكتبت رواياتها بهدوءٍ عميق. وتُعَدُّ لينا هويان الحسن أوَّل روائيّة كتبَتْ عن عوالم البادية السُّوريّة في دنيا الشَّرق، وقد امتدَّ فضاء سردها إلى بوادي وصحارى الأردن والعراق ونجْد وغيرها من البوادي.
تتميّز أعمالها الرِّوائيّة بسردٍ بهيج معبَّق بحبق البوادي ورحاب الصّحارى. بناءٌ متماسكٌ ولغةٌ منعشة في طراوتِها وفرادتِها. متألّقة في بناءِ تدفّقات خيالها الرِّوائي. تحملُ الرّوائيّة بين أجنحتها تجربة فسيحة عن عوالم فضاءات سردها، كأنّ لغتها منبعثة من هلالات روح الطَّبيعة في ليلةٍ قمراء، ومتعانقة مع نسيمٍ صباحي وهو يناغي حبق السَّوسن وآفاق الصّحارى في أوجِ الانبهار. سردٌ معبَّق بشهقاتِ الحنين، كأنّه يلامسُ كهوف الجان والمَرَدَة ومتاهات السَّراب. تتدفّق لغتها من أعماقِ غربةِ الرُّوح. هل تستلهمُ الرّوائيّة عوالمها من واحات البوادي في غمرةِ أحلامِها المعشوشبة بسحرِ ليالٍ متلألئة بالنّجومِ، أم أنّها تنبعث من إشراقاتِ حنينِ الطُّفولة وهي في أوجِ توقها إلى مداعبةِ ضياءِ القمر؟!
تمتلكُ الرّوائيّة لغةً متينة، مكثّفة بسحرِ البادية وعراقتها وتلاوينها المخضلَّة بالأسرارِ والغرائبيّة مقارنةً بما هو سائد في عوالم الحضر. تنسجُ متونَ سردها بشاعريّة شفيفة، عبر حوارٍ سلسٍ بين شخصيَّات رواياتها المتشعّبة إلى تفاصيل سحريّة لا تخطر على بال، مركّزةً في سياق سردها على أقوال المستشرقين؛ تأكيدًا منها على دقَّة ما هي ذاهبة إليه في تأريخ البادية، وكأنّها توثّق هذه العوالم الرّحبة الّتي بدأت تتآكل وتضمر شيئًا فشيئًا، وفي سياقِ احتضان هذه الحميميَّات المسترخية في روابي الذّاكرة؛ تفاديًا لعوامل التَّلف والنّسيان، فلم تجد أجدى من النّص الرّوائي؛ كي تحافظَ على هذه المساحات الخصبة من الذّاكرة الانفعاليَّة الحميميّة، وتجسّدها عبر تجلّيات شهوةِ الإبداع.
يتداخل السَّرد في فضاءات أعمالها ويتفرّع إلى متاهاتٍ مفتوحة على آفاق متماهية مع ألقِ السَّراب ومنعرجاته، بلغةٍ محبوكةٍ بمهارةٍ عالية. استطاعت أنْ تمسكَ بخيوطِ سردها بدهاء أهل البادية الّذين لا يتيهون حتّى عبر فيافي السَّراب؛ لأنّهم على حميميّة فائقة مع هذه العوالم السِّحريّة الجميلة، فأصبح السَّراب أليفًا، والتِّيه أنيسًا لهم رغم غرائبيّته المفتوحة على فضاء اللَّيل، حتَّى اللَّيل أصبحَ مألوفًا لدى أهل البوادي ولدى الرِّوائيّة؛ فهي قادرة أن تقرأ معالم النّجوم كما يقرأ الحضر معالم المدائن، وكلّ هذا العبور في أعماق اللَّيل والصَّحارى ساعد الرِّوائيّة أنْ تقدَّمَ لنا روايات تليق بمقام معالم جمال البادية البديع.
