التصوير في عصره الرقمي
اختفت الأفلام وكثرت الكاميرات
فريق القافلة
بسرعة، مثل لمح البصر أو ومضة الفلاش، انتهى عصر التصوير بالفلم وانتقلنا إلى عصر التصوير الرقمي. وبسرعة مؤثرة في نفوس أصحاب الحنين إلى الأيام الخوالي، اختفت أكوام الأفلام من الدكاكين والبقالات.. حتى أننا لم نعد نجدها اليوم حتى في بعض محلات التصوير الفوتوغرافي التي لا تزال تحتفظ على واجهتها بشعار إحدى الشركات الصانعة للأفلام.
فريق القافلة يتناول هنا التطور الكبير الذي طرأ على التصوير الفوتوغرافي وانتقل به من عالم إلى عالم مختلف تماماً، مستعرضاً بشيء من التفصيل أوجه الاختلاف ما بينهما، خاصة وأن آلة التصوير تعرف منذ سنوات رواجاً لم تعرفه في تاريخها (بعدما أدمجت بأجهزة الهاتف). وأن ملايين الشبان الذين يقتنونها اليوم لم يكونوا يوماً على علاقة بصناعة الصورة في عصرها ما قبل الرقمي.
حتى أشهر قليلة خلت، لم يصدِّق الناس، وخاصة هواة التصوير ومحترفيه على حد سواء، أن ما يحدث في عالم التصوير يحدث فعلاً، وأن الفلم سيختفي من عالم الصورة بهذا الشكل الكاسح، إلا حين أعلنت كبرى الشركات العالمية المنتجة للأفلام الجدول الزمني لإغلاق مصانعها، وتحولها إلى صناعة منتجات تصويرية أخرى.
وكانت هذه الشركة قد بدأت في السنوات الأخيرة، ونتيجة لوعيها بما سيؤول إليه عالم التصوير، بصناعة طابعات رقمية منزلية أو متخصصة والورق اللازم لطباعة الصور، حتى أنها خاضت صناعة آلات تصوير رقمية، وهي التي قلَّما اقتربت سابقاً من صناعة هذه الآلات، إذ إنها كانت تعتمد على سمعة أفلامها ومختبرات تظهيرها لتكون قبلة المصورين في العالم، مهما كان نوع الكاميرات التي يستخدمونها.
فقلَّما شهد تاريخ الصناعة تطويراً لمنتج أدى بمثل هذه السرعة إلى مثل هذا الانتصار للجديد على القديم، واكتساحه حتى القضاء عليه بشكل شبه تام. ولعل أهم ما في التصوير الفوتوغرافي في عصره الرقمي هو انتشار آلته وشيوعها بين أيدي الناس بشكل غير مسبوق. خاصة بعد دمج آلة التصوير بجهاز الهاتف المحمول، فصار كل شخص مصوراً يلتقط من الصور ما يشاء حينما يشاء.
ولكن قبل التوقف أمام التصوير الفوتوغرافي الرقمي بما له وما عليه، فإن إلقاء نظرة على عالم التصوير بالفلم الذي هُزم أمام التصوير الرقمي، يمكنه أن يشكِّل مدخلاً لفهم الأسباب التي زادت من زخم هذا التحول وسرعته، بحيث أن الجيل نفسه الذي استخدم آلات التصوير الخشبية هو نفسه الذي يستخدم الآلات الرقمية اليوم.
زوال عالم من المهارات والمهن
يحدد المؤرخون ظهور التصوير الفوتوغرافي بتلك الصورة التي التقطها جوزف نيسافور تيابس عام 1814م، لمشهد من مدينة باريس. ولكن الصورة التي التقطها آنذاك (وهي أقرب إلى أن تكون شبح صورة) تطلَّبت بضعة عقود من الزمن لكي ينضج الاختراع. وفي سنة 1888م، سوَّقت كوداك آلة تصوير بسيطة الاستخدام، وكانت مكعباً من خشب وجلد، وكان على المصور أن يرسل الكاميرا كلها إلى الشركة لتظهير الصورة.
