الميناء القديم.. “لؤلؤة” بنزرت التونسية وقلبها النابض
أسوار المدينة العتيقة وقلعتا القصبة والقصيبة، تمثل دليلا على الحس الفني للمدينة، التي تعاقب عليها الكثير من الحضارات.
20/4/2021 AM (مكة المكرمة)
زرقة السماء وأشعة الشمس الذهبية وقوارب صيد راسية على الجوانب في شكل متناسق، وأنغام موشحات وأغان منبعثة من المقاهي المنتشرة على الأرصفة. يجسد هذا المشهد في ميناء بنزرت التونسية لوحة فنية بديعة.
زوار بنزرت، والسياح الذين يقصدونها من أرجاء العالم، يعتبرون ميناءها القديم القلب النابض للمدينة التي تبعد 65 كيلومترا شمال العاصمة تونس، وتمثل المدينة الساحلية أقصى نقطة في شمالي القارة الأفريقية، وترتبط تاريخيا بالتجارة والسفر عبر البحر الأبيض المتوسط.
اقرأ أيضا
الباي أحمد باشا سبق الدول الغربية.. 175 عاما على إلغاء العبودية في تونس
حفظ الذاكرة والتحاور بين لسانين.. قصص أمازيغية من جزيرة جربة التونسية
نوعان من الفرانكفونية في المغرب وتونس.. الجزيرة نت تستطلع آراء مثقفين عن الكتابة على تخوم الفرنسية
يؤسس للإصلاح والديمقراطية والتجارب المقارنة.. الكتاب الأول عن أزمة الإعلام العمومي التونسي
يحاط الميناء، الذي يتوسط المدينة، بمنازل عتيقة وحصنين كبيرين على ضفة المرفأ، وهما قلعة القصبة والقصيبة، تم إنشاؤهما لغرض دفاعي ولحماية المدخل المائي من الجهة الجنوبية والشمالية للمرسى القديم.
ويقصد الزوار أرصفة الميناء، حيث ترسو سفن الصيادين، للتمتع بجمال منظره الساحر والضارب في التاريخ.
موقع مهم وتاريخ حافل
موقع مدينة بنزرت الإستراتيجي جعلها ملتقى لمختلف الحضارات، ولها تاريخ كبير يعود إلى آلاف السنين.
ويلفت الكاتب والأستاذ الجامعي علي آيت ميهوب إلى أن “الميناء القديم كان حتى 1 يوليو/تموز 1895 (وهو تاريخ افتتاح الميناء الجديد رسميا أمام التجارة العالمية) العنصر الذي يربط بين البحر وبحيرة بنزرت”.
ويقول، في حديث لوكالة الأناضول “ثمة روايتان حول أصل الميناء القديم، الأولى تعتبر أن الميناء هو من إنجاز البشر، وتعزو إنشاءه إلى طاغية سرقوسة أغاطوكل الذي احتل المدينة عام 309 قبل الميلاد، وعمل على حفر الميناء وتشييد التحصينات العسكرية حوله”.
“أما الرواية الثانية، فتعتبر أن الميناء من صنع الطبيعة، ويرجع تكونه إلى كسر وتصدع في الكتل الصخرية وقع في فترة ما قبل التاريخ”، وفق المؤرخ.
وكان للميناء دور اقتصادي مهم للمدينة، تتمركز حوله مختلف النشاطات التجارية والحرفية.
ووفق ميهوب، فقد شكل الميناء القديم القلب النابض لمدينة بنزرت إلى نهاية القرن الـ19، “إذ شيدت حوله غالبية أحياء المدينة”.
ويوضح الكاتب التونسي أنه “إضافة إلى الصيد البحري الذي كانت ترتزق منه نسبة كبيرة من العائلات في بنزرت، تركزت حول الميناء غالبية أسواق المدينة، حيث كان يمارس داخلها معظم النشاط الصناعي والتجاري، مثل سوق العطارين والجزارين والحدادين والزنايدية (صنع الأسلحة)”.
ويشير إلى أن “نشاط المرفأ يعد معيارا أساسيا في نمو المدينة أو ركودها، فمع ازدهار القرصنة في القرن الـ16 عرفت بنزرت ازدهارا كبيرا؛ لكن مع منع القرصنة من الجانب الأوروبي بداية القرن الـ19، عرفت المدينة ركودا انعكس على وضعية مينائها.
وأجمع المؤرخون على أن “ميناء بنزرت كان في 1881 بحالة يرثى لها”.