لا تنسج الرِّوائيّة نصَّها على وتيرةٍ واحدة، بل هناك الكثير من الخيوط المتشابكة والمتداخلة بطريقةٍ متشعِّبة، وأحيانًا نرى هناك قَطْعًا في السَّرد وانتقالًا من مشهدٍ إلى آخر ومن حدثٍ إلى آخر دون ربْطٍ سببي مباشر في تسلسل الأحداث، لكن مهارة الرّوائيّة السَّاردة تجعل القارئ لا يشعر بهذا القفز الفنِّي في عوالم سردها، من خلال رشاقة حوارها وبنهائها السَّردي المتين، وكأنّنا إزاء تدفُّقات مماثلة لتوهّجات الشّعر، عبر متون نصّها الرِّوائي، لكنّها تعرفُ كيفَ تلملمُ خيوطها المتفرِّعة بطريقةٍ سلسة، وتعطي للنص تجلِّيات باذخة في تفرُّعات الأحداث، جانحةً في بعض الأحيان نحو شواطئ الشِّعر في سياق سردها العاجّ بحوار محبوك بلغةٍ ومفردات وأسماء وأحداث وتأريخ بدوي صحراوي.
قدّمت الرِّوائيّة تجربةً ناجعة وعميقة تعكسُ فضاءات جديدة في السَّرد الرِّوائي من خلال تجسيدها عوالم البدو بطريقة طازجة وغير معهودة من قبل بهذه الدِّقة والموضوعيّة، نراها تحبُكُ أحداثها عن الصَّحراء والفيافي والبوادي واللَّيل وعالم البدو بكلِّ تفاصيله وخصوصيَّاته، ونجحت في مغامرة العبور في خصوصيَّات هذه العوالم؛ رغبةً منها أن تجسِّد هذه العوالم الغامضة الّتي يمتاز بها البدو، وقد رأت أنَّ ما هو سائد في عوالم البدو فيه إجحاف أكثر من مرّة؛ فمرّةً تراه يُقدَّمُ عبر الدراما السُّوريّة والعربيّة بطريقةٍ سطحيّة وهزيلة، لا يعدو أن يكون ساخرًا بعض الأحيان، وسطحيًّا في أكثر الأحيان، وترى أن أكثر المشتغلين بالدراما المتعلِّقة بالبدو يلخّصون هذا العالم الرَّحب بالجمال والخيل بطريقةٍ ساذجة ويقدِّمون البدوي على أنّه يرفض الغريب الَّذي يتزوَّج من ابنة عمِّه، ويبنون صراعات هشّة وسطحيّة لا ترقى نهائيًّا أن تمثِّلَ البدو بأبعادهم وعاداتهم ورحابة معالمهم الَّتي لا يعرفها إلّا البدوي الأصيل، فجاءت لينا هويان الحسن، هذه البدويّة الجميلة في سردها وفي جمال فكرها الخلَّاق أن تقول لا؛ لأنّها ترى أنَّ البدو أعمق بكثير ممّا يظنُّ هؤلاء الَّذين كتبوا عن البدو بسطحيّة ممجوجة، لهذا أرادت أنْ تجسِّد هذه العوالم كما كانتْ وكما آلَتْ إليه وقائع الحياة قبل أن يتآكل ويتعرّض هذا العالم الحميم إلى النّسيان، ما لم يتم تجسيد عوالمه عبر نصوص سرديّة وروائيّة ودراسات عميقة وموضوعيّة، وقد وجَدَتْ أن المستشرق الغربي والغربيِّين الَّذين قدّموا دراسات عن البدو كانوا منصفين أكثر ممَّا قدَّمه العرب أنفسهم عن البدو، وهذا إنْ دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أنَّ العرب لا يعرفون قيمة تراثهم وثقافتهم وحضارتهم؛ سواء على صعيد عالم البدو أو الحَضَر أيضًا، ولا حتَّى على صعيد الثّقافة والإبداع.
