مشاريع كتابة صحفية 

محمد الحمامصي

علاقات عاطفية مدمرة  الرواية التي كانت الأولى في مسيرة كاتبتها، قام بترجمتها عبدالرحيم يوسف وصدرت في القاهرة لم تكن امرأة سمينة ترتدي جوارب بُنية سميكة هي من تمثل خطرا. بل كان أبي

ريتشيل تريزايس تستكشف المحظور والممنوع في أول رواياتها
رواية الكاتبة الويلزية “داخل وخارج حوض السمكة الذهبية” تغوص في عمق العلاقة الأسرية وانعكاس توتراتها انتهاء بالانفصال على الأبناء.
الأحد 2021/05/23

تغوص هذه الرواية “داخل وخارج حوض السمكة الذهبية” للكاتبة الويلزية ريتشيل تريزايس في عمق العلاقة الأسرية وانعكاس توتراتها انتهاء بالانفصال على الأبناء، حيث تتبع قصة طفلة تحاول استكشاف عوالم طفولتها مع أم مدمنة وأب متعسف وغائب وزوج أم يخضعها لاعتداءات جنسية متكررة، ومع دخولها لمرحلة الصبا والشباب تنغمس في مغامرات جريئة وعلاقات عاطفية مدمرة وبحث مستمر عن خلاصها سواء في المخدرات والشراب أو في العمل على مشاريع الكتابة الصحفية حول الموسيقى تارة أو الدراسة تارة أخرى. 
الرواية التي كانت الأولى في مسيرة كاتبتها، صدرت ترجمتها أخيرا عن دار صفصافة، قام مترجمها الكاتب عبدالرحيم يوسف بإجراء حوار مع المؤلفة نشرته جريدة أخبار الأدب قبيل صدرورها، قالت فيه: “عندما كنت أكتب هذا الكتاب كفتاة نضجت قبل الأوان في السادسة عشر من عمرها توقعت أن يحقق نجاحا لا بأس به، لكن عندما جاء وقت نشره كنت طالبة جامعية في العشرين من العمر وكنت قد نضجت إلى حد كبير حتى أن الجائزة التي فازت بها الرواية كانت مفاجأة مربكة. وقد أعيد طبعها مؤخرا كعمل كلاسيكي ويلزي وهو ما كان مفاجأة مربكة ربما على نحو أكبر. ورغم أن هذه الرواية كانت ناجحة جدا، إلا أنها كانت سيرة ذاتية ذات قناع شفيف، وبطريقة ما انتابني شعور أن الناس يعتقدون أني لا أملك القدرة على كتابة عمل روائي خيالي حقيقي، وأن مسيرتي في الكتابة ستبدأ وستنتهي بقصة حياتي تلك. هذه الفكرة هي التي حفزتني على المضي لإثبات أن بمقدوري كتابة رواية خيالية”.
كما ترجم عبدالرحيم يوسف مقدمة الكاتبة والصحفية كارولين هيت للرواية وهي مقدمة كاشفة عن الكثير من التفاصيل الخاصة بالأرضية التي نبتت عليها أحداث الرواية. تقول “قبل ريتشيل تريزايس كان هناك شيئان لم أعرفهما قط في وادينا. الأول: صوت أدبي أنثوي من رونذا. والثاني كاتب يجرؤ على كشف الظلام والاختلال واليأس الذين يمكن أن يوجدوا أسفل الكليشيهات الدافئة للحياة المجتمعية التي مازلنا نتشبث بها. كان هذا استيعابا مزعجا لكنه ضروري تماما. هكذا كنت، فتاة من الوادي منفية عن اقتناع في كارديف، أتفكر في رونذا من بعيد. فخورة بماضيها. وغير مستعدة للاعتراف ببعض الحقائق الأصعب الخاصة بحاضرها. كانت رونذا خاصتي منقوعة في نوستالجيا التاريخ العائلي. ليس بمعنى أن هذه الحكايات كانت لطيفة ومريحة، بالطبع. 

الرواية تصور بشجاعة ودون أن يطرف لها جفن فتاة صغيرة تشب في عائلة يمزقها العنف الأسري والاعتماد على الكحول والمخدرات والإساءة للأطفال

