المحرر :رمضان سليم -الأربعاء، 22 أكتوبر 2008
عبد اللطيف عبد الحميد داخل التغطية وخارجها
عبد اللطيف عبد الحميد
داخل التغطية وخارجها: –
الاستجابة المتجددة والتأويل المتعدد
عندما عرض شريطه “الأخير” والذي جاء بعنوان “خارج التغطية” أعتبر المخرج عبد اللطيف عبد الحميد على رأس قائمة المخرجين فى سوريا من حيث عدد الأشرطة، وخصوصا بالنسبة لانتاج القطاع العام الرسمي، حيث يبقى المخرج محمد شاهين هو المخرج الأكثر انتاج فى السينما السورية بشكل عام، ولقد جاء ايضا شريط “خارج التغطية 2007” ليشكل إضافة مختلفة لهذا المخرج الذى رأى بعضهم بأنه قد صار يكرر بعض الموضوعات، التي سبق له أن قدمها فى أشرطته المتتالية، وخصوصا فى شريط “ما يطلبه المستمعون” والذي اعتبر من أضعف الأشرطة التى قدمها هذا المخرج.
بدايات أولى:
لقد بدأ المخرج عبد اللطيف عبد الحميد التعامل مع السينما عقب دراسته فى موسكو واخراجه لبعض الافلام القصيرة مثل: “أمنيات – أيدينا”. أما ممارسته العملية للافلام الروائية الطويلة، فقد بدأت مع الشريط المعروف “أحلام المدينة” لمخرجه محمد ملص انتاج 1984، وقد باشر العمل مساعدا للاخراج. ثم عمل ممثلا رئيسيا فى شريط “نجوم النهار” لأسامة محمد إنتاج 1987 والذي قام فيه بالدور الرئيسى، ولقد حقق الشريط نجاحا كبيرا، وخصوصا على المستوى الفني والنقدى، وبالطبع كان يمكن أن يستمر عبد اللطيف عبد الحميد ممثلا، ولكنه اختار التوجه نحو الاخراج، وجاءت مجموعة افلامه لتدل على أنه من أهم المخرجين فى سوريا، فهو المخرج الذى يعرفه الجمهور مباشرة وينتظرون أفلامه، وهو نجم باعتباره مخرجا وهذه ظاهرة غير مسبوقة بالنسبة للسينما فى سوريا.
أول أفلام المخرج كان بعنوان “ليالي بن أوى – 1988” وبالفعل يعد هذا الشريط من أفضل أشرطته، حتى أنه فاز بعدة جوائز دولية ومنها الجائزة الذهبية لمهرجان دمشق السيتمائى، جائزة الزيتونة الذهبية بمهرجان بسوريا، وجوائز أخرى لبعض الممثلين، منها جائزة أفضل ممثل لاسعد فضة بمهرجان دمشق السينمائى.
تدور الأحداث في القرية، حيث تعمل العائلة فى الزراعة، ويسيطر الأب على كل شىء بما فى ذلك اخضاع ابنائه، فيعاقب أحد الأبناء بدفنه تحت الأرض، ويهرب آخر للمدينة، ويدخل احد الأبناء الجيش ليموت فى معركة 1967 – حيث النكسة المرتبطة بالقهر وسيطرة الرأى الواحد والانهيار الداخلي قبل الخارجى.
رسائل بعيدة:
في عام 1991 قدم عبد اللطيف عبد الحميد شريطه الثانى وهو بعنوان: “رسائل شفهية” وفاز هذا الشريط بعدة جوائز، منها الجائزة البرونزية فى مهرجان بالانسيا فى اسبانيا، وتدور الاحداث ايضا فى القرية – من خلال استعراض قصة حب يتم التعبير عنها بواسطة رسائل مرسلة من طرف الى آخر بواسطة رسول ووسيط آخر لقد جاء هذا الشريط بنفس النكهة السابقة والتى تقوم على الكوميديا والتلقائية والبساطة والشخصيات الارتجالية، حتى يبدو الشريط، وكأنه لا يقوم على سيناريو، رغم انه ليس كذلك. وسوف تصبح هذه السمة هى التى تميز افلام المخرج القادمة.