وراحت صناعة آلات التصوير تتطور، وكلها تقوم أساساً على ضبط وصول صورة المشهد إلى الفلم الذي يحفظها بفعل تفاعل كيميائي ما بين مكوناته والضوء. وعلى مدى قرن ونصف القرن كانت نوعية الآلات والأفلام (وبالتالي الصور) تتحسن باستمرار. ولكن أين كانت ذروة ذلك العالم عشية ظهور التصوير الرقمي؟
محمد ناجي مصور مخضرم يستخدم اليوم الكاميرات الرقمية ويقول إنه بدأ مهنته باستخدام كاميرا خشبية ثقيلة محمولة على ثلاثة قوائم وكان يغطي وجهه بقماش أسود يحجب الضوء القوي ليتمكن من رؤية المشهد المطلوب تصويره من دون إفساد الصورة. ويضيف أن التصوير خارج الأستوديو كان يتطلب عملاً شاقاً. ولكنه كان يتطلب أيضاً الكثير من المهارات والفن. كما أن الصورة كانت تبقى مجرد أمل وخيال في ذهن المصور حتى تحميض الفلم وطباعته لرؤية النتيجة.
أما غسان شبارو الذي تخرج من كلية لندن للطباعة عام 1972م ودرس أيضاً فرز الألوان في معهد بيرا ، فيقول إنه بدأ أيضاً التصوير الفوتوغرافي بكاميرا خشبية. ولتحسين نوعية الصورة بحيث تصبح صالحة للطباعة، كانت هناك محلات متخصصة خارج المطابع حيث تجري التحسينات (رتوش). فكانت الصورة تصلَّح بقلم ذي ريشة دقيقة تشبه رأس قلم الرصاص. أما التلوين ، لأن الاثنين عاصرا أيضاً فن تلوين الصورة يدوياً، فكان يتطلب ذوقاً ومهارة لدى الملون، لاختيار لون الشعر والوجه والعينين والملابس.. حتى أن ساعات من الجهد والتشويق كانت تفصل ما بين التقاط الصورة والحصول عليها مطبوعة.
ويقول ناجي: إن ظهور الفلم الملون والضوء الآلي الذي يرافق التقاط الصورة وفرَّا علينا نحو %95 من وقت تلوين الصور وضبط الضوء. أما شبارو فيرى أن ظهور الفلم الملون والماسح الإلكتروني وتطور الآلات الطابعة شكَّلت مرحلة انتقالية، لأنها كانت من الخيوط الأولى التي ربطت عالم التصوير بالتكنولوجيا المتطورة . وهنا يضيف ناجي: إن ظهور آلات التصوير الرقمية كان صدمة لنا. وتطلب الأمر منا سنتين قبل استخدامها للمرة الأولى .
تطور الرقمي في عقد يفوق
الفلمي في قرن
تأخر الكثير من المحترفين في تبني الكاميرا الرقمية والتصوير الرقمي لسببين. أولهما أن النماذج الأولى من هذه الآلات على حسناتها كانت قليلة الوضوح، خاصة إذا ما تطلَّب الأمر طباعة الصورة بمقاييس كبيرة، كما أن قدراتها (رغم حسناتها الكثيرة)، كانت محدودة. أما السبب الثاني، فكان في نظرة الازدراء التي تطلع بها المحترفون إلى هذه الآلة التي تزعم لنفسها قدرة تتحدى احترافيتهم والدور الذي تلعبه خبراتهم ومواهبهم وأذواقهم الشخصية خلال التصوير وتحميض الفلم، وخاصة ما يتعلق بالتصوير الفني بالأسود والأبيض.
ولسنوات، ظلت مسابقات التصوير الفوتوغرافي ترفض أية مشاركات رقمية لاعتبارات عديدة، منها قدرة المصور الرقمي على التدخل في تعديل الصور من خلال معالجتها بواسطة برامج الكمبيوتر مثل برنامج فوتوشوب و بيكتور بروجكت وغيرهما.. بحيث بات باستطاعة المصور أن يغيِّر في ألوان الصورة ووضوحها، وتحويلها من صورة بالألوان، إلى صورة بالأبيض والأسود، وحذف بعض التفاصيل الظاهرة فيها إن لم تعجبه وغير ذلك الكثير. وما زالت هذه المشكلة قائمة إلى حد بعيد، رغم تطوير برنامج يستطيع أن يكشف الغش الفوتوغرافي ، من خلال رصد شبكات النقاط الرقمية التي تتكون منها الصورة، ليعرف بالتالي ما إذا كان المصور قد أجرى عليها تدخلاً رئيساً.
