الياس ديب امام جدارية الانتشار اللبناني العام 2008
الراحل الياس ديب وفانتازيا الحدس الشّرقي
03-03-2021 – المصدر: فيصل سلطان- النهار العربي
A+A-قبل أيّامٍ، خسرت الحياة الفنية في لبنان واحداً من كبار فنانيها ومثقفيها، الياس ديب (1945-2021) الفنان المخضرم والمعاصر، الذي توفي في باريس عن عمر يناهز 76 عاماً. وهو عايش مراحل الازدهار التي عرفتها فنون بيروت في الستينيات والسبعينيات.
بداياته الفنية طالباً في دار المعلمين والمعلمات (1962-1965) عرّفته على الفنانين رشيد وهبي ومنير نجم، اللذين اكتشفا موهبته وشجعاه على متابعة الدراسة في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية (1968-1973)، وكانت تجاربه الأولى تحمل مناخاً تعبيرياً مع مسحة رمزية (طفولية-مرحة)، تطور بعدها بعد نحو أسلوب يزاوج بين النزعة التعبيرية والتلوينية المتحررة وثوابت الدراسات الاكاديمية.
لوحة من وحي ألف ليلة وليلة
مرحلة التأثّر والتكوين
في مطلع السبعينات، تركت زيارته للمتاحف الألمانية (ميونيخ) أثرها الواضح على تجاربه التشكيلية التي انحازت الى مناخات التنقيط واللطخة اللونية، التي دخلت عالم لوحاته إثر تعرّفه عن قرب على جمالية التنقيط في لوحات كاندنسكي Kandinsky والتوازنات الموسيقية اللونية في أعمال بول كلي Paul Klee.
في تلك المرحلة الإعدادية كانت محترفات معهد الفنون مفتوحة على معارض الفنانين – الأساتذة وعلى تداعيات مسائل التعمق بالحدس الشرقي من خلال معادلات الشكل واللون (سعيد عقل، شفيق عبود، منير نجم، رفيق شرف، عادل الصغير، أمين الباشا وبول غيرغوسيان).
كان الياس ديب يغوص في دراسة أسرار اللون ويوقّع فضاءات لوحاته التعبيرية – المتحررة بالنقط اللونية المتراكمة كمناخات مفتوحة، على تجليات ما أسماه بجسور التلاقي ما بين الشعر – البصري وتناثر النغم – التنقيطي الموسيقي.
كانت لوحاته (التي عرضها عام 1972 في غاليري وان One بعنوان “اللحظات السحرية”)، مميّزة في انجرارها وراء أسلوب تنقيطي مفعم بحيوية الكشف عن الألوان الزاهية للنور (مستمدة من أعياد الزهور)، اعتبرها بمثابة لعب مع قوس قزح، ومداداً لحدائق أحلام طفولته المستعادة.
في معرضه الثاني (الذي أقامه عام 1973 في صالة فندق فاندوم في بيروت) أخذ يقطف شاعرية التغريد اللوني في التعبير عن أجواء مدينته بيروت، كمدينة مبعثرة الأحلام، جسّدها من خلال رسمه لقوس قزح، كجسر خفي يجمع ما بين تجليات حدائق الأشرفية والصخب المديني في ساحة البرج وتعابير وجوه الناس الواجمة والأقنعة الممحوّة والإشارات الغامضة، التي تومئ بقدوم حدث ما، أشبه بالمأساة أو الصرخة.
الياس ديب مع عمل تجهيزي من معرض المركز الثقافي الفرنسي – تصوير صالح الرفاعي
المرحلة الباريسية: الحياة رقعة شطرنج
عندما انتقل الياس ديب في العام 1973 الى باريس بمنحة من الجامعة اللبنانية للتخصص في فنون الجداريات في المدرسة العليا للفنون الزخرفية، (Atelier Robert)، سرت في لوحاته تساؤلات عدة عن امكان الجمع بين المناخين الشرقي والغربي. فأخذ يرسم الكائنات والأشخاص على هيئة أشباح لأشكال هلامية متراقصة تومئ بالطلاسم والتعاويذ، كدلالات لكائنات وهمية استعادها من أجواء معرض اللحظات السحرية، من دون ان يُسقط من همّه ألغاز حقائق الواقع-الإنساني المأساوي الذي تجلى في حرب السنتين (1975-1977) ودمار الوسط التجاري في بيروت (مرحلة متاهات الغيوم السوداء وفانتازيا الخطوط العنكبوتية).