ويشرح ميهوب قائلا “في تلك الحقبة، كانت الرمال تغمره، وأرصفته شبه مهدمة. أما القناة، فكانت شديدة الضيق وضعيفة العمق، لا تسمح إلا بعبور قوارب الصيد، في حين تضطر السفن إلى البقاء في المرسى، معرضة لأمواج عرض البحر”.
طرأت على الميناء القديم تغييرات عدة عبر التاريخ، وتحديدا في فترة الاستعمار الفرنسي، إذ كانت بنزرت تلقب حينها بـ”بندقية الشرق” و”البندقية الصغيرة”، وذلك لأن الميناء القديم كان يحتوي على قناتين تشقان المدينة، وفق تعبير ميهوب.
وتلتقي القناتان وتحملان معا مياه البحيرة نحو البحر عبر قنال موحد يبلغ طوله 150 مترا وعرضه 29 مترا؛ “لكن فرنسا أقدمت -منذ تسعينيات القرن الـ19، وبهدف استغلال الموقع الإستراتيجي المتميز لبنزرت- على تنفيذ مجموعة من الأشغال الكبرى ترمي إلى إنشاء ميناء جديد وتشييد مدينة حديثة على النمط الأوروبي”، على ما يقول ميهوب.
ويردف أن هذه الأشغال أدت إلى تشويه مدينة بنزرت وفقدانها جزءا كبيرا من سحرها المعماري، وذلك بعد أن جرى ردم القناتين المائيتين اللتين كانتا تشقان المدينة.
ويتداول مؤرخون أن الميناء تم إغلاقه من السلطة الفرنسية الاستعمارية، وأن هذا الإغلاق تسبب بمشكلات بيئية للميناء وضعف حركته التجارية. ويرى ميهوب أنه “لا معنى لغلق الميناء القديم في العهد الاستعماري، إذ سرعان ما واصل نشاطه، وما يزال إلى يومنا يؤوي قوارب الصيد الصغيرة”.
ويستدرك قائلا “لكن الذي حصل أن حركته وإشعاعه تراجعا بشكل كبير، بعد إنشاء الميناء الجديد، الذي كان مزدوجا تجاريا وعسكريا”.
وكان “برج الرومي” بالمدينة العريقة حصنا للجيش الفرنسي زمن الاستعمار قبل أن تحوله دولة الاستقلال سجنا، عرف بفظاعاته التي فاقت التصور في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
نقطة مضيئة
يقول رئيس “جمعية صيانة مدينة بنزرت” (غير حكومية) محمد الحبيب مقداد، للأناضول، إن “الميناء العتيق يعد مزارا سياحيا، وهو النقطة المضيئة في المدينة وتاريخها. وقد كان قديما في شكل جزيرة يصل إلى باب تونس، وتم إغلاقه عبر التاريخ، ولم يتبق منه إلا الجزء الذي نراه اليوم”.
ويرى أن أسوار المدينة العتيقة وقلعتي القصبة والقصيبة، هي دليل على الحس الفني للمدينة، التي تعاقبت عليها الكثير من الحضارات. كما ترتبط المساجد الموجودة فيها، مثل جامع القصيبة وجامع المدينة العتيقة، بدخول الحضارة الإسلامية إلى شمال أفريقيا، ومدينة بنزرت تحديدا.
ويلفت مقداد إلى نشاط جمعيته، التي يترأسها، ودورها في المحافظة على تراث مدينة بنزرت، موضحا أنها تأسست عام 1978، وبدأت نشاطها عام 1987، “وكانت لها تدخلات عدة عبر التاريخ على مستوى الأسوار والمعالم الأثرية والمساجد، مثل جامع سيدي حمد وجامع سيدي عبد القادر”.
ويضيف “كنا نتحرك وفق ما تتطلبه وضعية المعلم الأثري، إذ لم تقتصر تدخلاتنا على المساجد فقط؛ بل شملت بعض المعالم التاريخية الأخرى، مثل السجن القديم والذي تحول الآن إلى معلم ثقافي. وهذا شيء إيجابي، نظرا إلى قيمته التاريخية في المدينة”.
وما يزال الميناء يستقطب الكثير من الزوار التونسيين والسياح الأجانب، الذين تجلبهم طلته الجذابة، فضلا عن سحر المدينة العتيقة التي تلتف حوله، والتي ما تزال تزخر بالآثار العمرانية والعسكرية.
المصدر : الجزيرة + الأناضول