ولكن، لا تعالي المحترفين ومنظمي مسابقات التصوير الفني ولا العروض الترويجية للأفلام التي صارت توزع مجاناً (فلم مجاني مقابل تظهير أي فلم) استطاع أن يوقف زحف الرقمي. ففي كل شهر على مدى السنوات السبع أو العشر الماضية، كانت المجلات المتخصصة والعلمية عموماً تطالعنا بأخبار طرز جديدة من الآلات الرقمية أكثر تطوراً من النماذج التي ظهرت في الشهر السابق. ووصل مستوى وضوح الصور، وتطور البرامج المدمجة بالآلة إلى مستوى هو أقرب إلى الخيال الذي لم يراود أشد المصورين طموحاً قبل سنوات عشر فقط..
متاعب الفلم إلى غير رجعة
فبموازاة تمسك المصورين المحترفين والفنانين منهم بالفلم لبعض الوقت، وحنينهم إليه اليوم بعدما أصبح من الماضي، يقر الجميع أن انتصار التصوير الرقمي ورواجه على كافة المستويات، يعود أساساً إلى معالجته الجذرية لمتاعب التصوير بالأفلام، وهي كثيرة. فهناك أولاً التكلفة المادية (ثمن الأفلام وكلفة تحميضها وطباعتها). وهذه التكلفة كانت تبقى في بال المصور، فيبقي عدد اللقطات ضمن حدود المعقول. أما اليوم، فبإمكانه أن يلتقط بالآلة الرقمية آلاف الصور من دون أية تكلفة إضافية على ما تكلفة الصورة الواحدة، ويمكنه أن يمحو فوراً كل اللقطات التي لا تعجبه ليحتفظ بالجيد منها.
كان التصوير الفلمي يحرم المصور من رؤية نتيجة عمله فوراً، وكان علية الانتظار إلى ما بعد تحميض الفلم. وإذا كانت اللقطة غير موفقة، فهذا يعني أن عمله ذهب سدى، لأن التصوير بالأفلام، كان فعلاً تصوير الفرصة الواحدة . أما الآلة الرقمية فتظهر النتيجة فوراً، وتتيح للمصور إعادة التقاط الصورة بشكل أفضل إذا شاء ذلك.
وحتى لو افترضنا جدلاً أن المصور على درجة كبيرة من الدراية بمهنته، فإنه يبقى في مواجهة حوادث غير متوقعة تطيح بجهده، منها: انتهاء الفلم في لحظة حرجة، فراغ جعبته من الأفلام، الأخطاء البشرية المتعددة في تركيب الفلم بسرعة بحيث يبقى طرفه الآخر غير عالق بالأسطوانة وتكون كل اللقطات على مافيش ، أو فتح الكاميرا خطأ وفقدان الصور إلى غير رجعة، أو أي حادث غير متوقع في المختبر.
وتؤكد تجارب المحترفين أنهم كلهم اصطدموا أحياناً بعوائق لم يكن بمقدورهم تجاوزها، مثل الحاجة المفاجئة إلى نوعية محددة من الأفلام، إما لجهة حساسيتها للضوء، وإما لجهة كونها ملونة أو بالأسود والأبيض، ولم يكن بإمكانهم الحصول على حاجتهم هذه في الوقت المناسب.
كل هذه الهواجس والعثرات تجاوزتها الكاميرا الرقمية إلى حد كبير. وهي لا تزال في تقدم مضطرد وفائق السرعة، وهذا ليس بمستغرب وسط ما نراه من التقدم قفزاً في دنيا المعدات الإلكترونية.
اختصار مراحل الطباعة
إذا كان ما تقدَّم هو ما يلحظه أي شخص استخدم نمطي التصوير هذين (الفلمي والرقمي)، فثمة تحولات جذرية لا يعرفها غير المتخصصين، وطرأت على بعض المهن التي تحتاج إلى الصور الفوتوغرافية، ومنها بطبيعة الحال دور نشر الكتب المصورة والمجلات والمنشورات على اختلافها.
