تصورات أوجيه أودوتولا للقوة والسلطة أعمالها تقودنا نحو اكتشاف الجموح البربري في أفكار عصرنا الراهن عن القوة
- زادي سميث – كاتبة بريطانية – ترجمة: محمد علام مترجم مصري | نوفمبر 1, 2020 م
في تصوير السيطرة فإن أعمال الفنان المليئة ببناء العالم والفلسفة، قد تفعل أكثر من مجرد قلب النص.
تقف امرأة في جانب من المشهد، تنظر باتجاه. المنظر يبدو مهيبًا، ومع ذلك فهي ليست المهابة الأوربية المُعتادة التي يُمكن أن تجدها في المنحدرات والصخور والضباب. هنا تتجلى المهابة إفريقية الطابع، في نسيج يزخر بالشلالات، والمراعي، والصخور المختلفة والمتآلفة معًا، التي تُذكرنا بهضبة جوس النيجيرية.
تظهر المرأة منتصبة الساقين، تتفحص كل شيء بنظرة ميتة، بلا إحساس، وقد يبدو أنها في حالة من التأمل الفلسفي. يبدو أنها مطمئنة إلى سيادتها على كل رقعة تحت قدميها، هذه السيادة التي تتجلى في المقام الأول من الأجزاء البادية من جسدها، من الوضع الذي تتخذه، حيثُ تجد كل هذه الانعكاسات في الأرض المحيطة بها. كما تعطي الخطوطُ الداكنة لعضلاتها مظهرًا مثيرًا للإعجاب مثل تماوج نسيج صخري. تتحاور الطيات المهيبة في ردائها مع طبقات الأرض المتماوجة أسفل قدميها، وقمة رأسها الناصع الأملس كما الصخور.
يبدو العمل الفني لـ«توين أوجيه أودوتولا» بعنوان «طبقة الـ«إشو» الحاكمة» من النظرة الأولى أنه صورة تجسد مفهوم السيادة/ السلطة. تشعر للوهلة الأولى أن هذه الأرض قد خُلقت على شاكلتك، بل إن كل شخص داخلها يخضعُ لك بطريقة ما. وبنظرة متأنية، تحيلنا إلى تصوير كاسبر دايفيد فريدريتش لسيادة التنوير. في لوحته الشهيرة «واندِر فوق بحر الضباب». لاحظ القدم اليسرى نفسها المرفوعة، حالة التأمل نفسها المستمدة من طاقة السكون الجاثم على كل شيء، محاكاة الشعر، والهيئة، حتى طراز التمويجات المسيطرة على المشهد كله. كل ما في الأمر أن الرجل ذا الرأس الأحمر الذي نراه من ظهره ممسكًا بعصًا في يده، قد استُبدل به امرأة زنجية تواجهنا في ردائها الشعبي، السيناريو نفسه ولكن بالعكس.
تندرج هذه الحالة ضمن ما يُعرف بـ«نظرية التعويض»، التعويض هو استعاضة أثر شيء ما، من خلال مقابلته بشيء آخر مساوٍ له في القوة. قد لا تكون المفردة مناسبة أو واضحة بالشكل الكافي، لكن يمكن النظر للأمر على أننا في لحظة ثقافية من الموازاة الجذرية، ربما تعود بنا إلى ما شهدناه بقوة في حقبة الستينيات، عندما قُدمت الثقافة مثل طلقة البندقية، على سبيل المثال كان الأمر أشبه بزهرة الربيع في أنبوب بندقية.
وهذا هو المقصود بحقبة من الانعكاس الهرمي، أو استبدال هذا بذاك. قد تبدو لوحة «طبقة الإشو الحاكمة» جزءًا كاملًا من مفهوم التعويض، أي المعارضة المبنية على الأضداد، حيثُ يسود اللون الأسود على الأبيض، انظر طريقة رفع الساق، إنها تمحو أعوامًا من استعباد الزنوج، على طريقة تقييد النقيضين الأبيض والأسود في لوحة واحدة من الفحم والطباشير والباستيل. هكذا تقدم اللوحة صورة جديدة ضد أحد التصورات القديمة عن الاستعباد والسيادة.
