فريدريك باكمان.. الكاتب الأكثر سرّية في السويد
- إيلين لوكاسي وتوفه كولينبرغ – ترجمة: فجر يعقوب – كاتب فلسطيني يقيم في أستوكهولم | نوفمبر 1, 2020
لقد وصل الكاتب والروائي السويدي فريدريك باكمان إلى عدد كبير لا يستهان به من القرّاء برواياته الناجحة، ويُعد بحق، بحسب بعض النقاد السويديين أحد أكثر الكتاب السويديين سرًّا وغموضًا في بلاده. من هو فريدريك باكمان بالضبط؟!
فريدريك باكمان الذي أنجز في العام الماضي رواية جديدة بعنوان «بشرٌ قلقون»، هو أحد أكثر الكتّاب المحبوبين في بلاده، وقد احتل قلوب القراء مع روايات مثل: «رجل يدعى أوفه» و«بريت ماري كان هنا» و«بيورنستاند».
في الوقت نفسه باكمان هو أحد أكثر المؤلفين المجهولين؛ إذ نادرًا ما يجري لقاءات صحافية، ولا يتحدث كثيرًا عن مؤلفاته وكتاباته، وبالرغم من النجاح الباهر الذي حظي به في السويد، وبقية الدول الإسكندنافية، فإنه يعيش حياة طبيعية جدًّا مع زوجته وطفليه في أستوكهولم. يجلس كل يوم في مكتبه البسيط وسط المدينة ويكتب، «أنا أسعى لأعيش حياة مملة قدر الإمكان. يقول أطفالي إن والدهم يعمل في النقر على جهاز الكومبيوتر، وعندما يسأل الناس عما إذا كنت أريد أن أذهب في رحلات، أو في حفلات جماعية، تجيب زوجتي: آسفة، ولكن فريدريك لا يعتقد أنه من الممتع قضاء وقت ممتع. أتفهمونني؟». يقول باكمان خلال أحاديثه الصيفية معلقًا على مثل هذه الدعوات.
لقد عاش في طفولته حياة قلقة جدًّا، وربما يمكن تفسير عدم تمكنه من التعود –وهو لا يريد أن يعتاد كما يقول– على الحياة كمؤلف مشهور. يضيف في إحدى المقابلات النادرة التي أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز»: «يجب أن تكتب، كما لو أنك تكتب مثل عشرين شخصًا، وإلا ستصاب بالذعر من هذه الحياة».
ولد فريدريك باكمان سنة 1981م في العاصمة أستوكهولم، وبعد وقت قصير انتقلت عائلته إلى مدينة هيلسينبوري حيث ترعرع هناك. عملت أمه مدرّسة، وأبوه محاميًا، ووفقًا لبياناته الشخصية، فقد عانى فريدريك في طفولته صعوبةً في تكوين الصداقات مثل الأطفال العاديين، «لقد كنت أعاني القلق بشكل فظيع وأنا طفل». يقول في حديث لصحيفة «هيلسينبوري داغبلاد»: إنه كان يتجول كابن سبع سنوات، ويشجع على الموت في أحاديثه الطفولية. قادته والدته إلى جميع المكتبات في مقاطعة سكونة (جنوبي السويد)، وقرأ فيها مجموعات هائلة من الكتب المصورة، «أتذكر كيف تساءل الكبار عما إذا كان يجب عليَّ قراءة هذه الأشياء حقًّا، وليس الكتب بدلًا من ذلك. كانت أمي ترد عليهم بقولها: «يمكنه قراءة ما يشاء طالما أنه يقرأ». وأعتقد أن أمي كانت على حق تمامًا».
أنا وحش عاطفي
بعد المدرسة الثانوية قاد فريدريك باكمان شاحنة، ودرس العلوم الدينية، ثم اختط لنفسه طريقًا خاصًّا به، قبل أن تظهر أُولى رواياته بعنوان «رجل يدعى أوفه»، الرواية التي بِيعَ منها مليونان ونصف مليون نسخة، وجرى تصويرها في فِلْم روائي طويل لقي نجاحًا هائلًا بدوره (إخراج هانز هولم).