ومن باب إشباع الفضول، أو لفت النظر، نشير إلى أن الانتقال من التصوير بالفلم إلى التصوير الرقمي أدى، من جملة ما أدى إليه، إلى إنهاء مهنة فنية وتقنية متطورة رافقت صناعة الطباعة الملونة منذ ظهورها قبل حوالي قرن من الزمن، ألا وهي مهنة فرز الألوان ومعالجتها.
فقد كانت مهمة الدور المتخصصة بهذه العملية معالجة الصورة الملونة وتهيئتها كي تصبح طباعتها ممكنة في كتاب أو مجلة أو ملصق. ومن دون الخوض في تفاصيل هذه الحِرفة الحساسة، يمكن إيجاز ما كان مركز فرز الألوان يقوم به بالقول إنه كان يأخذ الصورة الملونة، ويحولها من صورة ذات ألوان متصلة، إلى صورة منقطة، ثم يوزع نقاطها على أربعة أفلام، يمثل كل واحد منها أحد الألوان الرئيسة الأربعة: الأحمر، الأصفر، الأزرق والأسود. ومن دون هذه العملية، كان من المستحيل طباعة أية صورة ملونة في كتاب أو مجلة.
والواقـــــــــع أن التصــــــوير الفوتوغرافي الملون نفسه، كان يقوم في بداياته على الأساس نفسه، ولكن بالاتجاه المعاكس. إذ كان يقضي بأن يثبِّت المصور الكاميرا والمشهد أمامه، ليلتقط أربع لقطات متتابعة، مستخدماً في كل لقطة فلتر (مصفاة لونية) لواحد من الألوان الرئيسة الأربعة.
ويمكن للقارئ الذي يرغب في أن يشاهد نموذجاً واضحاً، أن يأخذ عدسة مكبرة ويتطلع من خلالها إلى صورة مطبوعة في مجلة، ليرى أنها في الحقيقة مكونة من نقاط صغيرة ملونة ومتداخلة. ولكنه لن يرى هذه النقاط لو تطلع إلى صورة ملونة كان قد التقطها بفلم، إذ سيطالع ألواناً متصلة لا نقاط صغيرة فيها.
إن ما أنجزته الكاميرا الرقمية هو نصف ما كان يقوم به مركز فرز الألوان. فحين تلتقط صورة بأية كاميرا رقمية كبيرة كانت أم صغيرة، فالصورة تكون منقطة. وتسمى هذه النقاط بكسلز . ويرتبط وضوح الصورة وقابليتها للتكبير بكثافة عدد البكسلز في المساحة المحددة. ولهذا راحت الشركات المنتجة لآلات التصوير الرقمي تسعى إلى زيادة عدد هذه النقاط حتى وصلت إلى كثافة في بعض الآلات الاحترافية إلى إمكانية تكبير الصورة حتى مقاييس تكيَّل بالأمتار من دون أن تفقد وضوحها.
أما مراكز فرز الألوان فإنها تستمر اليوم في تأدية المرحلة الأخيرة من مهامها التي كانت تقوم بها قبل ابتكار الكاميرا الرقمية. ألا وهي معادلة ألوان الصور وتعديل إضاءتها وتحسين وضوحها. وكان لهذا العملولا يزال دور كبير في تحسين نوعية المطبوعات المصورة، لأنه يقوم على حرفية عالية وذوق مرهف ونظر حساس، ويلعب دوراً مهماً للغاية في جعل الصورة الملونة (وحتى تلك التي هي بالأبيض والأسود) في الكتب والمجلات على مثل هذه الدرجة من الجودة والجمال.
ولكن لا يجب على العاملين في مراكز فرز الألوان الاطمئنان كثيراً إلى بقاء نصف المهمة التي يؤدونها اليوم إلى الأبد لأن برامج تعديل الصور وتحسينها تتطور من يوم إلى يوم، فإضافة إلى برنامج فوتوشوب المعروف، صارت آلات التصوير الرقمي تأتي مصحوبة ببرامج خاصة يمكن خلال إنزالها على الكمبيوتر معالجة الصور الملتقطة بالآلة نفسها، وصولاً إلى جعل صورة التقطت ليلاً، تبدو وكأنها التقطت نهاراً.. ناهيك عن برامج التحسين والتعديل المدمجة بالآلات المتطورة.
