أساتذته جيل العصر الذهبي
التصوير السينمائي تفسير بصري للنص كما يقرأه المخرج
التاريخ: 29 أبريل 2010
قدِّر عليهم أن يقفوا دائما خلف الكاميرات لا أمامها، يقدمون للآخرين وميض الشهرة، وبريقها، ولا يكاد الحظ يسعفهم بنصيب منها، وإذا كان الخبراء يؤكدون أن التصوير السينمائي هو تجميع للعناصر البصرية داخل الكادر، وإضاءتها، وتسجيلها على شرائط، فإن مدير التصوير السينمائي هو الذي يقدم ترجمة عملية لرؤية المخرج على الشاشة، ويلعب دورًا بالغ الحيوية في مواقع التصوير من خلال مسؤوليته عن الإضاءة، وتكوين الصورة أثناء عملية التصوير، وتصميم الموقع.
وبالتالي تصميم الصورة المرئية النهائية للفيلم، ما يعني أنه يقدم تفسيرًا بصريًا عبر مجموعة من الصور المتحركة للصفحة المكتوبة في السيناريو تبعًا لرؤية المخرج، وإذا كانت معاناة مدير التصوير الأولى تتركز في عدم الاعتراف به، فإن أجيالاً متتالية من مديري التصوير السينمائي حفرت – كما أمهر المثَّالين – بصمات بارزة في سجلات الإبداع، تعالوا نلقي بعض الضوء، ونقرب إطار الصورة من صناعها.السينما ابنة شرعية للصورة؛ لذا فإن الحديث عن السينما يسبقه دائمًا حديث عن التصوير، وقد احتفظ التصوير بأهميته في صناعة السينما منذ بدايتها، يتولى اختيار نوع «النيجاتيف» الخاص بالفيلم، معدات الإضاءة، عدسات الكاميرا، علاوة على مشاركته في الديكور، الإكسسوارات، والملابس، إلى غير ذلك من المهام الجسيمة التي تبوأها عددٌ من شيوخ المهنة بصبر وتفانٍ منقطع النظير، رواد عشقوا العمل تحت ظروف قاسية، وإمكانات محدودة.ويعد أشهرهم رائد التصوير السينمائي عبدالحليم نصر، كذلك مدير التصوير أحمد خورشيد، مصور فيلم «وداد» لكوكب الشرق أم كلثوم، والذي تم إنتاجه العام 1936، كما قام بتصوير عدد هائل من الأفلام وصل 40 فيلمًا، كان آخرها فيلم «الشيماء». ويذكر – في هذا الصدد – أن المصور الراحل وحيد فريد بدأ أول أعماله السينمائية في فيلم «وادي النجوم» العام 1943، وأصبح مديرًا للتصوير العام 1947 في فيلم «ابن الشرق»، وكانت آخر أفلامه «السيد كاف» من إخراج صلاح أبو سيف العام 1994؛ حيث وصل عدد الأفلام التي قام بتصويرها خلال مشواره السينمائي 126 فيلمًا.
وقد عانى كثيرًا بسبب الآلات البدائية التي لم يكن متوفرًا غيرها في هذه الأيام، فكان وزملاؤه يبذلون جهدًا خارقًا لابتكار الضرورات الجمالية والوظيفية في العمل؛ حتى يستطيعوا بلورة الإدراك الحسي والمعنوي للموضوعات؛ ليحققوا الفكر السينمائي، فكأنهم ينحتون في الصخر ب«إبرة».
تطور:
لم تتوقف ابتكارات المصورين، بل تلاحق فكرها ليوازي تطور صناعة الكاميرا، ووسائل الإظهار، والتثبيت، ولا تزال تتقدم حتى يومنا هذا، فهناك سلسلة من الابتكارات والاختراعات أسهمت في خلق العملية التصويرية؛ حيث فاجأ مدير التصوير السينمائي عبدالعزيز فهمي الجمهور بفيلم «أحب البلدي»، الذي تم إنتاجه العام 1945 بطريقة جديدة، وإمكانات عالية من كاميرات التصوير تم الاستعانة بها من فرنسا. ويُعد أبرز المصورين السينمائيين في بداية عصر النهضة التكنولوجية «عبدالمنعم بهنسي».
الذي بدأ حياته مع التصوير السينمائي كمساعد مصور في فيلم «الناس مقامات»، وقد عمل مديرًا للتصوير في فيلم «الابن المفقود»، كذلك تضم قائمة أشهر المصورين محسن نصر الذي بدأ في فيلم «كهرمانة»، ومصطفى إمام في فيلم «ثرثرة فوق النيل»، وعصام فريد في فيلم «المساجين الثلاثة»، و«عودة أخطر رجل في العالم»..