ولكن هل هذا كل شيء؟ إنها قصة غير تقليدية للفنانة النيجيرية أوجيه أودوتولا، وأحد أبرز منتجات بلدة إيفي في نيجيريا، ورغم سنوات عمرها الـ 35، فإنها في مدة قصيرة صارت من المميزات في الفن البصري، تُعَدُّ انطلاقتها البارزة في عام 2017م، من خلال مشاركتها في متحف ويتني، بعملها الشهير «أن تتجول بعناد»، الذي يُصوّر زواج سلالتين نيجيريتين في حالة حالمة، تتضمن بناء عالم من المساواة المثالية كما في الروايات. لا تكمن القصة في نظرية التعويض كما يوحي العنوان، على مجرد سيناريو معكوس، لكنها نظرية تتعلق بمفهوم الموازنة نفسه.
اكتشاف الجموح البربري
على جدار مقوس في أتيليه باربيكان في لندن، تتكشف الصور الأربعون تدريجيًّا على طريقة الاستعراض الصيني. إنها تقودنا عميقًا نحو اكتشاف الجموح البربري في أفكار عصرنا الراهن عن القوة، ومن يمتلكها، وكيف ينبغي ممارستها، وبالتالي فهي رحلة فلسفية بقدر ما هي بصرية، ولنتساءل بطريقة أخرى: ما إمكانات التعويض وحدوده كمشروع سياسي أو جمالي؟ هل هو كافٍ للمواجهة؟ أم إن التوليف أعلى مما يمكن تصوره؟
يتجلى مشروع أوجيه أودوتولا الفني في لحظة تلاقي خطوط الفحم الهائمة، التي تتبعها بشكل أعمى إلى حد ما، قائلة: «أترك علاماتي تُرشدني إلى الخصائص الجمالية، والنزعات المُباغتة وكيفية دمج هذه الموتيفات في أعمالي». تركز أوجيه أودوتولا بشكل حصري على استخدام الحبر والرصاص والفحم والباستيل. فعبر هذا الخليط تمكنت من الوصول إلى تصورات ووجهات نظر مغايرة وغير متوقعة، ومثيرة لتساؤل رئيس: «ماذا لو أن النساء هن الإمبريالية الوحيدة عبر التاريخ؟». ما يقودنا إلى تساؤل آخر: ماذا لو أن النساء القويات اللواتي ترسمهن «أودوتولا» كسيِّدات؛ يمتلكن السيادة حقًّا؟
تقول أودوتولا: «كان هدفي الأولي هو أن أحكي قصة كائنين، واحد مخلوق، والآخر مصنوع، كلاهما موجود ضمن نظام يقوم على التشارك في عدد من الصفات الطبقية، ومسؤولية وخطر الحرب، وكيف يخفف هذا التشارك من قسوة حياتهما، ففي نهاية المطاف، سيعبران معًا، وسيقفان معًا من أجل إسقاط النظام، لكنهما
حتمًا سيفشلان».
يظهر التكوين الثنائي في لوحة «This Is How You Were Made; Final Stages,»، عبارة عن أكانكا من الـ«إشو» أحد أفراد حركة تحرير المرأة. وألدو من كوبا، واحدٌ من الرجال المعدّين للعمل في الزراعة والتعدين.
تفوق «كوبا» أعداد الـ«إشو» تمامًا، ولكنهم بوصفهم عبيدًا مسخرين للـ«إشو»، حياتهم ليست ملكهم، بل يعيشون في خوف دائم من أن أسيادهم سوف ينهون خدمتهم في أية لحظة، لأسباب عِدّة. وهكذا تعطينا الصور الثماني الأولى فكرة عما ينطوي عليه ألدو، مثل كل الكوبيين، حيث يُثقَب جسده، وهي عملية ممارسة السيادة، تُنَفَّذُ كصورة أخرى «هذه هي المراحل النهائية لكيفية صناعتك كعبد» بواسطة السادة (إشو)، فأفراد الكوبا تبقى أعينهم منخفضة دائمًا، ويكونون عُرَاة طوال الوقت ومطيعون دائمًا، بينما يقف أحد أفراد الـ«إشو» مثل سبارتانز، ينضح الفرد منهم بالثقة العارمة، وهم يتكئون على أسلحتهم طوال الوقت، ويرتدون ما يريدون، وما يبدو عمليًّا وملائمًا لهذا الطقس. وكحقيقة لكل الكائنات، يبدو وجود «ألدو» الخاص مُلغزًا له هو نفسه. على الرغم من أنه ربما ككائن مضطهد، فوجوده محير أكثر من الطبقة الحاكمة بكثير، التي في أكثر أوقاتها هدوءًا واستقرارًا؛ تميل إلى التفكير في قوتها الخاصة.