واللافت، أنّ تلك الكائنات التي رسمها كان يقسّم أجسادها الى مربعات او خطوط متقاطعة ومتجزئة، أشبه بتجليات لحقول زخرفية متتابعة مستمدة من عوالم الطفولة. كما لو أن لا ثنائية في لوحات تلك المرحلة بين الحاضر والماضي، ولا حنين أيضا، لأن الطفولة لم تُفقَد، بل كانت حاضرة بقوة في اعماله، وهي جزء من عالمه المرح المترنّح بالحزن والمعاناة والألم.
كشف الياس ديب عن نماذج تجاربه “الشطرنجية” في معرض استعادي أقامه العام 1997 في غاليري “ستاسيون دي زار” في بيروت، جسّد فيها عوالم لجوئه الى التجريد، في تفسير براهين علاقة الشكل الهندسي للمربع والدائرة مع حركات النور.
يعترف (في حوار أجريته معه في ملحق جريدة النهار العام 1997) بأنه عندما ذهب الى باريس شعر بنفسه وحيداً ومنفياً بلا أهل. يقول: “تأثرت كثيراً فراحت من لوحتي الألوان وبهتت. ربما لأنني فقدت الطفولة وفقدت الوطن. بدأتُ بمرحلة الأسود والأبيض، التي تعكس تداعيات لعبة الشطرنج. إنها لعبة العالم المصغّر الذي رصدتُ فيه حوادث عاشها وطني. عادة الشطرنج هو موضوع ينشأ مع الغربة (غربة الفنان) والمنفى، وينشأ كذلك بعد موجة من الحوادث المأساوية. على هذا الأساس تطور العالم الشطرنجي واتخذ رموزاً ثانية. عملتُ طوال خمسة أعوام على موضوع “هندسة اشكال الشبكة الغرافيكية – التجريدية” وأدخلتها في لعبة مربعات الأسود والأبيض، ثم الألوان المائية والطبشور والغواش والاكريليك. ثم تحولتُ نحو استخدام الألوان الذهبية والفضية، وذلك خلال تجاربي في محترف جاك فلاشيه Jacques Flacher (في مدرسة الفنون الزخرفية)، حيث قمت بأبحاث معمقة على اللونين الذهبي والفضي، اللذين أعتقد أنهما شرقيان. وفي رأيي أن الذهبي هو شمسي والفضي قمري. كانت لدينا في المحترف آلات وأجهزة لقياس لمعان الألوان كمواد حية. وهذا ما شجعني على دراسة المنطق الوهمي للواقع المدرك لتصادم الألوان (في مختبر بيار كابان Pierre Cabanes)، وإدخالها بقوة في تجارب الشطرنج”.
مرحلة الدوائر والمسابح
المربع والدائرة فضاءات العمر
في أواخر السبعينات، عمل الياس ديب كمخرج فني في مجلات عربية كانت تصدر من باريس. لذا لعب دوراً مهماً في الكتابة عن الفن التشكيلي العربي من خلال أسئلة كانت ولا تزال مطروحة عن معنى الشرق ومعنى الغرب في الطروحات التشكيلية العربية.
كان يعتبر نفسه واحداً من جيل الحرب، جيل الهجرات وقلق المنافي والدفاع عن الهوية الشرقية. لذا اعتبر أن المربع والدائرة يتحولان دائماً الى صورة سراب لاختزال إشارات الأرض والناس والكون، كما لو أنهم فضاءات العمر، في خطوات عوالم الانتقال القلق والدرامي في شطرنج الحرب من مربعات خطوط التماس (التي عرفتها بيروت) الى مربعات الإيقاع الأرابسكي الذي أضاء مسيرته الفنية (خلال سنوات الإقامة في باريس). لذا فهو في تجارب الشطرنج كان يدخل مثل التجريديين الكبار الى متخيّل مغاير، في الانتقال من ضحية الى منتصِر.
كانت صور الوهم التجريدي تغذي تأملاته وأبحاثه الفنية بوعاء الفكر والسلوك التجريبي معاً، من خلال اجتهادات تتطرق الى عالم اللون في رصد الإشكالات التي ما زالت تعتبر من باب الألغاز البصرية التي تساهم في توسيع رقعة أبحاثه.
سحرته لسنوات لعبة الشطرنج ولعبة أوهام الاستقصاء بالمجهول، في اختبارات فنية متعددة جعلته يغوص ويسبر مفارقات الحدس أمام طلاسم التداخل ما بين المربع والدائرة (تجارب لوحاته مطلع الثمانينات)، اللذين يرتبطان بنظريات علم البصريات والضوء في تفسير علاقة الزمن والحركة.
هذا التداخل الهندسي والترابطي وجده الياس ديب متحققاً في واجهة مبنى متحف العالم العربي في باريس، الذي صممه المهندس جان نوفال (لعبة الدائرة داخل المربع التي تفتح وتغلق كعدسة مع حركة النور). فقد شغلته منذ ذلك الحين العلوم الرياضية للمنظور وفلسفة العقل المستنير القادر على تجسيد الرؤية التجريدية للكون، من خلال عبور حاجز الزمن (علاقة لعبة الشطرنج بزمنين)، زمن الفن – كحوار حضاري، وفن الزمن – كصراع حروب.
