تقول الكاتبة الفرنسيّة “كولات” بأنّ تونس بلد جميل، سياحة الزّهور. قد تكون كتبت تلك الجملة بعد أن زارت الوطن القبلي وأقامت بالحمامات.
تحاط الزّهور في الوطن القبلي بعناية فائقة، وأكثرها مثارا للاهتمام زهور شجرة النارنج أي البرتقال المرّ التي يستخرج منها ماء الزّهر: الذي يلقب بالـذّهب الشـفـّاف الأبيض.
تسمّى زهرة البرتقال “زْهرْ” أي نفس الكلمة التي تدلّ بالعاميّة على “الحظّ”. إنها فعلا حظّ حقيقي وثروة، فهذا السـّائل يشكـّل نشاطا اقتصاديّا وتكملة للمطبخ وأحد مكوّنات بعض المواد الصّيدليـّة، وله لدى النساء حظوة خاصة، إذ يقبلن عليه بشغف كبير وخاصة في فصل الربيع كنشاط متميز ومخصوص.
إذا كانت لكلّ جهة في البلاد طريقتها الخاصّة في التـّعامل مع الزّهور كتربية شجيرة النعناع في المدينة العتيقة بالعاصمة، والورود في أريانة، فإنّ غراسة شجر النارنج في الوطن القبلي تكاد تكون عملا مقدّسا ولا تخلو منها حدائق البيوت وواجهات المنازل.
ويمكـّن للمتجوّل عبر الوطن القبلي وخاصّة مدن نابل، الحمامات، دار شعبان الفهري، بني خيار، منزل بوزلفة و بني خلاّد أن يستمتع برؤية النـّساء وهنّّ يتسلـّقن السّلالم ويلاحقن آخر زهرة بقيت عالقة بين أوراق شجر البرتقال.
بدخول الرّبيع يوم 20 مارس، ينطلق موسم التـّقطير وترتفع طيلة الأسابيع الأربعة الموالية حمّى تقطير الزّهور.
قد يكون الأندلسيـّون هم الذين حملوا معهم تقنية تقطير زهور البرتقال وهي عملية تتمّ إمّا في البيوت أو آليّا بالمعامل الخاصّة.
وإذا كان استخراج زيوت الزّهر وتقطير “روحه” يتم في بداية الرّبيع فإنّ ماء الزّهر يرافق سكّان الوطن القبلي على مدار السّنة.
وعمليـّة التـّقطير وتحديد مقاديره ومدّة طبخه وكيفية تبريد الأواني نشاط يتوارثه النسوة عن أمهاتهن أو جدّاتهن ويتم ذلك بوله كبير تتداوله الأسرة.
وتحتفظ كل أسرة بأواني التـّقطير وهو الأنبيق الذي انسحب اسمه العربي على كلّ آلات التـّقطير في اللـّغات الأوروبية.
يعاد تركيب تلك الآلات وغسلها وتلميعها في بداية شهر مارس من كلّ سنة، ويختلف إنبيق الوطن القبلي عن بقية المناطق الأخرى فهو مكوّن من قدر كبير يسمّى” قازان” من النحاس بالنسبة للأسر الميسورة وطيني لباقي العائلات، وقد يستعمل البعض أنصاف البراميل، أمّا الغطاء وهو “المكبّ” فمصنوع من الفخـّار البسيط وينطلق منه خرطوم طويل ينتهي بأنبوب ضيّق في حجم عنق الزّجاجة يخترق قدرا يسمّى “المحبس” يملأ بالماء البارد ويعاد ملؤه كلّما ارتفعت حرارة الماء .
الوحدة الأساسية هي “الوزنة” التي تعادل أربع كيلوغرامات، ويستخرج منها بعد التـّقطير مقدار زجاجتين أوّليتين من ماء الزّهر العالي والمركز وزجاجتين من السّائل العادي.
أمّا أهم سائل يجمّع بدقّة وبإبر خاصة فهو زيت الزّهر وهو ذلك الذي يطفح فوق ماء الزهر على مستوى عنق الزّجاجة، ويجمع قطرة قطرة ويسمّى روح الزّهر الذي يقتنيه منتجو العطور الذين يأتون كلّ سنة إلى الوطن القبلي أثناء فترة تقطير الزّهور وربّما يقيمون طيلة الموسم.