في العمل الفني بعنوان «مقدمات: التجسيد المبكر لكوبا» يُعَبَّرُ عن هذا القلق الوجودي من خلال تصوير مساحات الليمنال التي يصعب تحليلها. تأتي كوبا من كونها منطقة بين باردو، وأعماق المناجم، ومستعمرة العقوبات، وسط خطوط ودوائر وموجات، وظلال، التي يصعُب القول بأنها هي الأرض أو السقف أو السماء. إن التناقض الذي نلمحه في «التعليم الحر» لأطفال الـ«إشو» لافت للنظر، وبخاصة الفتيات الصغيرات، حكام المستقبل، وكيف يتجولن في بيئتهن بحرية، تتجلى في ميلهن لملامسة الأرض وفحصها بسهولة داخل محيطهن من دون أدنى شك في هذه الحرية.
وعندما سُئلت أوجيه أودوتولا عن مصادر إلهامها بمجتمع الـ«إشو»، أشارت إلى رؤية كاميليا باجليا: «المجتمع هو نظام من البنى المتوارثة، التي تقلل من سلبيتنا المهينة تجاه الطبيعة». وأشارت أيضًا إلى التصميم الهندسي للأزياء الذي يظهر الانطباع الجامح لـ«الإشو»، تمامًا مثل تصميمات فان هاربر التي تحاكي الطبيعة في الإفصاح عن نفسها بانطلاق وحرية. إنها طرق مختلفة تبرز منها هذه الحساسية المخيفة كنوع من التمظهر بالقوة، من خلال ارتداء الخوذات والدعامات والحرص على اصطحاب الأسلحة، وتدريب الجسد كي يخفي كل علامة تدل على الضعف أو الانهيار.
كآبة مشتركة
ومع ذلك لا تُغفل أوجيه أودوتولا الكآبة المشتركة التي تتخلل العلاقات غير متكافئة القوة. في لوحة «الشكوك المُهملة»، تظهر امرأة من الإشو رابضة على الأرض، طاقمها جانبًا، خوذتها في يدها، تلوح على وجهها أمارات الاضطراب والامتعاض. تُرى فِيمَ تُفَكّر؟ هل بدأت تشك مثل الكثير من المستعمرين قبلها أن العلاقة بين كوبا والإشو ما زالت غير متكافئة وغير آمنة؟
لقد كشف هيغل عن جدلية السيد والعبد، وتناول فرانز فانون، تطبيقات عدة على التفاوتات داخل العبودية والعلاقة الاستعمارية. وبتطبيق مساوٍ لـ«الإشو والكوبا»، يعترف الكوبا بالإشو فقط تحت وطأة العقاب أو الموت. بينما الإشو يعترف بالكوبا بقدر ما يدعم حضورهم كسادة. علاوة على ذلك كما هو الحال في العبودية، كلما زاد اعتماد إشو كطبقة حاكمة على عمل كوبا، زاد اعتمادهم في الواقع على وجود كوبا باستمرار، وكلما زاد فهم كوبا لإبداعهم وفائدتهم تجاه الأرض، يطالبون بأن يُعتَرَف بهم حقًّا. ولكن في هذه الحكاية الحزينة عن سوء الإدراك المتبادل، تؤدي العلاقة السرية التي نراها تتطور بين أكانكا من الإشو وألدو من كوبا، إلى خلق نوع ثالث من الوجود (صُوِّرَ، في هذا العالم، من خلال اللعق، فالكوبا غير قادرين على الإنجاب بطريقة طبيعية). وفي ظروف غير متوقعة، قد يكون الجنين توأمًا، نصف إشو، ونصف كوبا، كنتاج عاطفة مدمرة!