في عام 1994 جاء شريط “صعود المطر” وهو أول شريط للمخرج تقع احداثه في مدينة دمشق، ولا شك أن الثنائية “المدينة – القرية” تبقى هي محور أفلام المخرج، وسوف نجد أن الريف قد ارتبط بالعفوية والتلقائية الى درجة الغرابة واحيانا البلاهة، بينما نجد أن المدينة تحوى الكثير من التراكيب اللامعقولة والتعقيد الفكرى والذهنى، ويتمثل ذلك فى شخصية “صباح” الكاتب في “صعود المطر” الذي يعيش حياة كئيبة وتقليدية وفارغة ولا يجد أمامه الا متابعة قصة حب من بعيد، تجعله يشتعل حماسا، حتى أنه يتابع هذه القصة الى نهايتها المأسوية.
لقد بدا هذا الشريط مختلفا، ولقد جاء فى موعده ليعطى تباينا فى مقاربة الواقع الاجتماعى المعقد، مع استمرار فى طرح أسئلة السخرية والغرابة كما هو ظاهر فى العنوان “صعود المطر.. الى أعلى”.
نسيم منتشر:
أما أكثر أفلام المخرج شهرة فهو “نسيم الروح” إنتاج عام 1998 ولقد نال الجائزة الفضية لمهرجان دمشق السينمائى، وقصته تدور ايضا فى المدينة، حيث نجد ذلك الشاب الغريب الأطوار بالمقاييس الاعتيادية، والذى يبلغ به الأمر أن يتنازل عن فتاته من أجل شخص آخر وقرر أن ينتحر من أجلها.
إن روح الإيثار هذه، ربما لا توجد فى المدينة، لكنها استوردت من الريف فى محاولة لدمج عالم القرية مع عالم المدينة.
في عام 2001، عاد المخرج الى الريف مرة أخرى، والى شخصياته البسيطة ولاسيما تلك المستمدة من عالم الاطفال والفتيان، وكان شريط “قمران وزيتونة” الفائز بالجائزة الفضية لمهرجان دمشق السينمائى فى نفس العام، وهو انتاج مشترك مع القطاع الخاص فى أول تجربة للمخرج من نوعها.
وفي عام 2003 قدم المخرج شريطا بعنوان “ما يطلبه المستمعون” يعود فيه الى الستينات ولاسيما تأثير برنامج “ما يطلبه المستمعون” على الوقائع والعلاقات بين الأفراد داخل المجتمع.
وإذا كان الشريط السابق “قمران وزيتونة” يتطرق إلى موتيفات مكررة لدى المخرج مثل الأب العاجز مثلا والأم القوية كما فى ليالى ابن أوى، فإن الفيلم ما قبل الأخير أكثر بساطة، واحيانا يبلغ درجة السطحية مما استوجب المجازفة من قبل المخرج بالتوقف الى سنوات، ثم تقديم فيلم مختلف وهو “خارج التغطية 2007”.
إن القمرين هما طفلان، يعيشان قسوة الحياة فى المدرسة وفى العيش وبالتالى يهربان الى اختهما زيتونة القريبة منهما، الا انهما يعودان الى الأسرة التى تعيش مأساة الحرمان، فى بيئة صعبة وحياة أكثر صعوبة.
مخرج وسيناريو:
إن شريط “ما يطلبه المستمعون” يعود بالمشاهد الى ايام الاستماع الى المذياع، وفى الأغلب هو المذياع الوحيد الموجود ببيت أبي جمال، حيث تذاع الاغنيات التى يطبها الناس وكل واحد يهدى ما يشاء الى من يشاء، وهو ما ينطبق على الشاب “جمال” الذي يسير إلى الحرب ويسمع الأغنية التى تهديها إليه الفتاة عزيزية.
لا شك أن مثل هذه الافلام تطرح الكثير من الاشكاليات، وهى تقوم على قاعدة التكرار والتوالى، وهو أمر يجعل من افلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد تشبه بعضها كثيرا، لأن المخرج يكتب كل سيناريوهات أشرطته، وبالتالى فإن الموضوعات متداخلة مع السيرة الذاتية وتعبر عنها، ولو كانت هذه الافلام بعيدة عن السيرة، ولذلك يطلق النقاد على أشرطة المخرج بأنها من نوعية “سينما المؤلف” وخصوصا وأن تحليلها والتعامل معها يرتبط كثيرا بما يقدمه المخرج من رأي فى الحوارات التى تجرى معها.
أما آخر أشرطة المخرج، فقد نال الجائزة البرونزية في مهرجان دمشق السينمائى الدولى 2007، وهو شريط يقترب من السياسة ولكن فى حدود معينة، كما ان فكرته تعد جديدة بالنسبة للسينما السورية على الأقل.