شغلته أيضا عمليات اكتشاف الخدعة البصرية الفنية الناتجة من استعمال الخط المستقيم والخط الدائري في ابتكار الإيقاعات الهندسية والنسب الجمالية المفرطة في الغرائبية التي تؤدي الى نظريات الوهم من خلال عمليات التبسيط في إيقاعاتها المتباينة في التعبير عن الهجرات والمنافي ومواجهة المخاطر. ظهرت في تلك الحقبة ظهرت لديه مرحلة السواد الذي يضيء، على اعتبار أن اللون الأسود متاهة النسيان، واللون الأبيض إشراقة التَذكّر. غالباً ما كان يرسم تلك الثنائيات وتقابلهما في تجاربه البنيوية التي تستند الى تداخل الدائرة والمربع، ما يعكس قدرة الإدراك الاختباري في الكشف عن عمق المناخ الشعري التجريدي الذي يجمع التسطيح اللوني بالعمق. فاللون الأسود بالنسبة اليه هو ليل الظلمات الحالك، ليل الحروب الزاخر بمظاهر الأحاسيس الخفية (الانكسار، التبعثر والتهدم)، هو ليل استقصاء إيقاع التفكيك بالمجهول.
أثناء عمله في الصحافة اللبنانية المهاجرة في باريس (مجلة الوطن العربي) اكتشف جماليات التصميم في الفنون الطباعية، ألوان الحبر وطرق الطباعة والمعالجات المختلفة للورق والماكيت.
وتكوّنت لديه إمكانات التحليل والتركيب التشكيلي بالمواد المختلفة في اللوحة. أصبح الأسود والأبيض مثل ألوان الذهب والفضة اللذين يؤكدان حضورهما البارز في تيمة الشطرنج.
في تلك الفترة تعرّف عن قرب على اعمال الفنان الحفّار موريتس أشر (Escher Maurits) وأعجب كثيرا بالأوهام البصرية الكامنة في لوحته “تحولات ملكة”، التي حرّضته على دخول عالم أوهام المفارقات البصرية التي سبق واتّبعها فيكتور فازاريللي Victor Vasarelly، رائد الوهم البصري الذي أطلق في تجارب الأوب- آرت جدلية استعمال الأسود والأبيض، لإعطاء الشكل التجريدي منحاه المقعّر او المحدّب فضلاً عن إشكاليات الزاوية الغائرة ضمن الزاوية النافرة، التي لا نحصل عليها في الواقع وانما بالوهم الافتراضي.
هذا الوهم حيث يمكننا ان نقترح جاذبات لأنواع عدة لا يمكن ان تجتمع. هنا تكمن حركة المفارقات البصرية التي عمل عليها الياس ديب طويلا في تأليف لوحاته، عندما أصبحت دينامية خطوط العبور البيضاء (العمودي والافقي في رقعة الشطرنج) متواشجة مع تقاطعات خطوط العبور السوداء (الخط المائل)، في عملية انبثاق الفضاء الأرابسكي الجديد.
اعتبر الياس ديب تكوين الشطرنج بمثابة طريق اختباري لمسار تشكيلي مبتكر، أسماه “الأداة السحرية” للتأليف الفني. أمسك من خلالها بأبعاد تكوين الاشكال المجسدة بالحبر الأسود (المربعات، الاواني، المخروط، “طاسة الرعبة” و”سبحات الصلاة”).
كانت بمثابة مناجاة اشكال روحانية انبثق منها نور خفيّ، رفع الحجاب عن احزان دفينة عاش أهوالها في حروب بيروت. حول تلك المرحلة يقول: “في تجارب الشطرنج حاولت أن أركّز على الانسان اللبناني الذي هزمته الحرب من خلال وقوعه في شرك قدرها، حاولت التعبير بخطوط الربح (الأبيض) وخيبة الخسارة (الأسود) عن قلق الضحايا، والغاء مفهوم الحرب وتحويل الصراع الى معاناة داخلية، داخل عناصر الذات. الذات الإنسانية التي تتحمل كل أعباء اللعبة دون لأن تكون شريكا فيها. حاولتُ التعبير عن مملكة الضوء (بيروت) التي تدمرت وانطفأت وتحولت الى سواد. ألا يصبح النور أسودَ بين زمن القبض على هواجس القلق وزمن وضعه على اللوحة، لا شيء غير المسار التجريبي يكشف عن حالات التشاؤم والانفلات، بين الجزء الذي يسقط ضحية والجزء الذي ينتصر”.