وتضفي هذه الفكرة عن الكائنات المستقبلية، تعبيرًا بصريًّا لأفكار فانون عن التهجين والاختلاط بين السادة والعبيد، وتقدم خروجًا واعدًا من العالم المانيشي (ديانة تدعو لعدم الإنجاب- المترجم). ولكن التهجين وحده غير كافٍ، فلا يزال القانون -الظالم- نصف أعمى، وضعه الغُزاة القدامى. وفي سلسلة متلاحقة من الصور؛ نرى القانون يسحق ألدو، كأنها شخصية بلا حقوق، لا تُنقذ بالحب وحده، لتتعلم درسًا مهمًّا: الاعتراف بالآخر ليس مجرد هدية يقدمها الطرف الآخر. الحب ليس قانونًا. والنظام برمته؛ يجب أن يعترف بالجميع.
وبدلًا من ذلك، فإن النظام غافلٌ طوال الوقت، إنه دائمًا يواجه البديل الآخر. في لوحة «الطبقة الحاكمة»، تتطلع أكانكا إلى نقطة بعيدة من مستعمرات شعبها، بينما يواجه ألدو المشهد بكل قسوة، حيث يخترقُ سلكٌ ثقيلٌ كتفه، ولا نعلم ما وظيفة هذا السلك. وفي لوحة «طقوس الزواج»، نرى العديد من أفراد كوبا عراة أكثر من أي وقت مضى. يثنون أجسادهم في تكوينات مدهشة، كل ذلك من دون أن يلمس أحدهم الآخر. وربما يكون النشاط الجنسي بينهم متوقفًا على أمور نفسية أو افتراضية.
لا يوجد «إشو» في الوقت الحاضر، لكننا نستطيع أن نفترض أنهم يعرفون القليل عن طقوس الزواج لأتباعهم. لماذا يتخيلون وجود ثقافة معقدة داخل مجتمع يرفضون الاعتراف باستقلاله. في الحقيقة، القوة لا ترى سوى القليل.
كان لأوجيه أودوتولا نفسها سبب وجيه لملاحظة هذا التناقض عندما صادفت نقطة مرجعية حيوية أخرى لـ«نظرية التعويض». وهي دفعة من المسلسل الإذاعي لهيئة الإذاعة البريطانية بعنوان «تاريخ العالم في مئة عام». تمثل الحلقة الواحدة سؤالًا يتعلق بمثال من أعظم الكنوز الفنية في نيجيريا. إنها رؤوس إيفي الأثرية، التي اكتشفت أول مرة في عام 1910م على يد الأنثروبولوجي ليو فوربينيوس، الذي اعتقد أنها حتمًا من آثار الإغريق «الأطلنطيين»، فقد بدا من البديهي لـ«فوربينيوس» أن هذا الأثر الرائع والعظيم لا يمكن أن يكون من نتاج الأفارقة الهمجيين البربريين وعلى أراضيهم الإفريقية أيضًا؟ هذا أمرٌ عجيب!
تُشير الدراسات الحديثة إلى أن رؤوس الإيف الأثرية، قد أنشئت في القرن الخامس عشر تقريبًا، وفي المكان الذي وُجدت فيه بالضبط. وبالنسبة لأوجيه أودوتولا أن هذا استنتاجٌ عبثي، فهذا التصور البائس ليس مجرد خطأ عابر عند التعامل مع الماضي، ولكنه أزمة مستمرة طوال الوقت، من خلال سؤال مُلِحّ: كيف يمكن منح هذا الخيال النابض عالمًا ألمانيًّا مُضلِّلًا، لدرجة الإهانة في تلفيق مثل هذه الحكاية. ومع ذلك ما زال يُنظَر إلى إبداعاتنا اليوم وإبداعات أجدادنا، بمثل هذا النطاق المحدود والمعقد؟
السكينة وعدم التفكير
أثناء الاستماع إلى الحلقة، لم يدهشني المنظور العنصري القبيح فقط الذي يفترض عدم القدرة في الآخر طوال الوقت؛ ولكن أدهشني أيضًا طريقة التعويض المضادة التي عرضها الشاعر والروائي النيجيري «بين أوكري» في مداخلته: «حضور السكينة في عمل فني يتحدث عن حضارة عظيمة؛ لأنه لا يمكنك الحصول على السكينة أو الأمان من دون التفكير، لا يمكنك أن تهدأ داخليًّا من دون أن تطرح أسئلة عظيمة حول موقعك في هذا الكون الفسيح. والبحث عن الإجابات بدرجات مرضية، هذا بالنسبة لي هو ما تعنيه الحضارة».
