د.هدى عيد
تكشف مجموعة قصص النّاقد والأديب د. عبد المجيد زراقط عن عوالمَ مضمرة، في فضاءات قصصه الّتي توالَت، في مجموعته الجديدة ( جذور فوق التّراب وقصص أخرى)، الصّادرة عن دار روافد/ بيروت، ما بين طويلة وقصيرة، حاملةً إمكانات إطلالات على فضاءاتٍ أكثر اتّساعاً، من خلال النّسيج الّلغويّ الّذي أنتجها، ومن خلال الرّؤية الّتي كمنت خلفها.
يبدو الكاتب، في قصصه، شديد الحرص على فعل الاجتزاء المدروس لمساحات بعينها، محدّدة ودقيقة يبني قولَه بوساطتها، موهماً قارئه باكتمال عالم قصّه النّسبي؛ فعالم القصّ في هذا النّوع الفنّي من الكتابة أي القصّة القصيرة، محكوم عادةً بقصر، أو بطول المساحة الّلغويّة، وبالمستوى الّلغويّ الّذي يوجّه التّخييليّ المولِّد عنها، متحكّماً تالياً بقدرته على الفعل التّجاوزيّ لعامل الزّمن الّذي يحتفظ هو الآخر بامتيازالقدرة على القفز وعلى التّخطّي.
يمكن لزمن القصّ في مثل هذا النّوع الأدبيّ، أن يختزل لحظةً، أو ساعة، وهذا ما تكشفه قراءة أقصوصة ” حديث يطول” :” كان الّليل في منتصفه، عندما خرج شيخ البصّاصين، ساهر اليقظان من مركز عمله، وهو يفكّر في أمر خطير”، ويمكن له أن يطاول ساعاتٍ وأياماً:” لم يهتدِ إلى قرار في شأنه، منذ أيّام وهو يفكّر، ولم يبدُ له حلّ…”[1] ، وقد يطاول كذلك سنوات :”يحدث هذا في المشاريع جميعها كلّ سنة. وذات سنة كانت المشاريع كثيرة، والمبالغ كبيرة”[2].
يؤدّي العنوان الّذي يُعَدُّ عتَبة نصّيّة ذاتَ دلالة ( والدّلالة هي أن يلزم من العلم بالشّيء علم بشيء آخر، والشّيءُ الأوّلُ هو الدّال والثّاني هو المدلول)[3]، وبعدٍ إيحائيّين، دوراً مهماً في عملية تأويل هذه القصّة واختزالها. فالعنوان يقوم بتعيّين طبيعة النّص الذي يَسمه، كما أنه يشكّل صلة الاتّصال الأولى بين النّصّ والمتلقّي، من خلال ما يمثّله من مفتاح تأويليّ له، كما يقول أمبرتو إيكو- Umberto Eco، إذ هو : “يربط القارئ بنسيج النّصّ الداخليّ والخارجيّ ربطاً يجعل من العنوان جسراً يمرّ عليه”[4].
يبرزُ عنوان هذه الأقصوصة ” حديثٌ يطول”، من حيث المظهر التّركيبيّ، قصيراً مختزلاً مكثّفاً. بنية هذه العبارة بنيةٌ جزئيّة التّركيب، قامت على الحذف لركن من ركنيها الأساسيّين. إنّه عبارة عن جملة إسميّة تألّفت من: المفردة “حديث” ( اسم جنس نكرة غير موصوفة) + يطول ( جملة فعليّة مضارعيّة)، على اعتبار كون الاسم الأوّل منهما خبراً لمبتداً محذوف تقديره “هو” أو “هذا”. تصير الجملة المضارعيّة، والحالة هذه، نعتاً للخبر حديث، فيكون ناتج التّأويل = هو حديث طويل، أو هذا حديث يطول؛ وكلتاهما أيّ الجملة ( يطول)، أو الصّفة المشبّهة المضمرة فيها، تحملان معنى الزّمن الممتدّ لهذا الحديث، ما يبرز مساحة عاكسة استمرار تكرار الفعل، واتّساع المدى المتاح له. وكأنّ الكاتب بهذا التّركيب الّلغويّ يوحي لقارئ القصّة، أي المتلقّي أو المستقبل للمنتج الفنّيّ الّذي بين يديه، أنّ كلّ ما سيقوله لن يكفي، وأنّ عليه هو أن يستكمل مقولَ القول، أو كفاية الحديث مثيراً بذلك فضوله، محفّزاً أسئلةً في ذهنه، عن هذا الحديث الّذي لن تكفي مساحة زمنيّة قليلة ولغويّة محدودة، لاستيعاب مراميه.