إذن أين يكمن السر في هذا النجاح؟ قصص قوية بشكل لا يثير الشك، وفيها اهتمام كبير بالحياة العاطفية للناس. هذا أمر مفروغ منه في مسيرة باكمان الروائية. «أريد أن يهتم القراء بالناس الذين أكتب عنهم. هكذا يمكن للمرء أن يتدخل ويتجذر في المشاعر والعواطف التي أسردها في رواياتي. هنا يكمن اهتمامي الأساسي بالكتابة. أنا شخص أشعر بالأسف والأسى حيال كل شيء مررت به أثناء مراهقتي. لم أتمكن قط من أن أتعلم كيف يمكنني أن أتحكم في نفسي، أو في الطريقة التي تُعَدُّ جزءًا من مرحلة النمو»، كما يقول لصحيفة (داغنس أوندستري). «يجب أن أشعر بشيء. كل شيء أقوم به يجب أن يقوم على ذلك». يقول باكمان في لقاء مع «نحن نقرأ»: «أنا وحش عاطفي، وهذا يصعب عليَّ، ويجعل من المستحيل التشارك مع الآخرين
لفترات طويلة».
باكمان لا يحفر حيث يقف!
ثمة سبب آخر للتعلق بكتبه، وهو أنه لا يحفر حيث يقف. بدلًا من الكتابة عن 30 شخصًا إضافيًّا في العالم الداخلي لمدينة أستوكهولم (ليس لدي أي شيء مشترك معهم) تراه يكتب عن الناس من جميع الأعمار من مختلف أنحاء السويد عن طريق اللقاء بهم. «روايتي الأولى عن رجل يبلغ 59 عامًا، والثانية عن فتاة تبلغ من العمر 7 سنوات، والثالثة عن امرأة تبلغ من العمر 63 سنة، والرابعة عن المراهقين بشكل رئيس. في المقام الأول أنا مهتم بالبشر الذين تزيد أعمارهم على 55 عامًا، أو تقل عن 10 أعوام، لأنهم أناس «يتغوطون» إلى حد كبير في مباني المجتمع». يضيف باكمان في ذلك الحوار.
وعلى الرغم من غرابة تعبيره عن شخصياته الأثيرة، فإن فريدريك باكمان لا يغفل الجوانب القاسية في هذه الشخصيات، ولكنه يقدمها مع كثير من الحب. «قال أحد الأصدقاء هذا: «في الفصل الأول تقدم كل سمات الشخصية المزعجة في أبطالك ثم تنفق 350 صفحة للدفاع عنهم». هذا صحيح على الأرجح. هذا ما فعله بالطبع في روايته الأخيرة «بشر قلقون» التي يصفها بأنها الرواية الأغرب في مسيرته الأدبية حتى الآن. كوميديا فوضوية عن دراما الرهائن في الشقق السكنية من خلال سلسلة لقاءات مع الشهود المختلين. هنا يتطور ذلك اللغز الكلاسيكي حول هذه الأسئلة: «كيف تمكَّن اللص من الهرب؟ لماذا يبدو الجميع غاضبين جدًّا؟ وما الخطأ في الناس هذه الأيام؟». حقًّا يمكنك بوصفك قارئًا أن تسأل بنفسك عن ذلك. ما نعرفه أن فريدريك باكمان يحب الأشخاص غير الأَكْفَاء اجتماعيًّا، وهو يجعلنا نقوم بالشيء نفسه، كما لو أنه ينوي الاقتصاص من قرَّائه في مكان ما.
رجل يدعى أوفه: المرء على قماش أبيض
فريدريك باكمان مهتم بالرجال الذين سبقوه إلى هذا العالم. نوع الرجال الذين يعرفون كيف يمكنهم إصلاح الأشياء. ويمكن القول: النوع الذي يقوم بالفعل، ولا يكتفي بالكلام. باكمان يصور هذه النوعية من الرجال بقليل من ومضات الحنين، وهو يشعر بالحسد تجاههم إلى حد ما؛ لأنهم يمتلكون أشياء جاهزة للتفضيل.
تدور أحداث القصة في أحد أكثر الأماكن النموذجية في السويد. هنا يعيش رجل في نهاية عقده الخامس يدعى أوفه. إنه من الرعيل القديم الذي يعرف معنى أن تكون محقًّا، وتتمسك بالشيء الذي تختاره عن جدارة بغض النظر عن سيارة أو وجبة عشاء. أوفه يمكنه أن يقرّع من يشاء في حيزه السكني بمواقفه المبدئية تجاه كل شيء في الحياة. المواقف الغريبة التي تكاد لا تنتهي، أو ليس لها حدود عند غضبه، ورغبته المحمومة ببسط النظام الاجتماعي على مدّ ناظريه.