الأبعاد الكونية للفراغ
بحث الياس ديب طوال عقود تجاربه الاختبارية (من اللوحة الى العمل التجهيزي) عن الشبح الذي يرجئ حضوره لأنه مضى وقضى نَحبه، فهو يقتفي أثره الجوهري في لعبة الشطرنج كي يتجلى في ذاكرتنا في صراع النهايات وفي ومضات بصيرة أعمق داخل المجهول (الحقيقي والمتصوَّر).
غاص في أبعاد تفسير أثر الشبح بين البقاء والفناء في معادلة التشابك بين المدرك العقلي والخيالي، حيث يتوه الحد الفاصل بين الاثنين. فلا يعي الوجود الا كعلاقة تفاعل مع مكونات نسيج تجريدي متداخل متلاحم بينهما. وهذا ما اوصله الى ما أسماه بالفضاءات المفتوحة في علاقة الشطرنج بالزمن، وعلاقتهما بنظريات النسبية وتصوّر الكون بأربعة أبعاد.
تجلّى الفراغ (في أعماله التجهيزية) داخل متخيل تصميمي تبلور في مراحل التركيز على إطار اللوحة الفارغة (الزمن – المكان) بثقوبه السوداء، محل المكان الثلاثي الأبعاد. وصف الياس ديب تلك التجارب “بالعمل المفهومي ذي الابعاد الكونية”. وذلك حين لجأ الى منهج الجمع لأشكال متنوعة (اواني زجاجية، إطارات خشبية، مرايا “سبحات الصلاة”) ومنهج التفتيت والتجزؤ (تكوين الاقمشة والشرائط الملونة على إطار اللوحة الفارغة) داخل فضاء تجهيزي جديد، يكشف عن ابعاد اللون كفراغ. على اعتبار ان اللون في الفراغ هو كالماس، الذي هو في الأصل غاز الكربون المنتشر في الفضاء.
شكّل الفراغ فضاءات لا تُحدّ في تصميم معارض تجاربه المفاهيمية التي عرضها العام 1998 في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت “بعنوان سلالات الماء”، وفي العام 2004 في صالة بيت الطبيب في بيروت “بعنوان احلام دائرية”، وفي العام 2010 في صالة جامعة البلمند بعنوان “فضاءات مفتوحة”. انطلقت تلك المعارض من فكرة تحويل تركيب الفراغ التجهيزي وفق منظور هندسي خفي، وتحويله الى “تجاذبات وتنابذات بين البصر والبصيرة”. كان الياس في تلك التجارب يسعى لتأكيد مقولة ” العين تفكر والعقل يرى”. كان من خلالها يجمع بين خبراته التشكيلية وابحاثه الفلسفية، بغية تركيب بنية مادية من عوالم مختلفة، تنقلنا من العالم الواقعي الى الخيالي (سبحة صلاة وشرائط تضميد جراح مع زوايا مرايا وخيوط خفية وأشكال كروية ومخروطية) تجعل المشاهد-الزائر يُبحِر في مسارات معقدة بين العالمين المادي والخيالي، دون ان يتحقق من أين يبدأ العالم الحقيقي أو اين ينتهي العالم الخيالي.
كان في اعماله الأخيرة يفتش عن المنطق الخفيّ لمنظور التفكيك، في تجسيد فضاءات مرايا الذكريات الحلوة والأليمة التي لا تنام. كان يبحث عن سراب التغييرات الاثيرية في علاقة زوايا الرؤية بالضوء والحركة والزمن. هذا ما حاول تجسيده في مرحلة المرايا كموضوع ديناميكي مفتوح على الحالات ومعانيها التطبيقية المتعددة ودلالاتها الافتراضية.
الياس ديب الذي ترك على حائط جمعية “البوزار” في مجمع ابنية الجامعة اللبنانية في منطقة القبّة في طرابلس أروع اعماله الجدارية التي تناولت موضوع الانتشار اللبناني والهجرات في أنحاء العالم. رحل صديقي الياس ديب في منفاه الباريسي دون وداع. كان يسعى قبل رحيله لإصدار كتاب يتناول تجاربه الفنية طوال نصف قرن، مرفقاً بمعرض استعادي لأعماله في بيروت، تأجل تنفيذه بسبب انفجار المرفأ الذي عرّض محترفه في الاشرفية للخراب. انه الحدث الدرامي في ذاكرة النهايات التي سعى طويلا الى استرجاع فصولها حين كتب في معرض “فضاءات مفتوحة” يقول: “من قال ان أبواب النهايات دائما موصدة”.
عمل تجهيزي من مقتنيات متحف مقامالكلمات الدالة