الخرفنش
قلب القاهرة..
مشاهد خان جعفر والخرنفش .. تختصر حالة الوطن
محمد شمروخ عدسة : السيد عبدالقادر
لم ينته الأمر بتوقف مشروع القاهرة التاريخية على إثر الفوضى التى أعقبت 25 يناير 2011 ، بل بدا أن الخطوات البطيئة التى عادت على استحياء نحو ترميم هذا المبنى أو رصف ذلك الزقاق، ما هى إلا نوع من ذر الرماد فى العيون.
……………………….
لم يتكرر النجاح الباهر للمشروع بتحول شارع المعز لدين الله الفاطمى إلى مزار سياحى لجميع الفئات من المصريين، فى أى مكان آخر، بالرغم من أن القاهرة بها مناطق كثيرة مثل شارع المعز وتحوى من المبانى التاريخية والأثرية ما قد يفوق مبانى شارع المعز نفسه الذى يعطى كل يوم درسا عمليا للناس فى مصر والسائحين على مختلف انتماءاتهم العمرية والثقافية، عن عظمة الحضارة المصرية فى القرون التى خلت.
تجولت «الأهرام» فى تلك المنطقة الغنية بالتاريخ والتى يجمع علماء الآثار وخبراء السياحة بأنها يمكن أن تكون أكبر متحف مفتوح فى العالم.مشهد من بيوت الجمالية – خان جعفر
بالرغم من أنها ليست المنطقة الوحيدة التى تحوى مبان أثرية فى مصر، إلا أنها أهم منطقة تحوى أكبر تجمعات لهذا التراث الباقى، تبدأ على امتداد عريض من سور القاهرة عند بابى الفتوح والنصر وتمر من باب زويلة إلى المغربلين والسروجية ويوازيها سوق السلاح وباب الوزير وتسير حتى الحلمية ثم قلعة صلاح الدين، حيث تنتشر المبانى المعلومة والمجهولة من المساجد والتكايا والأسبلة والخنقاوات والوكالات والمدارس والبيوت التى تنتمى إلى العصور التاريخية الإسلامية التى لايزال كثير منها يحتفظ بطابعه القديم فى الواجهات والأبواب على الأقل وإن كان خطر الزوال يهددها بالإهمال أو بالانهيار أو حتى بالتجديد العشوائي!.
«أحزان خان جعفر»
فى خان جعفر، حيث بدأت الرحلة، أخبرنا الحاج حمدى الجزار وهو من أقدم أصحاب المحلات والورش التى تقوم بصنع السبح والصوانى النحاسية والهدايا الرمزية التقليدية التى تباع فى المنطقة، أنه بعد يناير 2011، تعرضت المنطقة لفوضى عارمة فى الفترة التالية على الثورة مباشرة وقال وآثار الحزن بادية على وجهه وصوته: كنا نشاهد اللصوص والبلطجية وهو يستولون على المعدات والأدوات التى كانت مستخدمة فى ترميم وتطوير المنطقة وكنا جميعا فى انتظار أن يكتمل المشروع العملاق الذى بدأه السيد فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق الذى أعاد الحياة إلى قلب القاهرة وكلنا شهدنا ونشهد ما فعله من تطوير من شارع المعز لدين الله وما حوله.
شارع المعز
وأمام محل الحاج حمدى هناك مبنى عريض من طابقين كبيرين يحتل مساحة كبيرة أخبرنا الحاج حمدى أنها حوالى 16 فدانا وهى مدرسة قديمة كانت تابعة للأزهر يتعلم فيها أبناء المنطقة وعندما أخبرنا الحاج طارق فى المحل المجاور بأن نجيب محفوظ كان قد تلقى تعليمه الابتدائى أو على الأقل تعلم مبادئ القراءة والكتابة فى «كتاب» بهذا المبنى، لم يتقبل الحاج حمدى هذه المعلومة بارتياح مشيرا إلى أن هذا الأمر غير متحقق، دون أن يثبت أو ينفى، غير أن واجهة هذا المكان الخشبية تنبئ بعراقته فأخبرنا حمدى أنه هو والمبنى الذى بجواره وعلى مساحة عريضة قد أنشأهما تاجر يمنى منذ حوالى 800 سنة ولكن لم نجد فى المكان أى موظف رسمى من أى هيئة حكومية يمكن أن يوضح معلومات أكثر عن المبنى الكبير والذى تقع بجواره وكالة تجارية لها بوابة ضخمة لاتزال تحتفظ بطرازها العتيق، بل إن «المغلاق العتيق» أو «الضبة» مازالت بحالتها رغم أنها لا تعمل.
دلفنا إلى داخل الوكالة، فاستقبلنا التاجر عزت عمر عبد الفضيل، حيث كان يقف بين أكوام من الأجولة التى تفوح منها روائح العطارة بينما طغت رائحة الكركدية فى المكان، عندما كان العمال يقومون بتشوينها وذكر لنا أنه قام بتأجير الوكالة من وزارة الأوقاف المالكة له ولما حوله من مبان سكنية وتجارية وإدارية.