إن المخرج يحاول أن يعطى الموضوعات التى يختارها بعد ان يخرج عن نطاق الحوادث ومجرياتها، بل يمكن ان تسمح هذه الموضوعات بالتأويل والاستجابة المتعددة من قبل الجمهور، لذلك كان عبد اللطيف عبد الحميد من أكثر المخرجين الذين تعرض لهم النقد السينمائى كثيرا داخل سوريا وخارجها.
إن ما يميز هذا المخرج هو الاخلاصه للسينما وبحثه الدائم من أجل تقديم الجديد، ولذلك فهو من اكثر المخرجين العاملين بمثابرة داخل السينما السورية، رغم قلة الانتاج نسبيا. ولا شك أن الجانب العملى فى شخصيته قد جعله أكثر المخرجين قدرة على التعامل مع الزمن، والوصول الى النتائج المستهدفة بأقرب الطرق، وشريط “خارج التغطية” هو أكبر دليل على ذلك.
الثلاثى التقليدي:
تتركز أحداث هذا الشريط على الفكرة المعتادة والمألوفة “الثلاثي”.. الزوج والزوجة والعشيق ولكن الأمر مختلف نسبيا هذه المرة، فالأصل هو رباعي وليس ثلاثي، ولكن الحركة الفعلية تتوقف على ثلاث شخصيات فقط.
هناك شخصية رئيسية كما في معظم أشرطة عبد اللطيف عبد الحميد، وهذه المرة تتمثل فى “عامر” الذي له أكثر من وجه. انه شخصية متفانية فى اخلاصها لواجبها وبالأخص تجاه عائلة صديقه “زهير” السجين بلا سبب لمدة زادت على عشر سنوات والذي تبذل أسرته عدة مساع لاخراجه من السجن. يساعدها فى الظاهر عامر نفسه لولا أن الأمور تسير بعكس ما يفرضه الواجب.
لقد سارت العلاقة بين عامر وزوجة صديقه الى اتجاه مختلف، ولم تعد مجرد علاقة تفرضها واجبات الصداقة، بل تحولت الى قصة حب، مع احتياج كل منهما الى الآخر.. الزوجة بسبب غياب زوجها لمدة طويلة والفراغ الذى تعيشه، مع ابنتها الصغيرة، وصديق العائلة “عامر” بسبب الحياة الرتيبة التى يعيشها مع زوجته والتى تعنى بالدرجة الأولى مجرد تحقيق المطالب الزوجية واحضار مستلزمات المنزل واحتياجات الاسرة المتعددة. لقد اصابت سهام الرغبة الصورة المثالية فيه.
يسرف الشريط في تصوير الجهد الذى يقوم به عامر من أجل توفير حاجات أسرته واسرة صديقه، فهو يوصل الفتاة الصغيرة ويجمع طوال يومه المال لصرفه على الأسرتين، أنه يعمل رسميا فى محل حلويات، وكذلك سائقا لتأكسى، بالاضافة الى عمل آخر أخذ حيزا واسعا وهو يتمثل فى تعليمه اللغة العربية لأحد اليابانيين فى دروس خاصة.
لحظة ضعف:
هذه المهن جميعا لا نستطيع اعتبارها قد خدمت الشريط، الا من باب اعتبارها جزءا من الجهد الكبير المبذول لأجل توفير الاحتياجات المادية لأسرته وكذلك أسرة صديقه أو أنها مجرد تكبير لصورة عامر من أجل تصغيرها بعد ذلك ان الشخصية التى تبدو نزيهة ومتفانية من أجل الآخرين، تعانى من لحظة ضعف، هى فى جوهرها خيانة، لكن الشريط يقدمها فى شكل مقبول، فهو لا يقسو على شخصياته ويجد العذر لسلوكها.
وهذا الأمر له علاقة بزوجه الصديق وكذلك عامر نفسه الذى يعانى من مشكلات عائلية، جعلها الشريط تستقر عند الزوجة وحدها، باعتبارها طاردة.
والواقع أن الشريط قد أفسح مسارات متعددة وجعل الدراما ممهدة لعلاقة طبيعية بين عامر وزوجة صديقه، فكل ما فى الشريط يدفع الى ذلك، وربما كان المنطلق هو الواجب، لكن النتيجة كانت مختلفة.
كما قلنا فإن الشريط يعتمد على “ثلاثية” مألوفة، غير أن القضية ليس لها علاقة باكتشاف سر العلاقة العاطفية أو الذهاب الى محاولة الانتقام أو الطلاق أو انهيار العائلة، ذلك أن الزوج “زهير” غائب لأسباب سياسية ولم يفعل عامر لصديقه الكثير من أجل اخراجه من السجن، فهو مستفيد من دخوله هذا السجن واستمرار حبسه، أما زوجة عامر فهى تعمل على اخراج زهير لأنها تريد اعادة زوجها الى بيتها وحدها. بعد أن صار بحكم الواجب الاخلاقى صاحب منزلين وأسرتين، ولها شكوك تتفاقم كل يوم.