جدَّاي عاملا المناجم اللذان لم أعرفهما قط، مات كلاهما في الخمسينيات من عمريهما ـ أحدهما من الغبار كما زُعم، والآخر مشلولا في حادثة من حوادث المناجم. وهناك الجدة التي رأت أربعة من أطفالها الاثني عشر يموتون قبل عيد ميلادهم السادس والتي ضاعت حياتها في قسوة وشقاء الكدح المنزلي. لكن سرديتنا عن رونذا كانت انتقائية. وكانت مشيدة على النظر إلى الوراء نحو نبل الرجال والنساء الذين تحملوا تلك المشاق ورأوا في التعليم منفذا للهروب وفي القرابة الاجتماعية استراتيجية للبقاء.
وتوضح كارولين “عندما كنت أشب عن الطوق في قرية لوينبيا في سبعينيات القرن العشرين، كان هناك كتاب على رف والديّ يستكشف قيم هذه الوديان وقد شكَّل منظور مرآتي الخلفية. كان اسمه “رونذا الماضي والحاضر”، وضم هذا المجلد الكبير صورة مثيرة للمشاعر لعامل مناجم في الثانية عشر من عمره تغطت سترته بالغبار، كما احتوى على اثني عشر مقالا وخطاب واحد إلى وزير الدولة الويلزي وقتها. كانت المقالات كلها مكتوبة بواسطة رجال، وقد خرجت من سلسلة محاضرات أُلقيت في أوائل سبعينيات القرن العشرين في مدرسة تروركي الشاملة الجديدة – حيث ستكون ريتشيل تلميذة بعدها بعقدين. ورغم أن العنوان كان “رونذا الماضي والحاضر”، إلا أن التقسيم لم يكن متساويا. هيمن التاريخ على الكتاب أكثر من الأحوال الجارية. وكما ذكرت المقدمة، حاولت المحاضرات القبض على تفاصيل “الخبرة الرونذية، المرارة الطويلة للكساد، الصراع بين العامل والرأسمالي، مكان الكنيسة وغناء الكورال، صدام السياسة، القتال العنيد لتوفير المدارس الثانوية، تأثير مؤسسات العمال، حس الدعابة والكبرياء والحنان لدى الناس العاديين.”
الفصلان الأخيران فقط هما اللذان تعاملا مع تحديات الحياة ما بعد الصناعية في الوادي. ورغم أن المقال المعنون بـ “تخطيط مستقبل من أجل أهل رونذا” أوجز بعض الإحصاءات القاسية عن البطالة والحرمان وأزمة إسكان متزايدة، إلا أنه كان مازال هناك تردد في تفصيل المشكلات الاجتماعية الحتمية التي سببتها هذه العوامل. كانت حساسية المؤلف في وجه النقد الخارجي واضحة: “تميل البرامج التليفزيونية حول رونذا إلى التأكيد المفرط على طبيعة المجتمع المحروم ـ فيعرضون مجاري بها سيارات قديمة بدلا من تلك التي لا توجد بها هذه الأشياء. ويعرضون الأسوأ من البيوت القديمة بدلا من الأفضل. ويؤكدون على الأسوأ من الحياة المجتمعية بدلا من الأفضل.” لكن الجملة الأخيرة من الكتاب كانت مدمرة في يأسها: “الوديان وطريقتها في الحياة، بإحساسها المجتمعي، بتاريخها القصير لكن الإنساني جدا، هي جزء أساسي من شخصية وتقاليد ويلز. الوديان تموت. ويلز لن تكون هي نفسها بدونها.”
وتضيف “في 1978، بعد ثلاث سنوات من كتابة هذه الكلمات، ولدت ريتشيل تريزايس في رونذا هذه المأزومة والمتغيرة. وإذا كان عائد ذلك الكتاب على رف والديّ هو صرخة لطلب العون، فإن الرواية شبه السيرة الذاتية التي صاغتها ريتشيل من الخبرات البائسة لطفولتها وصباها في الوديان هي صرخة غضب”. 
وتؤكد كارولين أن الرواية تصور بشجاعة ودون أن يطرف لها جفن فتاة صغيرة تشب في عائلة يمزقها العنف الأسري والاعتماد على الكحول والمخدرات والإساءة للأطفال. يتتبع صوت الراوية بضمير المتكلم قصة ريبيكا تريجيانّي وهي تحاول استكشاف الطفولة والصبا مع أم مدمنة على الكحول وأب متعسف غائب وزوج أم يخضعها لاعتداءات جنسية متكررة. هذه الرواية الفطرية والمنطلقة من العاطفة الخام والوحشية، تتجاوز مونولوجها الداخلي المعقد لشخصيتها الرئيسية كي تتفحص الصعوبات الموجودة أمام شخصية أخرى ـ رونذا نفسها. لا نرى كثيرا من ندوب الانحدار الصناعي بقدر ما نرى الجراح المفتوحة المبتلى بها هؤلاء الذين يصارعون المشكلات الاجتماعية – الاقتصادية للتسعينيات من القرن العشرين. ربما تكون حركة “كول سيمرو” موجودة في كارديف، بيد أنه لا يوجد أثر لفجر واثق بعد ليل الانحطاط في الطرف الآخر من خط الوادي. لكن مثل ذلك الكاتب العظيم الآخر ابن رونذا: جوين توماس، مازال بمقدور ريتشيل أن تنتزع الضحك من قلب الظلام. يغدو استكشافها لموضوعات المحظور والممنوع أقوى من خلال خفة الدم الجافة واللاذعة القادمة من الوديان والمتخللة لهذا الاستشكاف. ولا نعدم حسا بالحنان والعاطفة أيضا. لكن الغالب هو الصدق والشجاعة. ها هو صوت شابة يحكي قصة ربما يفضل الكثيرون إبقاءها مسكوتا عنها لأنها ليست حياة الوديان كما نود أن نراها. 