وداخل الوكالة عدة بواكى مرتفعة مبنية بالحجر على الجانبين وهناك إطار خشبى عملاق أمام أحد الجانبين.
لكن الأمر المريب الذى يتهامس به كثير من تجار «خان جعفر» هو أن هناك من استولى على مبنى المدرسة بدون وجه حق.المحرر داخل جامع برقوق
قال أحدهم وقد رفض ذكر اسمه: فوجئنا بمجموعة من الناس تستولى على مبنى المدرسة الذى كان خاليا فى عام 2012 ليقوموا باستخدام غرفة بتأجيرها للزائرين الذين يأتون لزيارة المشهد الحسينى الذى يقع على بعد أمتار من «خان جعفر» وأكد لنا تجار من المنطقة المحيطة بالمشهد أن نموذج مبنى «خان جعفر» تكرر مع مدرسة أم الغلام الابتدائية على الجانب الآخر، بل إن كثيرا من المبانى قد تم الاستيلاء عليها بطرق مختلفة بالحيل القانونية المشهورة فى الاستيلاء على المبانى والأراضى وذلك لاستثمارها لصالح مجموعة من الأشخاص، هذا مع تواجد مكثف لكثير من المكاتب التابعة لجهات حكومية مهمتها الحفاظ على هذه المبانى.
«تنافر معمارى»
لكن الأمر الذى يبدو أكثر أهمية من مجرد النزاع على الحيازة أو حتى اغتصاب ملكية هذه المبانى، هو أن الطابع القديم المميز لها لا يمكن تعويضه لو تم العبث به من جانب المستولين عليها، فربما – كما يذهب أحد تجار خان الخليلى- بسبب ما تدره من أموال فى واحدة تسجل أعلى الإيجارات فى القاهرة نظرا لأنها قلب القاهرة التجارى والسياحى والتجار والمستثمرون يتهافتون على «خرم إبرة فيها» ربما يغريهم ذلك فى الاعتداء على المبانى بمحاولة هدمها أو تعديلها بعشوائية يمكن أن تفقدها شكلها الأساسى ومن ثم تفقد قيمتها!.
وبالفعل فقد بدأ عدد من المحلات فى المنطقة بالتخلى عن النموذج الذى تم فرضه فى «مشروع القاهرة التاريخية المتعثر» ليتماشى مع الروح العامة للمنطقة، حيث الأبواب الخشبية والواجهات الحجرية التى لا تتنافر مع الطابع التاريخى للقاهرة العتيقة، فوجدنا محلات تهدم تلك الواجهات الأصلية وتقوم بعمل واجهات حديثة من الرخام والألوميتال والزجاج واللوحات المضيئة التى تبدو كعزف نشاز فى أعرق سيمفونية يعزفها التاريخ فى قاهرة المعز.حمدى الجزار
أوجاع أخرى فى «الخرنفش»
يعتبر شارع «الخرنفش» واحدا من أهم الشوارع فى القاهرة العتيقة وهو أحد الشرايين الرئيسة التى تربط قلب القاهرة القديمة بشارع بور سعيد وعلى جانبى الخرنفش تتفرع الحوارى والدروب والازقة وهو شارع غنى كذلك بالآثار الإسلامية والمسيحية، فهناك دار «كسوة الكعبة الشريفة» التى تأسست فى ثلاثينيات القرن الثالت عشر الميلادى وكان ينطلق منها موكب المحمل الشهير فى طريقه إلى مكة المكرمة بكسوة الكعبة المصنوعة فى «الخرنفش» وهناك مجمع كنائس زويلة التاريخية التى بنيت فى العصر الفاطمى ومن بينها كنيسة العذراء التى كانت إحدى المحطات فى رحلة العائلة المقدسة إلى مصر وهناك أيضا حارة اليهود بما فيها من معابد يهودية باقية أشهرها معبد موسى بن ميمون ولاتزال كثير من منازلها تحتفظ بطابعها المعمارى ولكن تم تغيير كثير من أبوابها ومداخلها التى امتدت لها يد الإهمال أو بحجة التجديد.
«الخرنفش» الأثر العثمانى الوحيد الباقى فى المنطقة هو مسجد عبد اللطيف القرافى بالقرب من مدخل الشارع من ناحية شارع المعز ولم يتبق منه غير الواجهة وهناك مسجد محب الدين ابى الطيب «بخان أبو طاقية» والكثير من المنازل و«الخانات» والأحواش و«الورش» القديمة ومن بينها مبان تكاد تصرخ مستغيثة لإنقاذها من يد العابثين الذين بدأوا فى تغيير معالمها.
فشارع «الخرنفش» كان سيء الحظ، حيث لم ينل أى نصيب من الاهتمام برغم قربه من شارع المعز ولكن لا يكاد يشعر به أحد ولا يهتم بشأنه الناس، تماما كما كان أخوه المعز قبل المشروع العظيم الذى توقف ولم تجد نداءات الدعوة بعودته بشكل جاد حتى الآن وهو ما يشهد عليه ما يحدث ونرصده هنا.