والمصور الجوال انقرض فجأة
طوال القرن العشرين، وبسبب تكلفة اقتناء آلة تصوير وممارسة هذه الهواية، كان هناك مصورون محترفون يحملون آلاتهم ويتنقلون بها ما بين الأماكن السياحية لالتقاط الصور التذكارية لسياح لا يحملون آلات تصوير، والقرى النائية لالتقاط الصور التذكارية لأهاليها في مناسبات محددة مثل الأعياد والأعراس وما شابه.
ولكن الانتشار الهائل لآلات التصوير الرقمي، وخاصة تلك المدمجة بأجهزة الهاتف المحمول، أدى إلى الاستغناء المفاجئ عن المصور الجوال، واختفائه بسرعة حتى من الأماكن السياحية، طالما أن السياح صاروا يحملون عَرَضاً آلة تصوير (من خلال هواتفهم) تغنيهم عن معاودة الاتصال بالمصور بعد وقت للحصول على الصور بعد تحميضها.
وعلى غرار المصور الجوال الذي نعرفه جيداً، انقرضت مهن وأعمال كثيرة كانت قائمة بعيداً عن بصرنا في مصانع الأفلام ومختبرات التحميض. كما طرأ تحول كبير على تجارة آلات التصوير بحد ذاتها إذ ان عدد قطع الغيار والاكسسوارات التي كانت تملأ الرفوف في هذه المحلات، بات يتضاءل يوماً بعد يوم لأن البرامج الكمبيوترية صارت تؤدي الأدوار التي كانت هذه الاكسسوارات تؤديها.
الرمق الأخير في حياة الفلم
حتى وقت قصير جداً مضى، كان أنصار التصوير التقليدي بالفلم يرددون أن نوعية التصوير الرقمي لم تبلغ في جودتها النوعية العالية التي يمكن أن توفرها آلات تصوير احترافية مثل هاسلبلاد و لايكا لجهة تعاملها مع الألوان غير الطبيعية. وبسرعة تلقَّى هؤلاء رداً من هاتين الشركتين بتبنيهما التقنية الرقمية في تقديم آلات تصوير لا تتفوق فقط على الآلات التجارية من الماركات الأخرى، بل على الطرز التي أنتجتها قديماً للتصوير بواسطة الأفلام. بحيث لم يعد أمام أنصار التصوير الفلمي اليوم غير الزاوية الضيقة المتمثلة في التعليم والتدريب. إذ ان كل معاهد تعليم التصوير الفوتوغرافي، لا تزال تتبع مناهج تقوم أساساً على التصوير بالأفلام (وربما حتى مستقبل قريب ومحدود)، وحجتها في ذلك أن على المصور المحترف أن يفهم أدق التفاصيل التي تدخل في صناعة صورة جيدة ومميزة، وأن يتعلم قياس المسافة ودورها، وقوة الضوء ونوعه وتأطير المشهد المطلوب وغير ذلك. ومثل هذه الحجج تبدو منطقية ولها ما يبررها.. ولو إلى حين!
مخزنك كمبيوترك
وقلب التصوير الرقمي طريقة حفظ الصور رأساً على عقب، بعدما أصبح الكمبيوتر هو مخزنها. ومنه يمكن نقلها إلى قرص مدمج، أو إلى شريحة ذاكرة خارجية (U.S.B)، أو إلى البريد الإلكتروني كوسيط لإرسالها إلى الجهة أو الجهات التي نريد إرسال هذه الصورة إليها. فالتقنية جعلت توزيع ملايين النسخ من الصورة الواحدة على عدد غير محدود من الناس، أمراً يسيراً أمام كل الناس. ولا يتهدد هذا المخزن الجديد وقدراته غير الحوادث النادرة مثل إصابة ذاكرة الجهاز بعطل يستعصي إصلاحه، تضيع معه كل ما تحمله هذه الذاكرة من صور فوتوغرافية وغيرها من المعلومات المحفوظة فيه.
ومن جملة ما أدى إليه هذا المخزن الجديد، القضاء شبه المبرم على ألبوم الصور الورقية الجميل، وعلى الاستمتاع التقليدي بتصفحه، واختفاء علب الكرتون الحافظة للصور من البيوت، وتوقف رفوف قاعات الأرشيف في الصحف والمجلات والمؤسسات عن التمدد، بعدما أصبح قرص صلب بحجم راحة اليد قادراً على تخزين صور كانت في حلتها الورقية تحتاج إلى قاعات كبيرة لتخزينها.