وهكذا بالطبع، فمن الطبيعي أن نكون آخرين أو تابعين في الخيال الاستعماري الناقص. نحن نريد أن ندافع عن أنفسنا ضد اتهامات البربرية والهمجية، بادعاء ما نسميه بالتحضر. على الرغم من أنني لا أستطيع المساعدة، فإنني أظل لا يسعني إلا أن أذكر نفسي دائمًا وفي كل مكان بالاستياء مما يسمى بالحضارة. وأكثر منهم المتحضرون أنفسهم، أولئك الأشخاص الذين لا يرضون عنك ولا بوجودك دائمًا إلا إذا أصبحت على شاكلتهم.
عندما ادّعى والتر بنيامين أن كل وثيقة حضارية هي في الوقت نفسه وثيقة بربرية؛ لم يقدم أي استثناءات، ومما يؤلم الاعتراف به، أن المجتمع الذي صنع رؤساء «إيف» الرائع؛ أثبت أيضًا قدرته وتسلطه على غارات العبيد، وبيع إخوانهم الأفارقة للعبودية لدى الأوربيين، إنها حقيقة تاريخية لا يُمكن نكرانها، تمامًا مثل الثقافة نفسها التي أنتجت كونستابل الشركة الملكية الإفريقية، التي أصدرت تراخيص تجارة الرقيق للتجار والوسطاء في شركة عالمية مزدهرة. عندما نعتقد أننا متحضرون تمامًا، فعادةً ما يكون ذلك لأن ادعاءات الآخرين غير مرئية لنا.
الانعكاسات الفطرية لرؤية أوجيه أودوتولا البصرية تعمل مثل عمليات التفكير، في تسلسل منطقي ومجرد. فإنه أمر غير شائع أن تُوضَع امرأة سوداء كسيّدة مستبدّة، إنها تقطع لوهلة تركيزنا على الخطايا الفردية أو الصور النمطية: مراقب المسيسيبي، تاجر العبيد البريطاني، مهاجم العبيد في غرب إفريقيا. ما يعيدنا إلى الخلف قليلًا، إلى ما قبل تمكين الأنظمة. لقد كانت الحياة نظامًا عالميًّا من العنصرية، يحكمها رأس المال المستغل – مقترنًا بفهم ضار وغير متماثل للموارد البشرية والقيمة- وهو الذي سمح بحدوث التجارة في البشر، وعلى الرغم من أن هذه التجارة لم تعد موجودة في شكلها السابق، فإن العديد من عاداتها ما زالت مختزنة في العقل.
وهو ما تقدمه لنا «نظرية التعويض»، عادة التفكير التي تعترف ببعض الكائنات وتتجاهل بعضًا آخرَ كعنصر في منظر طبيعي، ومِن ثَمّ فالأفضل تأكيد طبيعتها الشاملة. هذا النظام هو الهواء الذي يتنفسه ألدو وأكانكا، والأجساد التي يوجدون فيها، والأرض التي يسيرون عليها؛ بالنسبة إلى أودوتولا، يُعبَّر عنه بخط فحم واحد لا ينتهي، تقول «أودوتولا»: الغرض من بدء القصة من منظور ألدو، ذلك الشخص الخاضع للقهر، مقصود منه إظهار مدى سهولة تلقين المرء عبوديته كعقيدة، نحن الآن في مأزق منهجي بين ألدو وأكانكا، لا يوجد فاصل واضح بين الخير والشر فيما يتعلق بعالم كل منهما. لنركز قليلًا سنجد أن النظام الذي تتعايش فيه هذه القبائل سيتضح رويدًا، من خلال ملاحظة التمويجات المخططة، مع الأشكال الحرفية للخطوط في جميع أنحاء الصور، التي تمثل كيف يكون النظام حاضرًا وما حقيقة شعورنا به، ولكن هذا ما لم يُذكَر ولن يُذكَر صراحة، فالحقيقة الوحيدة التي لا بد أن تعرفها هي النظام فقط!