خروج ودخول: –
ليس هناك رابط مباشر بين خروج زهير وانتهاء علاقة الخيانة التى عرضها الشريط، فهى علاقة يمكن أن تستمر بشكل أو بآخر، لكن الشريط يعتمد على تعرية الوجه الآخر لشخصيته الرئيسية، لذلك نراها تتحرك بسرعة للايقاع بالصديق السجين، وتتصل بالجهات الأمنية للوشابة به، حتى تطول فترة سجنه الى سنوات أكثر، ورغم ام الوشائة قد تمت، غير أنها لم تتحقق أهدافها، بسبب التوصية الرسمية بانهاء مدة الحبس وكذلك بسبب عجز عامر عن حبك أى قصة مقنعة ضد صديقه اللدود، وهو أمر جعله شخصية متراجعة، متصالحة مع نفسه فى النهاية يقبل بالأمر الواقع ويعود حسبما هو ظاهر الى حالة الصداقة السابقة رغم انه من المستحيل العودة اليها.
هناك فى الشريط تفاصيل كثيرة. عبرت عنها مشاهد بناء العلاقة المتدرجة بين زوجة الصديق وعامر، حتى نهايتها جسديا، كما أن هناك مشاهد أخرى مكملة، أغلبها جاء بحكم عمل عامر سائقا لسيارة أجره، تتوفر فيه معانى الاخلاق والتى يجعله ليحمل الزبائن بدون دفع أجرة احيانا انه يقوم بحمل زبون عاجز من مكان الى آخر. كما انه ينقل امرأة مطلقة الى حلب فى وقت لا يسمح بذلك.
وبهذا تكون الشخصية شبه مثالية، إلا من لحظة الضعف الوحيدة التى تتغلب فيها الرغبة على الواجب.
ليل نهار:
احتوى الشريط على فضاء مدينة دمشق ولاسيما فى الليل وظهرت اللقطات الخارجية افضل من اللقطات الداخلية، أما المؤثرات الموسيقية فقد كانت موزعة على أجزاء الشريط ولا تملك وحده موسيقية موحدة. وخصوصا الموسيقى التى لم يقع الاهتمام بها كثيرا ولم تلفت الانتباه، فهى مجرد مختارات بعيدة عن التناسق.
الأمر نفسه ينطبق على عنصر التمثيل والذى كان متوسطا بشكل عام، ولم يبرز الممثل الرئيسي “فايز قزف” في دور عامر والذى كان متسرعا فى الأداء وحركته سريعة ومتوثرة لا تتناسب مع نوعية الشخصية التى يؤديها.
هناك شيء من الكوميديا تسرب إلى الشريط، من خلال ما يقوم به عامر من أعمال، يسجلها على جسمه حتى لا ينساها، وكذلك بعض السخرية التى نجدها احيانا عندما يتم الاعداد لزيارة السجين زهير ولكن فى اللحظات الاخيرة تلغى الزيارة العائلية.
هناك شخصية الياباني الذي يحاول الحديث بالعربية عن طريق دروس مدفوعة يعطيها عامر نفسه، وهذه الشخصية لها جوانب كوميدية مباشرة، وليس لها تأثير فعلى على محيط الشريط وقصته.
وبالطبع لابد أن ينصرف الحديث الى العنوان: خارج التغطية والذى يوحى بتعبيرات تقنية مرتبطة بالعصر، وبالفعل يشكل “الموبايل” عنصرا مهما داخل الشريط، فمعظم الحوارات تتم عن طريق الموبايل، بل إن الحكم على سلوك الأفراد أنفسهم يعتمد على الانصال بواسطة هذا الجهاز، وسوف نجد أن العشيقة لا تتواصل بالموبايل لأن لها بديل واضح وهو العلاقة الفعلية المفعمة بالحياة مع عامر والتى لا تريدها أن تتوقف. أما الزوجة نفسها فهى لا تتواصل الا بهذه الكيفية، أن تكون داخل التغطية وهو أمر قليل الحدوث، ونهاية الفيلم تقودنا الى انعدام التواصل المباشر مع عامر، ليس مع زوجته ولكن مع المرأة الأخرى، حتى لو كانا سويا داخل التغطية.