ولكن.. هل كل ما في الرقمي أفضل؟
لو تطلعنا اليوم إلى تعامل الناس في حياتهم اليومية مع الصور التي يلتقطونها إما بواسطة آلات التصوير أو بواسطة هواتفهم الجوالة، للاحظنا فرقاً مهماً مع ما كان يحدث بالأمس.
فاستعراض الصور بات يتم اليوم على شاشة الكمبيوتر، وليس من خلال تداول الصور الورقية كما كان الحال في الماضي. فإذا كنت في زيارة صديق في بيته أو مكتبه وأراد أن يريك صور التقطها في رحلة أو صورة ابنه مثلاً، لدعاك إلى الانتقال حيث الكمبيوتر. وإن أراد إرسال صورة إلى ذويه أو أصدقائه، لفعل ذلك بواسطة البريد الإلكتروني. وهذا يعني أن على هؤلاء أن يشغلوا أجهزة الكمبيوتر عندهم ليتمكنوا من مشاهدتها.
من جهة أخرى، أدى دمج آلات التصوير في الهواتف المحمولة إلى تطبيق فعلي للشعار القائل كاميرا جاهزة لكل من ليس لديه كاميرا . الأمر الذي حوَّل كل الناس إلى مصورين. ولكن أمام هذه الطفرة العالمية والشاملة يمكننا أن نتساءل كم من ملايين الصور الملتقطة ينتقل فعلاً إلى الكمبيوتر؟ وكم منها يطبع لاحقاً على الورق ليصبح متداولاً بسهولة بين الأيدي؟
ليس من السهل استعراض الصور على شاشة الكمبيوتر أينما شاء صاحبها. أولاً لأن هذا الكمبيوتر يجب أن يكون متوافراً، وأن يكون صاحبه بمزاج مستعد لتشغيله. إضافة إلى أن الصور المطبوعة والمنظمة في ألبوم هي أسهل بكثير على التصفح. كما أن إمساك صورة باليد والتطلع إليها يختلف تماماً عن رؤيتها مضاءة على شاشة.
من جهة أخرى، فإن التقاط الصور الذي بات سهلاً جداً بالآلات الرقمية، يختلف عن تخزينها وطباعتها. وربما كان التخزين يتطلب خبرة في الحفظ و الأرشفة ، وجهداً أكبر من الجهد المطلوب لإرسال فلم إلى مختبر التظهير. فالفلم الذي انتهى صاحبه من تصويره هو جسم صلب موجود وملموس على عكس آلاف الصور المخزنة في ذاكرة الكاميرا أو الكمبيوتر نفسه حيث هي حقيقة افتراضية، ربما نراها يوماً، وربما تتوه في غياهب الخزائن الإلكترونية، حيث تتراكم هذه الصور إلى ما لا نهاية، من دون أن تفيض بالضرورة.
معركة أخرى حسمت بين جديد وقديم
لا شك في أن المعركة بين التصوير بالفلم والتصوير الرقمي قد حسمت بشكل نهائي لصالح الأخير، في حين أن معارك أخرى ما زالت قائمة ما بين بعض الابتكارات التقليدية وأخرى تم تطويرها اعتماداً على التكنولوجيا الرقمية.
ولهذا الحسم حسنات كثيرة. ولكن فيه بعض الخسارة التي لا تعوَّض، لأمور قد لا يعرف قيمتها إلا من له علاقة حميمة بفن التصوير الفوتوغرافي، هذا الفن العريق والمعاصر في آنٍ واحد، لأنه لم يكن موجوداً قبل اختراع آلة التصوير التقليدية.