لا يرغب أوفه الذي يخلق لنفسه ألف قضية في اليوم الواحد خرق النظام الذي يعيش ضمن حدوده، لكنه سيشعر بالغضب والانزعاج مع انتقال عائلة جديدة من المهاجرين إلى المنزل المجاور له. ثمة مفارقة كبرى تكمن هنا أن الجار السويدي الشاب وزوجته الإيرانية وأطفالهما سوف يعتمدون في تسيير شؤون الحياة اليومية بالاعتماد على أوفه وذكرى زوجته التي قضت نحبها في حادث مروري مروع في إسبانيا.
سيبدأ أوفه في خسارة عزلته أولًا مع تمدد العائلة «الهجينة» إلى خارج حدود المنزل الجديد، ولن يصبح الرجل نفسه بعد الآن، الرجل العابس الذي يكرر محاولات انتحاره من دون جدوى، الذي يغضب من جيرانه والمتحرشين بالمكان لأبسط الأسباب. وعلى الرغم من أن مبادئ أوفه الصارمة تشكل ازعاجًا لكل من يلتقيه من الناس العاديين، فإن فريدريك باكمان ينقذه من مآزقه التي تتوسع تلقائيًّا بحكم تغيّر العالم المحيط به مرارًا وتكرارًا. عناده لن يشكل سقوطًا له، ولكنه يدفعه لأن يتغاضى عن ولعه بالحياة حتى تتراكم الأشياء عند قدميه المترنحتين بتأثير محاولات الانتحار الفاشلة.
قد يبدو التعريف بأوفه مبتذلًا بعض الشيء، ولكن تصويره على هذا النحو قد يبدو رائعًا أيضًا، حتى يمكن أن يذرف القارئ دمعة متعاطفة في النهاية؛ لأن ما يكمن في التدفق الحقيقي للمصاير البشرية التي أحاط بها على الدوام هي ما تدفع به لانتهاج هذه الصرامة في حياته الرهيبة التي عاشها بشغف الإلمام بالتفاصيل. إن القليل من السعادة الصادقة القديمة أمر جيد، فالمرء يبدو هنا قادرًا على استعادة بعض الأشياء من الإيمان بالإنسانية نفسها.
«أوفه اسم رجل يبلغ من العمر 59 عامًا. يجب ألّا يكبر، بل أن يكتفي بأسباب العيش الغامضة. لقد قرر أوفه أن يموت اليوم» ص 5. كما أسلفنا، فإن بطل الرواية يملك طباعًا صعبة جدًّا غير متكيّفة مع أحد. وهو يعيش في بيت ضمَّه لزوجته الراحلة سونيا، وقط أليف لا يطيقه أوفه اسمه أرنست. كان يخطط ليصبح رجلًا عسكريًّا في بداية حياته، ولكن الأطباء اكتشفوا أن لديه عيبًا خلقيًّا في القلب في سن مبكرة؛ لذلك بدأ العمل في تنظيف القطارات ودراسة الهندسة حيث التقى زوجته سونيا، وبعد وفاتها في الحادثة المرورية الرهيبة انقلبت حياته رأسًا على عقب، وأصبح شخصًا مختلفًا. انهار عالمه بالكامل، وكان من المستحيل إعادة بنائه. لقد أصبح يرى كل شيء سلبيًّا ومفرطًا في سوداويته.
يوصف أوفه بأنه عدواني، شرس الطباع عندما يتعلق الأمر بقواعد الصواب والخطأ. يشعر بالوحدة والقلق والاكتئاب الحاد لمفارقته أحبائه، وبسبب من ذلك يشعر بأنه لا معنى للحياة التي يعيشها، ومعظم أسئلته التي تتهافت من حوله تبدو على شاكلة «لماذا نعيش؟ وما نوع الحياة التي نعيشها؟ وهي الأسئلة التي تراوده وتمهّد الطريق لمحاولات انتحاره الفاشلة من دون جدوى. باختصار: أوفه لا يؤمن بالأحلام؛ لأنه لا يمكن له أن يربح منها شيئًا!