الحركة والزوم:
وتأتي مرحلة نهضة التصوير السينمائي لتشهد وجود مَنْ استفاد من الثورة التكنولوجية والرقمية، فقد قدموا إسهامات واضحة في مجال الصورة السينمائية؛ فأصبحت الصورة السينمائية ذات جودة عالية، وعن هذه المرحلة يقول شيخ المصورين.
رمسيس مرزوق:«لم تكن بدايات التصوير السينمائي محدودة، بل متطورة ومتلاحقة في تقديم الابتكارات الجديدة، فعندما تطور الفيلم السينمائي تطورت الكاميرات، ووسائل الإظهار، والتثبيت، فلو لاحظ أحد الأفلام الصامتة يجد أن حركات الكاميرا فقيرة؛ حيث كانت اللقطات – في أغلب الأحيان – ساكنة على محور واحد، واعتمدت في الأساس على حركة الممثل.
وكشف مرزوق عن افتقار الأفلام القديمة والصامتة لإمكانية «الزوم»، فكل الحركات الموجودة فيها ما هي إلا حركات تم إسنادها إلى الممثل والإكسسوارات والديكورات، بينما أتاحت الكاميرات المتطورة فرصة كبيرة لإظهار روائع كانت مفقودة؛ بسبب البدائية في عمليات التصوير؛ حيث أحدثت قفزة نوعية في فن التصوير السينمائي، حتى أصبحت طبيعة الأفلام السينمائية متطورة بشكل غير محدود عما كان في السابق من ناحية دقة اللون، إظهار الحركة، وإبراز قوة الصورة السينمائية وحدتها.
الألوان:
وكان الانتقال من التصوير «الأبيض والأسود» إلى التصوير بثلاثة ألوان، ثم التصوير بألوان متعددة مرحلة انقلاب كبرى في تاريخ السينما ككل – بحسب مدير التصوير شادي علي – حيث قال: إن التكنولوجيا أدخلت السينما مرحلة جديدة من التصوير؛ فتنوعت في إظهار الأشكال والألوان التي يبرزها العمل السينمائي.
وتوالت الثورة التكنولوجية حتى أصبحنا نرى أفلامًا «M8، M16، M35، M70»، وإذا كانت عملية التصوير قد دخلت مرحلة جديدة مع التصوير الملون، فإن أجهزة العرض كانت مضطرة هي الأخرى لمواكبة التطور نفسه، فبدأت دور العرض السينمائي هي الأخرى تتطور بسرعة مذهلة إلى أن وصلنا إلى طريقة البعد الثالث، وهي ما يطلق عليها السينما المجسمة».
رقمنة:
وتأكيدًا للعلاقة الوثيقة بين المصور والمخرج؛ يتحدث المخرج سعيد حامد عن التقنيات الحالية في التصوير، قائلاً: إن عصر «الرقمنة» سهَّل العمل السينمائي من ناحية الجهد والتكلفة المالية، ما أسهم في نجاح عدد هائل من العاملين في هذا المجال، واشتعلت المنافسة في استخدام التقنيات الرقمية التي تعطي صورة شديدة النقاء، ولا تزال الأبحاث مستمرة في المجال الرقمي الذي ينبئ بميلاد جيل جديد من الكاميرات الحديثة التي لن تزيد في أحجامها على «الموبايل»، بعد أن كانت تحتاج إلى وسائل نقل ثقيلة لحملها إلى البلاتوهات في العهود السابقة».
احتلال «ديجيتال»:
وإذا كان جيل العظماء من بدايات السينما الناطقة لم يشهد هذا التطور الهائل في التكنولوجيا الحديثة، فإنهم قد أبدعوا بإمكاناتهم الضئيلة، وبذلوا جهودًا مضنية، حتى استطاعوا تخليد أعمالهم في ذاكرة التاريخ، وهذا ما يؤكده مدير التصوير المبدع سعيد شيمي، الذي قدم للسينما نماذج متميزة، وحظي بتكريم هائل في المهرجانات والتظاهرات السينمائية، والذي عبر عن سعادته لكونه عمل مع ثلاثة أجيال متلاحقة.
كما يروي رحلة شقائه في عالم التصوير؛ بسبب بدائية الكاميرات، على الرغم من أنه جاء في وقت اعتبره فيه أساتذته أنه العصر الذهبي لأي مصور سينمائي، بعد دخول التقنيات الحديثة على الأفلام.
مضيفًا: أصبحتُ على قناعة تامة بأن التصوير بالكاميرات العادية سينتهي خلال الـ 10 أعوام المقبلة بعد احتلال كاميرات «الديجيتال» للتصوير السينمائي، كما ستحدث تقنية التصوير بالكاميرات المحمولة نقلة جديدة في مجال السينما، بعد أن استُخدمت في فيلم «واحد – صفر»، بالإضافة إلى اعتماد السينما في الوقت الحالي على تقنيات الجرافيك أيضًا.