ليس الموضوع مجرد نوستالجيا ، أي حنين إلى جمال الأشياء القديمة والأيام الخوالي مثل المقارنة بين السيارة وعربة الخيل، أو الهاتف الثابت والهاتف المحمول.. فهناك أشياء نفتقدها من دون أن نستطيع أن نحصيها أو أن نتعرف إليها بدقة، أو حتى أن نعرف ما إذا كان لهذه الخسارة أي أثر مهم في تقدم المجتمع والثقافة. فمن المعروف أن فن التصوير الفوتوغرافي هو فرعان: التصوير الملون والتصوير بالأسود والأبيض. ولكل منهما جمالياته وفنه. ورغم انحسار الأبيض والأسود لحوالي عقدين من الزمن، إلا أنه عاد بقوة كالشاهد الأهم على فن التصوير الفوتوغرافي، لا يعطي جماله ووقعه لأي فن آخر. وطبعاً، للتصوير الملون لمعانه وجاذبيته هو الآخر. لكن هل يا ترى سيعود التصوير بالفلم يوماً كفرع ثالث، مدعياً الاحتفاظ بجمالية خاصة لا يستطيع التصوير الرقمي تحصيلها ضمن قدراته؟
وقد يقول حاملو راية الفلم إن المصور حين يلتقط صورة واحدة، يعرف أنه يصعب عليه التقاط الثانية مباشرة بعدها، كما أنه لا يستطيع التقاط عشرين صورة دفعة واحدة كما هو الحال في الكاميرا الرقمية. وبالتالي تكون نفسه مركزة على مهمته بقوة، تجعل من اختيار لحظة الضغط على زر التقاط الصورة أشد تجاوباً مع التركيز العاطفي والإحساس باللحظة والمشهد، مما هو عليه الحال مع ضرتها الجديدة. من يدري؟ ولكن، ولو حصل الأمر وعاد الفلم إلى آلة التصوير بعد غياب أو شبه غياب، فلن تكون له إلا مساحة صغيرة في زاوية الملعب.
ضحية تقنية أم اقتصادية؟
في 18 ديسمبر من العام الماضي 2008م، أعلنت شركة بولارويد إفلاسها رسمياً في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ظهر الخبر في وسائل الإعلام في خضم الأخبار عن عمليات الإفلاس والخسائر التي بدأت تعصف بالاقتصاد العالمي منذ نهاية صيف ذلك العام. الأمر الذي جعل الكثيرين يردون السبب في إفلاس بولارويد إلى المناخ الاقتصادي العام دون غيره. ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك.
فقد بنت هذه الشركة مجدها على ابتكار التصوير بالفلم الفوري، أي قدرة آلاتها وأفلامها على طباعة الصورة تلقائياً بعد التقاطها من دون الحاجة إلى المختبرات، وذلك منذ العام 1937م، وطوال السنوات اللاحقة من القرن العشرين. فعلى مدى سبعة عقود تقريباً استخدم هذه الآلات المميزة الهواة في منازلهم والمصورون الجوالون في الأماكن السياحية، مثلهم مثل المحترفين الذين كانوا يلتقطون صوراً بآلات بولارويد للمشاهد الثابتة التي يريدون تصويرها لدراسة الإطار وتركيب المشهد وتعديله قبل التقاط الصور النهائية بأفلام شديدة الوضوح وجيدة النوعية. واعتبرت هذه التقنية ملكية خاصة بهذه الشركة دون غيرها، حتى أنها استطاعت من خلال معركة قضائية في 18 يناير 1986م إجبار شركة كوداك على سحب آلة تصوير مماثلة كانت قد طرحتها في الأسواق.
وعلى الرغم من أن بولارويد كانت من الرواد في تطوير الكاميرا الرقمية، إلا أنها فشلت في انتزاع حصتها من السوق، وبقي اعتمادها على تسويق آلتها التقليدية للتصوير الفوتوغرافي بالفلم. الأمر الذي أدى بها إلى إعلان إفلاسها للمرة الأولى عام 2001م، وبيع أصولها لـ بنك وان .
وأقرت هذه الشركة بنوعية التحولات التي طرأت على عالم التصوير. فأعلنت آنذاك عزمها على التوقف عن إنتاج آلات التصوير الفوري في عام 2007م، والأفلام في عام 2009م. ولكن يبدو أن تحولات السوق كانت أعنف من أن تمهل الشركة ما يكفي لدخول السوق الرقمي، فأعلنت إفلاسها الأخيرفي نهاية العام الماضي.
التصوير الرقمي
من المهد إلى أيدي الجميع
ظهرت أول كاميرا رقمية في السوق عام 1986م، وكانت دقة التسجيل الرقمي 1.4 Mega pixel، أي مليون وأربع مئة ألف نقطة في الصورة. وفي العام 1991م أنتجت شركة كوداك بالاشتراك مع شركة نيكون كاميرا احترافية متخصصة للمصورين الصحافيين.