أدهشتني الرِّوائيّة بذاكرتها المعتَّقة بالذّهب الصَّافي، فتسرد أسماء شخوص رواياتها والخيول والجِمال والأعشاب والطّيور والحشرات والحيوانات البرّيّة والأهليّة وأنواع الأكل والحبوب والأدوية وأسماء العشائر والمناطق ومفردات لهجة البادية وتفرُّعات وتفاصيل دقيقة كأنّها مصوّرة على شرّيط فيديو أو مدوَّنة على كتاب وتنقله بشكلٍ حَرْفي وتستعرضه بكلِّ هذه المصطلحات والمفردات والعوالم البدويّة بدقّة متناهية، وكلّ هذا يقودنا إلى أنَّ الرِّوائيّة تؤرشف عالم البدو عبر رواياتها الّتي ترقى إلى أن تكون مرجعًا مهمًّا لمعرفة عالم البدو؛ لما فيه من اشتغال في تفاصيل لا يمكن الرُّكون إليها، إلّا لِمَن كان على درجة عالية من المعرفة البدويّة بكلِّ حميميّة وشغف واهتمام. لهذا تبدو لي الرِّوائيّة عين البدوي الحريصة على هذا الجمال المهدّد بالنّسيان والتّلاشي، فتقطع الطَّريق عن هذه المخاوف الَّتي ربمّا راودَت الكثيرين، لكنّهم لم يقفوا وقفتها في تجسيد هذا البهاء على جدار الزّمن عبر نصوص روائيّة راسخة رسوخ الصَّحارى!
تتألّق الكاتبة في حفاوةِ السَّرد المستوحى من سرابِ البادية المفتوح على أحداقِ الكون، يمنحها تدفُّقاتٍ سرديّة رهيفة وجامحة نحو أرخبيلات الخيال، كأنّها في رحلة حلميّة في رحاب ذاكرة معتّقة بأسرار البوادي الَّتي عبرَتْ متاهاتها واكتشفت مغاليقها المزدانة بغرائب الطَّبيعة بكائناتها وصمت ليلها وروعة السَّماء المنقوشة ببسمات النّجوم وسطوع القمر في اللَّيالي القمراء، حيث تنساب ريشتها على عناقِ دفءِ الحرف.
تلتقطُ الرِّوائيّة خيوط سردها من رؤية انفراجيّة لواقع الحال الَّذي حلَّ بشخصيَّات رواياتها. وتتوغَّل عميقًا في حيويّة السَّرد، تناجي نجوم اللَّيل عبر خيالها في أعماقِ الصَّحارى. كم من التِّيه تهنا ونحن ما نزالُ عطشى لمعرفة ما يُحاكُ خلف التِّلال البعيدة؟! تهرب تلالنا منّا، وينابيعنا عطشى للماء الزُّلال! ينابيعُنا جفّتْ من هولِ تفاقمِ تصدُّعات الصَّولجان، إلى متَّى سنبقى منزلقين في أعماق الرّماد؟! لماذا لا نرسمُ فرحًا فوقَ خدود الغدِ الآتي؟! من يستطيع أن ينتشلنا من مغبّة الانشطار، من يستطيع أن يخفِّف من شفير هدير الرّيح المهتاجة فوق خدودِ الصَّحارى؟! من يستطيع أن يلملمَ أحزان المدائن الغائرة في شفيرِ الانهيارِ؟! من يستطيع أنْ يرسمَ بسمةَ الأطفالِ فوقَ سهولِ الرُّوحِ، من يرى كلّ هذا الانجرار نحوَ أخاديدِ الجحيم؟
قامة روائيّة مسربلة بابتهالاتِ شهوةِ الحرفِ وهفهفاتِ بوحِ القصيدة، إشراقةُ حنينٍ إلى أعماقِ البوادي، تدفّقات منبعثة من رحيقِ الياسمين، تقنيّاتٌ منسابة معَ زخّاتِ المطرِ النَّاعم، رشاقةُ حوارٍ يماثلُ جموحَ غزالةٍ تسابقُ هبوبَ الرِّيحِ، رواياتٌ محبوكة بأسرارِ الصّحارى شوقًا إلى مآقي النّرجسِ البرّي. بناءٌ فنّي محبوك بتدفُّقاتٍ وقفزاتٍ شفيفة، كأنّ الرِّوائيّة كانت في حالاتٍ ابتهاليّة غامرة أثناء كتابة وهجها السَّردي البديع؛ لهذا، تولدُ أعمالها عبر خيالها الجامح، متدفِّقةً مثلَ شلَّالاتِ أفراحٍ مندلقة من إشراقاتِ النّيازكِ في ليلةٍ مجدولةٍ بحنينِ الكلمة إلى أعماقِ البوادي المعشَّشة في آفاقِ تطلُّعاتِ الحلمِ القادم.