تتيح قراءة هذه القصّة القصيرة إيراد الحكاية البسيطة Histoire ، أي مادّة الحكي وموضوعه فيها، قبل عبورها في قناة الرّاوي إلى المرويّ له، وفق الشّكل الآتي: “اكتشاف شيخ الجواسيس هوّية المحسن الكبير صائب الفلحان، في إثر قرار ذلك الأخير القيام بأداء فريضة الحجّ إلى بيت الله الحرام، وحيرته حيال مسألة إبلاغ السّلطان وأركان سلطته بحقيقة الرّجل/ الحاجّ رغبةً، في خدمة السّلطان، وسعياً مضمراً منه إلى نيل الجائزة الكبرى المعروضة لقاء القبض، على ذلك الّلصّ الفارّ”.
أمّا المتتاليات السّرديّة، في النّصّ المسرود، فتردُ تباعاً وفق الشّكل الآتي:
1- خروج شيخ البصّاصين من عمله ليلاً قلقاً مرتبكاً.
2- استعادته ذهنيّاً حالة القلق الّتي انتابته، مدّة أسبوع كامل ( ليلاً نهاراً)، حيال المسألة الطّارئة والخطيرة الّتي اكتشفها.
3- توجّهه، بعد طول حيرة وتفكّر، إلى منزل الشّيخ الغفاري.
4- وصوله إلى منزل الشيخ المريح، وتبسّط الآخر في الحديث معه.
5- جريانُ حوار بين الشّخصيّتين، يكشف الشّيخ بوساطته، طبيعةَ عمل البصّاص، ويفضح افتراءَه الدّائم/ ومَن يقفون خلفه، على العباد، لا سيّما المساكين منهم.
6- إقرار البصّاص بحقيقة اتّهامات الشّيخ وبصدقيّتها.
7- تجلّي قدرة الشّيخ المثقّف على النّفاذ إلى أعماق جليسه، وعلى فضح أعماق الواقع السّلطويّ الفاسد الّذي يمثّله.
8- كشف سبب القلق الدّافع إلى الزّيارة المتمثّل في انكشاف حقيقة شخصيّة صائب الفلحان من البصّاص = لصّ سابق هارب من البلاد، مطلوب من أركان السّلطنة، عائد منذ مدّة إلى وطنه، يحيا فيه متخفّياً ملتفّاً بلباس مُحسن كثير العطايا، جزيل الخدمات يغدقها على الفقراء والمحتاجين.
9- حلُّ مأزوميّة ساهر اليقظان/ البصّاص متمثّلاً في أخذه بنصيحة الشّيخ، ومفادها: تجاهل الحقيقة المكتشفة لهذا الّلصّ الّذي استيقظ ضميره، وفي ذلك تمايزٌ له عن السّلطة الآثمة الّتي تلاحقه.
10 – عودة البصّاص عن عزمه القبضَ على الّلصّ سابقاً/ المحسن حاضراً.
يتولّى الرّاوي العليم الحكي في بداية الأقصوصة، ثمّ يجري الكلام على لسانَي المتحاورين.
يتخفّى الكاتب/ الرّاوي في النّصّ القصصيّ، فنصغي إليه من خلال هاتين الشّخصتيّتين الّلتين تخيّرهما متناقضتين: – الشّيخ ( رجل الدّين الحكيم) – الجاسوس المشهور (لصّ السّلطة وعينها الّتي لا تغفل)، ماتحاً من هذا التّناقض حيويّة يبعثها في الكلام / الحوار الدّائر قصيراً وكاشفاً بينهما.