يحفظ ماء الزّهر في قوارير خاصة تسمّى “فاشكا” وهو تعريب تقديري لاسم القارورة الاسباني، وهي قوارير تنفرد بانتفاخ أسفلها وتثبّت على سلـّة من البلاستيك أو من السمّار الذي تصنع منه الحصائر وتتفنـنّ النساء في تزويقها و تزيينها بعناية فائقة ودقة متناهية إذ تصنع لها أغلفة مطرّزة بخيوط الفضّة والعدس اللامع تضاف إلى الشبكة الحريريّة أو الورق الفضّي، ولا يخلو أثاث الزواج من تلك القوارير الجميلة.
و منافع ماء الزّهر عديدة ومتنوعة كدواء للحمّى والسـّعال وضربة الشـّمس ويدخل في تركيبة عدّة أدوية محليـّة أوفي الصناعات الكيميائيّة.
أمّا بالنسبة للمطبخ فلا يغيب ماء الزّهر على أفخر الوجبات، فالكسكسي بالسّمك لا يستطاب دون ماء زهر، علاوة على إعداد الحلويّات، بل لا طعم للقهوة عندهم دون “قطيرات” من ماء الزّهر.
وقد شهد التـّقطير الصّناعي تطورا ملحوظا مستهلكا ثلثي إنتاج أشجار البرتقال من الأزهار المخصصة لاستخراج “روح الزّهر” الذي يصدّر ويباع بسعر الذّهب أو أثمن.
وتصدّر تونس بين 700 و 750 كغ من روح الزّهر “النرولي” بثمن يفوق 20 ألف دولار للكيلوغرام الواحد، يتخطفه صانعو العطور الفاخرة الذين يشترونه قبل أن تزهر الأشجار مثل “غرلان” الشـّهير المقيم في الحمامات والذي لا يتخلف عن أي موسم.
تأتي تونس في مرتبة 35 من البلدان المصدرة لزيت زهور البرتقال، ويتم في الوطن القبلي تقطير عدّة زهور أخرى كالورد والعطرشاء الفوّاحة التي ارتفع مستوى غراستها في السنوات الأخيرة.
وتطوّر فنّ التـّقطير ليشمل حشائش بريـّة غابية أخرى وهو تطور ساهم فيه بالخصوص برامج مساعدة المرأة الرّيفيـّة بمنطقة واد العبيد.
نابل التونسية تتربع على بحر من ذهب “النارنج” الأبيض
أجواء خاصة يعيشها أهالي الوطن القبلي في موسم جني الزهر (غيتي-أرشيف)
أجواء خاصة يعيشها أهالي الوطن القبلي في موسم جني الزهر (غيتي-أرشيف)
7/5/2019
محمد علي لطيفي-نابل
في كلّ فصل ربيع، يحتفي أهالي محافظة نابل -إحدى مناطق الوطن القبلي في تونس (حوالي 90 كيلومترا جنوب العاصمة تونس)- بعاداتهم في استخراج “ماء الزّهر” -التسمية المحليّة لأزهار النّارنج في تونس- وزيت “النيرولي” النّادر المستخدم في صناعة أرقى أنواع العطور في العالم.
داخل المعرض الدولي للصناعات التقليدية في هذه المدينة الساحرة، تعمل صوفية بن حميدة، أصيلة عائلة دار شعبان الفهري، بفرز زهرة النارنج البيضاء ذات الرائحة الزكية بعناية ثم تجففها تحت أشعة الشمس، لتصل بعد ذلك إلى مرحلة التقطير بواسطة “القطّار” التقليدي، شأنها شأن ربّات البيوت في المنازل، لاستخراج مياه “الزهر” المخصّصة للاستعمالات اليومية والمنزلية.
قطاف الأزهار البيضاء من شجرة النارنج يبدأ مع حلول مارس/آذار من كل سنة (الجزيرة)
التقطير التقليدي
بتركيز شديد تعمل بعد ذلك الخالة صوفية على وصل غطاء القطّار بأنبوب موصل بقارورة دائرية الشكل ذات عنق طويل تسمّى “فاشكة”، ثم تمسحها بين اللحظة والأخرى بواسطة قطعة مبللة من القماش الأبيض، لامتصاص حرارة الأنبوب الذي يمرّ عبر إناء مملوء بالماء البارد، حيث يتحول البخار المنساب في الأنبوب إلى قطرات تسقط في القارورة حتى تملأها.
تقول صوفية للجزيرة نت مبتسمة، إن ماء الإناء البارد يتم تغييره باستمرار لتسهيل عملية تحول البخار إلى قطرات ماء، مؤكدة أن عملية التقطير هي المرحلة النهائية في استخرج ماء الزهر الذي تسبقه عملية الجني وجمع الزهور، ثم تجفيف الزهر طوال يومين على الأقل حتى يفرز الزيت لتكون نكهته جيّدة.