لينا هويان الحسن روائية متميّزة ومرهفة في سبكِ شهقةِ الحرفِ، تتألَّقُ عبر تجلّياتِ بوحها السَّردي، كأنّها قصيدةٌ متهاطلة من أشهى مذاقِ الخيال. حرفها معتَّق بأرخبيلات حبور السُّؤال. قرأتُ بانشراحٍ كبير بوحَها المتعطِّش إلى مرابع طفولة مسربلة بتلألؤاتِ نجومِ اللَّيلِ، تنسجُ نصَّها وهي سارحة في أعماقِ الصَّحارى والبوادي عبر ذاكرة محفوفة بالخبز المقمّر؛ بحثًا عن خلاخيلَ أمٍّ ضاعَتْ في خضمِّ شراهاتِ الاشتعال!
هذا العالم العاجّ بالبهاء والجمال والغرابة والغموض والدَّهشة جعلنا في توقٍ شديد إلى قراءة فضاءات سرديّات الرِّوائيّة المبدعة لينا هويان الحسن، فتهنا بفرحٍ عميق في عوالمها المزدانة بتفاصيل حميمة ومتاهات سرديّة شيّقة منبعثة من لبِّ الحياة. أقرأ فضاءاتها بمتعةٍ غامرة وشهيّة مفتوحة على شهقات بوحِها وسردِها الحميم، للولوجِ عميقًا في أسرارِ الصَّحارى والبوادي الفسيحة، إلى أن أوصلتني إلى وهجِ الشّفقِ الأوّل، إلى لحظةِ إشراقةِ الشَّمس؛ إنَّها لحظة الولادة، لحظة استقبال الأرض لـلبادية السُّوريّة؛ كي تصبح يومًا ما رايةً خفّاقة لأصالةِ الطّينِ الّذي وُلِدَتْ عليه في صباحٍ مبلَّلٍ بالنَّدى!
ترعرعَتْ لينا على أرضٍ مباركة، معشوشبة بالخيرِ الوفيرِ والعطاءِ الغزيرِ إلى أنْ غدَتْ سنبلة شامخة على جبينِ الزّمن. تتهاطلُ ألقًا فوقَ تلالِ القصيدة، وتلملمُ أحزان الفصول والسِّنين وذكريات مجبولة معَ قهقهاتِ النّجوم في اللَّيالي القمراء على مدى سكونِ اللَّيل؛ كي تغدقَ علينا تجلِّيات سرديَّاتها وشِعرها وبحثها المتواصل عن تاريخٍ طويل منبعث من تلألؤاتِ النّجومِ عبر إيقاعِ همهماتِ اللّيل، تجسيدًا منها لحميميّاتِ البادية وأصالةِ الأرضِ الخيِّرة الّتي نبتَتْ عليها، وغوصًا في أعماقِ “السَّراب” الفسيح الَّذي قادنا ويقودنا وسيقودنا هذا “السَّراب” من خلالِ سردِ هذه الرِّوائيّة البديعة إلى أعماق أسرارِ البوادي والصَّحارى عبر رحلاتٍ سخيّة محبوكة بتجلِّياتٍ مدهشة إلى أنْ فتحَتْ أمامنا كلّ الطّرق والدُّروب المستعصية عن العبور، ومنحتنا مفاتيح الولوج إلى أعماقِ الطّلاسم والألغاز والأسرار والرّموز الّتي لا تخطر على بال في دنيا الصَّحارى، إلى أنْ أوصلَتْنا بطريقةٍ شفيفة على ضوء نُجيمات الصَّباح إلى عرين الأهداف الّتي رسمتها برحيقِ حبرها المستقطر من أريجِ الياسمين، المنبعث من بوَّابات دمشق إلى أقصى البوادي السُّوريّة على إيقاعِ عناقٍ مفتوحٍ على مدى مساحات حنين بوح الرُّوح إلى الطِّينِ الأوَّل!
ستوكهولم: (2015) صياغة أولى.
(8/ 9/ 2019) صياغة أخيرة.