في تناسل هذا الحوار تتولّد بنية القصّة، وتحقّق نطقها الإيديولوجيّ في المجتمع؛ إيديولوجيّ وجد فرصته للقول، عبر فنيّة السّرد، ومن خلل الإنجاز بوساطة الّلعبة اللّغويّة الّتي هي الشّيء الوحيد المقبول في المجتمع، فهي :” إنجازٌ يفرض على القارئ أن يقحم نفسه بوصفه ممثّلاً اجتماعيّاً”[5].
تكشف القصّة إيديولوجيا كاتبها المتسائل عن معنى الأشياء والحوادث والأفعال، كأنّما يؤكّد قصُّهُ الفنّيّ قولَ رولان بارت : ” إنّ الّلغة وحدها أيديولوجيا، وإنّ الكاتب وهو يسجن نفسه داخل” كيف نكتب؟” ينتهي إلى معانقة السّؤال المفتوح بامتياز: لماذا العالم؟ وما معنى الأشياء؟”[6]. فالكاتب يخلق لعبته ليصوغ الوهم، لكنّه الوهم السّاعي إلى التّجذّر في الواقع، وإلى فضح الحقيقة البسيطة المفجعة في آن؛ الحقيقة المتمثّلة في كون السّلطة تسلب مواطنيها أموالهم وأعمارهم :” كلاهما سارق، لكن ألا ترى صائباً سرق مالاً مسروقاً، وأعاده إلى أصحابه”[7]، وفي السّؤال إدانة لا تنتظر الجواب.
أمّا المكان الّذي ُعدُّه غاستون باشلارGaston Bachelard[8]:” ثروة الوجود المتخيّل”[9]، فينتظم في هذه الأقصوصة، في دائرتين محلّيتين صغريين. يُكتفى بذكر المكان الأوّل منهما، وهو مركزعمل البصّاص: “خرج من مركز عمله”. يغيب وصف تفاصيله ( ربّما لنمطيّته) فيبقى غائمَ الملامح، بينما يستغلّ الكاتب مؤشّرات المكان الثّاني، منزل الشّيخ، للتّدليل على نفسيّة ساكنه وطبيعة مسلكه.
يبرز بيت الشّيخ الغفاري منزلاً متواضعاً مشعّاً:” بيت صغير يتألّف من غرفة واحدة ومرافقها… البيت مضاء، والباب الخشبيّ مفتوح…الغرفة بيضاء واسعة يضيئها سراج كبير… الشّيخ يجلس وراء طاولة ملأى بصفوف الكتب “[10]، وصفٌ يمكّن الكاتب من إقامة علاقة وشائجيّة بينه، وبين شخصيّة الشّيخ ساكنِه؛ شخصيّة واثقة منشرحة، حكيمة، وقادرة على إصدار الأحكام المنطقيّة الواضحة الّتي تدفع الآخرين إلى تبنّيها.
يندرج إيراد أسماء مجموعة الأماكن الأخرى، في السّياق السّرديّ، العائدة ملكيّتها إلى الشّخصيّة المتّهمة ” صائب”، وهي:” مبرّته المخصّصة للأيتام- مؤسّسته لتعليم أبناء الفقراء المتفوّقين- مؤسّسته للعناية بالمرضى والمعوزين- محلاّته وبساتينه المخصّصة أرباحها لهذه المؤسّسات”[11]، ضمن سياق الوصف الدّال المظهّر، لأعمال الشّخصيّة التّكفيريّة عن ذنوب صاحبها سابقاً.
وبما أنّ الشّخصيّات ليست مجرّد صور لأشخاص مرجعيّين، بل هي عملية بناء وتكوين بوسائط تقنيّة تقوم في النّصّ القصصيّ بمهمة الإحالة، عند القراءة، على عالم الواقع المرجعيّ، بل هي العوامل كما صنّفها غريماس[12] وفقَ ما تفعل، مطلقاً عليها لفظ العامل حاسباً أنّ: ” العوامل هي الشّخصيّات منظوراً إليها من جهة أدوارها السّرديّة ( وظائفها، دوائر فعلها)، وعلاقاتها بعضها ببعض “[13]، فسنتنبّه كقرّاء إلى كون الكاتب يتخيّر في قصّته أسماء دالّة، يجيد توظيفها فنّيّاً في سعي منه إلى تحقيق تكامل العالم المتخيّل، وإلى جعله قادراً على الإيحاء بما هو أوسع منه، وأشمل.
