Hussein Najem مع Ahmad Kaddourah
المصور الضوئي وإشراقات زها حديد.
حينما نتطرق للتطور المعماري الذي شهدته السنوات الماضية ومدى تأثيره على القيم الجمالية والعملية الإبداعية، وبعث روح الحضارات بأسلوب يتماشى مع عصره، لن يعدل الحديث عن جادة الصواب والتوجه نحو الأسلوبية الغرائبية للمهندسة المعمارية زُها حديد، التي تمكنت من فرضت هيبة الخطوط والمنحنيات ودلالتها الفلسفية والفنية من خلال أعمالها، فقد تركت ارث معماري، كان من التميز بمكان ان تفرد، وفرض قوة الخطوط، والظلال، ومساقط الإضاءة، وهذا لا ينكر ونحن نشاهد في كل مكان، وكل دولة لها صرح، يصرخ بعنفوان التكوين وسمو الدلالة ، وعبقرية التجريد ، ورصانة المعنى الحسي، واستقلالية كل مساحة بشكلها البديهي المتناسق، ومن ثم إجمالها بوحدة واحدة هندسية الشكل، غزيرة المفاهيم، كون المهندسة المعمارية زها حديد تنتمي للمدرسة التفكيكية، والتي أسس مبادئها جاك دريدا كاتجاه فلسفي تحليلي يعني بالنص الأدبي لكشف المعاني الكامنة فيه، وهذا كان المنحى العام لأعمالها.
قيل في تاريخ الفن، أن الفنان هو الذي يستطيع إعادة صياغة الإبداع من الطبيعة. حسب نظرته الخالصة وليس تكراراً للجمال، فهو يمتلك الحق باتجاه ضربة فرشاته، واختيار ألوانه، والتحرك بالمساحات بحرية، من اجل ترجمة أحاسيسه، وإظهار مدى تأثره بذلك الإبداع. الى حدٍ ما أن هذا القول فيه من الصحة الدرجة الكبيرة. فهي لم تحرم الفنان من طرح وجهة نظره، وعمق مدلولها الفني، الذي سيصل للمتلقي، كي يشاركه ذلك الشعور العميق النابع من أعماق النفس البشرية.
يقول كروتشه في كتابه (فلسفة الفن).
“فالفنان إنما يقدم صورة أو خيال. والذي يتذوق الفن يدور بطرفه إلى النقطة التي دله عليها الفنان وينظر من النافذة التي هيأها له، فاذا به يعيد هذه الصورة في نفسه، ولا فرق بين الحدس والرؤيا والتأمل والتخيل والخيال والتمثيل والتصور وما إلى ذلك فتلك جميعاً مترادفات تتردد باستمرار حين نتحدث عن الفن”.
(كروتشه في هذه الجزئية يتكلم عن المتذوق بالخصوص، وفعل الفنان بدرجة تلقيه وحثه على المشاركة بأي مفردة من المفردات المترادفة، غايته الوصول والنهوض بالفكر إلى مفاهيم مشتركة تستوجب الحضور الذهني، لما يقدمه الفنان.
العمل الضوئي الماثل أمامكم للمهندس المعماري الفنان الفلسطيني أحمد قدوره Ahmad Kaddourah والذي نال الجائزة الفضية في مسابقة The Espon International – Pano Awards جائزة ابسون البنوراميه الدولية وجوائز موسكو الدولية للصور الفوتوغرافية فئة الجسور.
يُعد هذا العمل من الأعمال التي تنتمي بأسلوب معالجتها للفاين أرت، قد البسه ثوب التجريد الحسي، قوي الدلالة في الصراع القديم بين الأسود والأبيض، وقد إجاد إسقاطاته الواصلة له من أصل العمل في الواقع، فترجمها حسب وعيه ومشاعره، وتذوقه، فالتذوق من بديهيات الفنان، ولولاها لمًا استطاع أن يُعيد بعث الجمال الفني.
عبّر المصور ومن خلال الخط الأفقي المنحني الأبيض، عن تدفق المعنى من العلو، ومن ثم الارتكاز والاتكاء عليه، في هبوطه واستقراره، وهذا بحد ذاته كاشف، عن البصيرة الفكرية والنهضة المعنوية لذلك الخط ومدلوله الفني بهذا النسق الهندسي، وانتشاره حتى كاد يحاذي مقدمة العمل، وهنا معنى مختزل للضوء أو للشعاع الأبيض، إذا ما ضممنا المعنى الفلسفي والفني للضوء، فهو بمثابة خير قادم من الأعلى، وانتشر أثره على الأرض لينتفع منه الأخرون.
ثم رفع ذلك الفيض من خلال الأعمدة المتواجدة فوق الجسر وأضافها تعزيزاً لذلك المد الضوئي، متماشية مع المعنى المختزل ليستقر المشهد بفحواه.
منحنا الفنان دخولية مريحة واسعة، ليكون بمقدور المتلقي، اخذ شهيق بروية وسكينة، لنصل للملحمة ونحن نمشي بثبات دون مشتتات تذكر مستخدماً التعرض الطويل “الشتر البطيء ” ليضيف الملمس الحريري للماء ويكون كالمرأة العاكسة.
كما انه عمد بتظليل بقية المساحات باللون الأسود مع تدرج بسيط بدرجاته لتبقى القصة محافظة على بطلها الأبيض دون منافس أو منازع من أي عنصر أخر داخل السردية الضوئية، وهذا عامل ضروري بالحدث الضوئي، فهو يروم إظهار مراده، وتجليه أمام هذا الصرح.
لم يترك السماء خالية فقد أمدها ببعد دراماتيكيً، حتى لا نشعر بوحشة المسير في مساحات العمل ويمنع الملل، بل وجعل تلك الغيوم التي تم سحبها بواسطة التعرض الضوئي عامل توازن للضوء في المنتصف مما جعلنا نشعر بالحركة والاستمرارية، والانتماء للعناصر.
لم يبتعد المصور عن شبق زها حديد للخطوط وعشقها ، فأفرد للخط الأفقي مساحة ظليه تطل علينا بمفهوم الثبات والاستقرار حينما جعله يدخل مقتحماً المنطقة البيضاء كالغزاة، مدركاً لأهمية بروزه في المشهد وعدم إلغاءه كخط ادفقي واصل بين ضفتين، وهنا قد اكد المركزية الحسية والنظرة التواصلية بين طرفي نقيض كمفهوم تجريدي إنساني، بل قد تمكن من بيان أهمية كل خط اذا ما علمنا أن محور التجريد يعتمد اعتمادا كلياً على النقطة والخط ومدلولاتهما النفسية، متماهياً مع أسلوب زها حديد الذي كان يرتكز عليه والتي كانت تُجيد بهندستها المعمارية خلق خط فاصل بين البناء والأرض.
وجد الفنان قدوره وهو مهندس معماري، شغفه، وإدراكه العلمي والفني، في عمل من أعمال هذه المعمارية الخلاقة، وتحسس مكامن الجمال، فاخذ يتلمس ملمسها بأنامل الشغِف النهِم كالطفل الذي يتلمس جّيد امه ليصل مكان دره.
تمكن الفنان الضوئي احمد قدوره في بعض معالم عمله هذا، واعماله الأخرى أن يسير بمحاذاة المنظومة الحديدة لزها الإشراقية فصار يحاكيها من خلال ضوءه واسلوبه الذي سيكون مستقبلاً منفرداً به، يحمل سماته وافكاره.