ومن ينظر إلى عالم التصوير الفوتوغرافي في أيامنا هذه يكاد لا يصدق سرعة التطور والتغير التكنولوجي الذي لحق بهذا الفن. كذلك قد لا يصدق المتابعون لهذا التطور السريع أن إنتاجاً جديداً بات يظهر كل بضعة أشهر، في هذا المضمار. ولأن هذا التحول أُلحق بالكمبيوتر الذي صار متداولاً بين عامة الناس، ولأن الهواتف المحمولة ربطت بعالم التصوير، فباتت الصورة جزءاً من وسائل الاتصال، أصبحت الصورة كلاً متكاملاً ووسيلة للاتصال بين البشر، وأضحى حضورها فاعلاً وأساسياً في حياتنا اليومية، يتداولها عامة الناس والمحترفون على السواء.
في الماضي القريب، أي منذ سنوات عشر، لم يكن التصوير الفوتوغرافي متداولاً بين عامة الناس كما هو اليوم، ولم يكن يحمل الكاميرا إلا المحترفون أو الذين يهتمون بمتابعة فن التصوير الفوتوغرافي أو يمارسون هذه المهنة من مصوري الصحف أو الأستديوهات. بينما نرى اليوم أن الكاميرا الرقمية أصبحت موجودة في كل الأوقات ومع عامة الناس، حتى أصبح كل حامل للجوال مصوراً.
وتتجلى قيمة التصوير الرقمي ودوره، في تلبية حاجة الصحافة إلى توفير الصور في الوقت المناسب لإصدار الصحيفة، أي يمكن تلقي الصورة ونشرها في الصحف، في الربع الساعة الأخير قبل الطباعة، وهنا دور التصوير الرقمي. كذلك تضمن الصورة الرقمية حضورها على صفحات الأخبار الإلكترونية، أي المواقع على الشبكة الدولية. وتتفوق الصورة في التواصل ونقل الأخبار والمعلومات، بسبب ضرورة وصول الصور الأولى عن وقوع الأحداث العالمية، والكوارث الطبيعية والهجمات، التي التقطتها عدسات المصورين محترفين وهواة. فباتت هذه الصور مصدراً أول للأخبار في العالم، بصرف النظر عمّن التقطها، هاوياً كان أم محترفاً، صادف وجوده في قلب الحدث.
وليس مبالغة القول اليوم، إن الصورة صارت اللغة الأسهل والأسرع في العالم، التي لا تحتاج إلى ترجمة. إنها صلة وصل مباشرة بين الشعوب كلها. كذلك تعدّ الصورة اللغة المشتركة لكل أنواع الصحافة المكتوبة والمرئية، وكذلك في الصحافة الإلكترونية والمدوّنات.
ومن حسنات التصوير الرقمي أنه يسمح للمصور، الذي يلتقط صوراً لحدث ما، بمراجعة ما التقطته عدسته ومدى نجاحه بالتقاط الصورة أو المشهد الذي يطمح إليه. وبذلك، تسنح له فرصة تصحيح الخطأ إذا وُجد، من حيث نقاء الصورة وسرعة الضوء والزاوية التي اعتمدت لأخذ الصورة. فيتيح هذا إنتاج المزيد من اللقطات الجيدة نوعاً، بصرف النظر عن موضوع الصورة.
كذلك من حسنات التصوير الرقمي أنه تفادى استعمال الأفلام (النيغاتيف Negative) التي كانت تتعرض للخدش والتلف والاتساخ. أما سيئات التصوير الرقمي ففي مقدمها طفرة شيوع آلات التصوير حتى في الهواتف النقالة، حتى ظهر أناس يحسبون أنفسهم مصورين، على حساب جودة الصورة من الناحيتين التقنية والجمالية، واختيار الإطار والزوايا والأبعاد المختلفة في صورة متكاملة.
وتبقى الصورة الصدى المدوي في الصحافة المكتوبة والمرئية. فنحن نعيش عالماً كله صور، ومهما كثر عدد المصورين، فستبقى الصورة الجميلة فاعلة مؤثرة في الرأي العام، تاركة أثراًلا يمحى من ذاكرة المجتمع.
جمال السعيدي
نقيب المصورين في لبنان