بذلك يصبح هذا الفنّيّ التّخييليّ، حيث اختلاط الوهميّ بالحقيقيّ، قادراً على إحالة القارئ على واقعيّ غنيّ بالدّلالة، ما يوفّر للنّصّ، عبر انفتاح زمن القصّ: الزّمن /الماضي البعيد المؤسّس للحكم الظّالم التّجاوزيّ لحقوق المواطن، ولإنسانيّة المواطن، قدرة القفز إلى الزّمن/ الحاضر المُدان. تعزّز لعبة التّسميات سعيَ الكاتب هذا، كتسمية مهنة الشّخصيّة الرّئيسة الأولى ” شيخ البصّاصيّن”، تسمية الشّخصيّة الرّئيسة الثّانية “الشّيخ الغفاري” ( استدعاء لشخصيّة أبي ذر الغفاري)، بالإضافة إلى توظيفه صيغ أسماء الشّخصيّات الأخرى الواردة في السّياق: ساهر اليقظان- صائب الفلحان- فاتح الرّبحان السّلطان- السّلطنة… فتمكّنه من توليد الصّبغةَ التّاريخيّة المتعمّدة في القصّة، لفتح زمن النّصّ كما أسلفت، ولتصوير فداحة “طول وامتداد” مسار هذا السّلوك الإنسانيّ المتّسم بالفساد، وتجذّر ممارساته، وقدرتها الرّاسخة على العبور من الزّمن الماضي الغابر، إلى الحاضر السّيء المرذول، بحيث يغدو المسار معها دائريّاً، تستحيل فيه الشّخصيّاتُ الجديدة الفاسدة والمُفسدة نسخاً ممسوخة عن سابقاتها، يصعب كسر حلقة توالدها وتكاثرها، ويبدو السّير في مجتمعاتنا سيراً حثيثاً إلى الخلف/ التّردّي يفرّ من التّحسين، ويجافي التّحسين/ الأمَام.
[1] زراقط، عبد المجيد، جذور فوق التّراب وقصص أخرى، دار روافد، بيروت، ط.1، 2021م، ص. 121.
[2] م.ن. ص 123.
[3] صليبا، جميل، المعجم الفلسفيّ، المجلّد 1، دار الكتاب الّلبنانيّ، بيروت، لا ط.، 1982، ص. 98.
[4] إيكو، أمبريتو Umberto Eco ينظر في:هويّة العلامات في العتبات وبناء التأويل. شعيب الحليفي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ط1، ص.28.
- أمبريتو إيكو Umberto Eco ( 1932- 2016) فيلسوف وروائيّ إيطاليّ، وباحث في القرون الوسطى. من أهمّ رواياته : الوردة.
[5] جوف، فانسان، الأدب عند رولان بارت، تر.د. عبد الرّحمن بو علي، دار الحوار للنّشر والتّوزيع، الّلاذقيّة سوريا، ط.1، 2004، ص. 145.
[6] م. ن. ص 91 -92.
[7] جذور فوق التراب وقصص أخرى، م.س. ص. 125.
[8] غاستون باشلار Gaston Bachelard ( 1984- 1962)، فيلسوف فرنسي بحث مسألة المكان الروائي في كتابه: La poétique de l,éspace .
[9] باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر. غالب هلسا، المؤسسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر( مجد)، بيروت، ط.4، 1996، ص.10.
[10] جذور فوق التّراب وقصص أخرى، م.س. ص. 121.
[11] م.ن. ص. 124.
[12] A.J. Gremas,Semantique structural, recherché de method, Larousse, 1966, p. 172- et les actants, les acteurs et les figures, in semantique narrative et textuelle coll1 paris, 1937, p. 161.
[13] أيّوب، نبيل ، النّقد النصيّ (2) وتحليل الخطاب، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت،ط.1 2011، ص. 35.
الكاتب
د.هدى عيد روائية واستاذة جامعية من كتبها: في بلاد الدخان سلطان وبغايا متعة العمر الحياة في الزمن الضائع
الكاتب:د.هدى عيد