هل يُمكن تعرية مثل هذه الأنظمة؟ طبقًا لأودري لورد، أن ذلك لن يتم باستخدام أدوات السيادة والعنف. ومن هنا تُقدم نظرية التعويض إمكانات بديلة. حيثُ للحب مفهوم جذري، بين النساء، أو بين الرجال، أو بين النساء والرجال، أو بين البشري وما هو غير بشري؛ لأنه يجبرنا على الاعتراف الكامل بالآخر، فالجنس أمرٌ فطري، كما السمع والبصر، وللأسباب نفسها التي نعرفها كما نعرفُ أننا لا نريد أن نكون ضحايا للتاريخ، ونعرفُ أننا لا نريد أن نكون عبيدًا.
حسابات إنسانية
لكن هل نحن نريد حقًّا أن نكون سادة؟ نتصرف كالسادة؟ هل سألت نفسك كيف يتصرفُ السادة؟ ما الذي تتوقع أن يدركوه عن العالم؟ هل لأننا سادة نستحق بجدارة ما يستحقه أي شخص شريف وطاهر؟ هل لأن لدينا القدرة والقوة لنتخذ قراراتنا بأنفسنا ألا ندرج الآخرين في حساباتنا الإنسانية؟ هل نحن راضون بأن كل هجومنا على (الآخر) بمنزلة إعلان أو تصريح بالسماح لهم للتقليل الإنساني من شأننا؟
لو أن استجابتنا الأولى لهذه اللوحات السوداء جاءت على النحو الآتي: السيدات فيهن بعضٌ من التباين: زعيمات قبيلة، عاهرات. حسنًا لا أحد يمكنه أن ينكر اللذة العميقة الناتجة عن الأدوار المقلوبة، من خلال سيناريو معكوس، لكن عندما نتحدث بناءً على ذلك؛ يجب أن نعترف أننا لن نستطيع تقديم مطالبة متزامنة بإخفاء أدوات السيادة من اللوحة. لم يكن حلم فرانز فانون أن يستبدل بقوة ظالمة قوة أخرى غير عادلة. لقد كانت أفكاره إنسانية وثورية، لا استيعابية ولا شيفونية، حيث يُفَكَّكُ المنطق المانوي للسيطرة/ الخضوع كما ينطبق على الناس بشكل نهائي وكامل، ويُعتَرَف بحق كل كائن في كرامته. هذا هو إنهاء الاستعمار.
إن جوهر هذه الحكاية البصرية المعقدة يكمُن في أن كل شيء يمكننا أن نراه عبر الجدران هو أركيولوجيا، كأنها حفريات في رواسب من الصخر الزيتي الأسود، حيثُ قررت أوجيه أودوتولا أن تلعب دور الباحث كعالم أنثروبولوجيا.
لقد أدركتُ أن العمل على هذه الوثائقيات لنظام متلاشٍ؛ علمتني كيف أحول مأزقي الخاص في التعامل مع رمزيات صخور ريومي ونيجيريا من قبل الميلاد، وضغط هذا الخليط بشغف وإجلائه وإظهاره فوق الأرض، إنها الطريقة نفسها التي قُرئت بها صخور الجبال في جورجيا أو جبال راشمور، أو كالعديد من الإستالينات العملاقة التي سيطرت ذات مرة على الاتحاد السوفييتي، كمثال على مشاعر التعاطف والخداع التي تقرها الذاكرة من دون أن نشعر.
ولكنني اكتشفتُ أن الفنانة نفسها -أودوتولا- مدفوعة للتعامل مع صخور أكانكا وألدو بتيار من الصدق والوفاء. هكذا تحدثنا أعمالها عن الأفراد المختلفين أو المتناقضين عندما يجمعهما أمل واحد في أن يحققا ثورة لاسترداد حريتهم، إذا تمكن كل منهم في التعرف إلى الآخر، والتصالح مع ذاته أولًا، ومقاومة تحديات راهنة ضد نظام أسّس لفصل بعضهما عن بعض، وبصرف النظر عن أي عوامل خارجية أخرى، فعلى هذه الطريقة وبشكل كبير قد ينجح الأمر.