رواية

الكاتبة الويلزية ريتشيل تريزايس

وتتابع: إن الرواية لا تزيح فقط نظاراتنا الوردية التي ننظر بها إلى رونذا، بل تنتزعها وتحطمها تحت الأقدام. وبفعلها هذا تقدم درسا لبقية ويلز. كم نسعى للاحتفال بنجاحاتنا بوطنية عمياء بدلا من تفحص حالات فشلنا بتحليل ناضج ومدروس؟ هؤلاء الذين لا يستطيعون التعامل مع رونذا الخاصة بريتشيل لا ينبغي أن تعميهم ببساطة صدمة القيم في (داخل وخارج حوض السمكة الذهبية). فهي أكثر امتلاء بدرجات من الاختلاف والفروق عن ذلك. لأنها، في النهاية، قصة نجاة تعتمد على المرونة والتحدي اللذين ميزا رونذا في الماضي والحاضر. 
لعلي أضفيت سمة رومانسية على قيم الوديان الخاصة بجيل أجدادي، لكن لا يوجد شيء مبتذل أو كليشيهي فيما يتعلق بقوة شخصية الإناث التي تجلت أمامي وتم تمريرها بأمل كبير – قوة مازلت أراها كسمة خاصة برونذا. وفي هذه الرواية، بينما تحاول ريبيكا التغلب على آثار صدمات نشأتها، تثبت القوة الأنثوية محوريتها. نرى الجدة المريضة بمرض عضال – امرأة وديان تقليدية – تمرر قوتها “كهدية مغلفة” لحفيدتها. تلك هي اللحظة التي تلتقي فيها رونذا الماضي برونذا الحاضر. وكما يثبت سرد ريتشيل تريزايس الرائد، نحن بحاجة لتقدير كلتيهما إذا كان لنا أن نفهم رونذا المستقبل.
يذكر أن ريتشيل ترايزيس كاتبة من ويلز بالمملكة المتحدة ولدت عام 1978، وفازت روايتها الأولى “داخل وخارج حوض السمكة الذهبية” بإحدى جوائز أورانج فيوتشرز.. وفازت مجموعتها القصصية الأولى “تفاحات طازجة” بأول جائزة من جوائز ديلان توماس الدولية. أما مجموعتها الثانية “كوزميك لاتيه” ففازت بجائزة إيدج هيل الخاصة بالقراء. عُرضت مسرحيتها الأولى “تونيبانديمونيوم” في مسرح ويلز القومي عام 2013 وفازت بجائزة نقاد المسرح في ويلز لأفضل إنتاج. أما مسرحيتها الأخيرة “أصابع قطنية” فقد تم اختيارها في مهرجان إدنبره فرينج 2019 كواحدة من أفضل العروض في المهرجان وحصلت على جائزة سمرهول لاستروم.  
نموذج من الرواية
كانت حجرة نوم أمي مضاءة دائما على نحو مبهج بمصباح ساطع كبير، له ظلة ملمومة بشكل جميل ومشغولة بالدانتيلا. صناعة منزلية، مثلها مثل أغلب مفروشات البيت. وكان مُشغّل أسطواناتها البلاستيكي الرمادي الغليظ يكيف الهواء بأصوات الأسطوانات الفونوغرافية لتوم جونز أو دوللي بارتون. كنا نجلس معا أمام مرآتها الطويلة ونغني أغنيات السعادة التي سمعناها من قبل مرات كثيرة. في ذلك الوقت كان غناء دوللي بارتون عن البغاء ودندنة كيني روجرز عن ثمة زواج محطم يبدو طبيعيا تماما، أغان يسعد المرء بها وينضم إلى الآخرين في غنائها. كنت أراقب أمي بإعجاب وهي ترتدي فساتينها الحريرية الجميلة تقريبا كجمالها، وهي تلون جفون عينيها بمستحضر تجميلي براق وتكتسب طولا إضافيا بحذاء عالي الكعب بطول ست بوصات. كان الوقت خريفا وكنت قد كبرت عاما عندما لفت شعرها حول بعض البكرات الوردية الزاعقة. سمعنا سبابا غير واضح يغدو مسموعا في الدور الأرضي.
ارتفع صوت أبي، عميقا كما كان، وهو يطوي معاطف فراء الأرانب البيضاء والسمراء التي كان قد اشتراها من أجل أمي طوال السبعة عشر عاما الماضية ويدفع بها في غلظة إلى الموقد ماركة (باركر). كان يطعن المعاطف، واحدا واحدا، بقضيب تذكية النار. كان يخطئ التصويب وكنت أقشعر في كل مرة يحتك فيها القضيب بواجهة الموقد المعدنية. ملأتني هذه الجلبة (كنت قد أكملت عامي الرابع للتوّ) بكل الخوف لمرأى معلمة تكشط بأظافرها الهائلة سطح سبورة نظيفة. كانت هذه الجلبة أعلى صوتا؛ ولم أكن محاطة بالدكك وأطفال المدرسة؛ كان هذا يحدث في بيتي ولم تكن امرأة سمينة ترتدي جوارب بُنية سميكة هي من تمثل خطرا. بل كان أبي.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.