خبرة 30 عاما
الخالة صوفية التي قضت أكثر من ثلاثين سنة في جمع الزهر وتقطيره، تقول إنها فخورة بعملها في هذا المجال الذي تعتبره مصدر رزقها الوحيد الذي ورثته عن أمها، حيث يفضل زبائنها -الذين يقصدونها من أماكن بعيدة- نكهة الزهر الذي تصنعه لجودته على الزهر المقطّر في المصانع.
وتضيف أن سكان نابل وأهاليها يعتبرون أن وجودهم لا يكتمل دون عادة تقطير الزهر، فشجيرة النارنج بزهرتها البيضاء ذات الرائحة الزكية، لها قيمة كبيرة وسر وحنين في عادات تلك المدينة التي تعد من أهم وأجمل الوجهات السياحية في تونس.
صوفية بن حميدة تستخرج ماء الزهر بالطريقة التقليدية (الجزيرة)
موروث ثقافي اقتصادي
من جهتها، تقول صليحة زياد (29 سنة) -وهي إحدى العاملات- للجزيرة نت إن موسم قطف الأزهار البيضاء لشجرة النارنج يبدأ مع حلول مارس/آذار، معلنة عن مناسبة أشبه بالأعياد السنوية كموروث ثقافي واجتماعي ضمن العادات والتقاليد الراسخة لدى أهالي مدينة نابل.
فضلا عن هذه العملية التقليدية لتقطير الزهر التي تعتمد بالأساس على استخراج مياه الزهر، تقوم ستة مصانع في محافظة نابل بطرق عصرية في استخراج ماء “الزهر” وزيته، إذ تعتبر هذه المحافظة من أهم المناطق المنتجة والمصدّرة لزيت النيرولي في العالم، وتم الاحتفال بأول معرض لـ”ماء الزهر” فيها سنة 1930.
النارنج.. أبو صفير.. الخشخاش
وتسمى شجرة النارنج أيضا بالخشخاش في الأردن، وبـ”أبو صفير” في لبنان، وهي شجرة تصنف من الحمضيات، وتشبه كثيرا شجرة البرتقال، غير أن ثمارها لا تؤكل بسبب مذاقها المر، وتستخدم زهورها البيضاء في مجالات عدة مثل الطبخ والتجميل، فضلا عن أن كلمة “زهر” تدل بالعامية التونسية على الحظ.
البشير عون الله رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة والصيد البحري ببني خلاد في محافظة نابل، يقول للجزيرة نت إن صناعة الزهر في محافظة نابل تشكل مصدر رزق لأكثر من عشرين ألف عائلة وللعديد من الأهالي، وهو يقوي النشاط الاقتصادي في المنطقة، موضحا أن الدولة لا بد أن تشجع الشباب على استغلال هذه الموارد الطبيعية لإنتاج العطور الفاخرة وتصديرها.
النارنج يستعمل في مواد التجميل وفي تعطير الأكلات التقليدية (الجزيرة)
الذهب الأبيض
ويصف عون الله زهر النارنج بالذهب الأبيض، ويؤكد أن محافظة نابل تملك موارد طبيعية تضاهي الذهب، معبرا عن أمله في أن تعمل الدولة على تشجيع الشباب لتفعيل مشاريع في هذا المجال المربح ليصبح ثروة وطنية، مما يوفر دخلا مهما من العملة الصعبة لميزانية الدولة من هذه المواد الطبيعية والبيولوجية.
منافع واستعمالات
اختصاصيو التجميل يؤكدون أن زهر النارنج له العديد من المنافع الصحية، حيث يستعمل كثيرا في مواد التجميل وفي تعطير الأكلات التقليدية وصنع المرطبات، ويعطي للقهوة نكهة خاصة، كما يستعمل دواء ضد السعال وللعناية بالبشرة وحمايتها وللاسترخاء والنوم الهادئ وفي تحضير بعض الأدوية الجلدية.
وتغطي أشجار النارنج حوالي 350 هكتارا في محافظة نابل، فيها أكثر من 150 ألف شجرة نارنج تنتج سنويا بين 1000 و1200 طن من الزهر الذي يحول إلى ماء زهر عادي وماء بيولوجي، فضلا عن استعمالات زيت “النيرولي” النادر المستخدم في صناعة العطور الأكثر جودة في العالم.
رائحة كوب القهوة يفوح منه عطر زهر شجرة النارنج البيضاء، تملأ شوارع محافظة نابل حركة ونشاطا، ويتطلع شباب نابل لمزيد من دعم الدولة لتفعيل النشاط الاقتصادي في هذا المجال.
المصدر : الجزيرة