المصور السينمائي محسن أحمد يتحدث عن مراحل تطوير المهنة خلال نصف قرن فيقول: بداية التطوير كانت بعد تأميم قناة السويس العام 1956م، وكانت هذه هي بداية النهضة الحقيقية للتصوير السينمائي، وجاء إنشاء معهد التصوير السينمائي العام 1959م تتويجًا للجهود السابقة، فالمعهد تخرج منه العديد من المصورين الذين أبرزوا نهضة من وحي موهبتهم الفطرية بجانب الدراسات الأكاديمية، وكان من بينهم رمسيس مرزوق، محسن نصر، وسمير فرج وغيرهم.
ظروف سياسية:
وأشار محسن إلى فقر الآلات والمعدات والمعامل في هذه المرحلة، وكان الاعتماد فقط على مخيلة وفطرة المصور السينمائي، وبرر أسباب افتقاد السينما في هذا التوقيت إلى الآلات الجيدة – على الرغم من وجودها في دول أوروبا وشرق آسيا – إلى عدم اهتمام عالمنا العربي بالسينما عمومًا..
موضحًا أن الظروف السياسية كانت «تجر» البلاد إلى فكرة الاستقلال أولاً، وهذا ما حدث – حسب كلامه – في معظم الدول العربية، وليس في مصر فقط، لكن بعد الاستقلال بدأ التفكير في التطوير ومعالجة تأخر فن السينما، كما جاءت زيادة إنتاج الأفلام بالخير على تطور الصناعة، ومواكبتها للمعدات المستخدمة عالميًا.
حل إنتاجي:
ولفت محسن نصر المصور السينمائي الانتباه إلى أن التحسين في أي أداة من أدوات الفن السينمائي لن يأتي سوى بزيادة الميزانية المرصودة، ومن ثم كثرة عدد الأفلام، وتزايدها في الفترة الأخيرة، إضافة إلى تطور الإنتاج في السينما التي ترصد مبالغ ضخمة لإنتاج الأفلام التي قد تصل ما بين 40 و45 مليون جنيه، وهو ما حدث مع أفلام «عمارة يعقوبيان»، «إبراهيم الأبيض»..
كل ذلك عوامل إيجابية تنعكس على تطور مهنة التصوير السينمائي كأحد أهم العناصر في الفيلم.. مضيفًا أنه يجب الوضع في الاعتبار أنه لولا التصوير ما كانت السينما، إضافة إلى أن توفير الآلات الحديثة يوفر إلى جانب الجهد عنصر الوقت.
الإعلان والكليب:
وبحسب الناقد محمود قاسم فإن الإعلان والأغاني المصورة كان لهما الفضل في تطوير التصوير، فهما العاملان اللذان افتقدناهما طوال إنشاء الفن السينمائي، وحين انفتحت مصر على العالم منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت، تطورت آلياتنا السينمائية.
خاصة فيما يتعلق بمهنة التصوير، وأضاف:«التكنولوجيا الحديثة كانت لها إسهامات في تطور الفنون جميعها، فهي على سبيل المثال العامل الأساسي في تطوير مهنة مدير التصوير.
فقد أضفت رونقًا على عنصر الصورة، الذي له دور كبير في قبول الشيء من نبذه، كذلك فإن برامج مثل الجرافيك أو «الفوتوشوب»، سهَّلت على مدير التصوير مهامًا كانت تتطلب جهدًا ووقتًا، وفي النهاية لم تكن تخرج بالكفاءة الحالية».
عقدة الخواجة:
لكن كأي مهنة لدينا، فلاتزال مهنة التصوير السينمائي تخضع لعقدة الخواجة؛ حيث إن هناك اهتمامًا من جانب صانعي السينما باستقدام خبراء أجانب في التصوير، الأمر الذي يضر بمهارات مدير التصوير المصري، وقد علق المصور السينمائي ماهر راضي على تسلل «شبح» الأجانب إلى ملعب المصورين المصريين بقوله: «إن الأمر له جذور قديمة تكاد تكون موروثًا شعبيًا، وهي «عقدة الخواجة».
لكن كيف يأتي مدير تصوير أجنبي ليعمل في مصر من دون تصريح أو سداد رسوم للنقابة؟ فالقضية مؤلمة؛ لأن مصر لها تاريخ طويل في هذه المهنة، كما أن لديها مبدعين حقيقيين على مدار تاريخ السينما، الأمر الذي لا يستدعي استقدام أجانب كما لو كنا معدومي المواهب المصرية في التصوير».