حرية الجسد والعاطفة: قراءة في كتاب “في الحب والحب العذري” لصادق جلال العظم
حرية الجسد والعاطفة: قراءة في كتاب “في الحب والحب العذري” لصادق جلال العظم
24 ديسمبر 2020 240
في الحب والحب العذري
شكلُ الحبِ موضوع دراسةِ العديد من الفلاسفة، بدايةً بالحب الإيروتيكي، مرورًا بالحب المرتبط بالعاطفة الإنسانية، وانتهاءً بالحب الصوفي للذات الإلهية. ورغم زخم المكتبات بعددٍ هائلٍ من الكتب التي حلّلت هذا الشعور الإنسانيّ، إلا أنه تبقى لدراسة الدكتور صادق جلال العظم “في الحب والحب العذري” الريادة في معالجتها من وجهة نظر نقدية حداثية تحرّر جسد الإنسان وعواطفه من النظرة التقليدية التي كرّسها المجتمع.
وعمومًا، فإن الحب الذي تعالجه هذه الدراسة هو الشهوة والحاجة والنزوع إلى امتلاك المحبوب. لكن هل يمكننا النظر إلى الحب كظاهرة جنسية عضوية محضة؟ وهل يمكن للجنس وحده أن يبرزَ الحبَّ في قلب الإنسان؟ يوضّح صادق جلال العظم أن الاختلاف الكامن هنا هو أن الحبَ يَنتَقي ويُميِّز، على خلاف الرغبة الجنسية التي تعتبر جميع الموضوعات متشابهة ما دامت تحقّق غايتها. وهنا يمكننا استحضار مثال الرجل العاشق الذي يضربُ في فترة عشقه عن مفاتن النساء، على الرغم من أن كلهنّ يمثلن موضوعًا صالحًا لإشباع رغباته. كذلك الأمر بالنسبة للمرأة المتحررة التي قد تشعر بالانجذاب الجنسي للعديد من الرجال، بينما ينصبُّ حبها في فترة معينة على رجلٍ واحدٍ دون سواه. خلافًا لذلك، نجدُ الإنسانَ الذي يعاني من الكبت المستمر عاجزًا عن التمييز بين حالات الانجداب الجنسي والحب؛ لذلك يقع في هيام أول من يبدي نحوه أي اهتمام عاطفي.
1- مفارقة الحب الكبرى
تتصف عاطفة الحب عمومًا ببعدين رئيسيين، هما:
الامتداد في الزمن، وهو دوام الحالة العاطفية واستمرارها في فترةٍ معينة، ثم الاشتداد الذي يدلُّ على مدى عنف هذه الحالة وحدتها. ولا يمكن أخذ العلاقة بين هاتين المتلازمتين بباسطة؛ حيث أنه كلما امتدَّ الحبُّ خفّت حدته وتناقص اشتداده، فيتحول مع مرور الزمن إلى صلاتٍ مستقرّة تحكمها الألفة بين الطرفين، عكس العلاقات الغرامية السريعة التي تميلُ إلى الانفعال الشديد في الحب، وتركيز الرغبة على امتلاك المحبوب، والذوبان فيه، ما يضع العاشقين في أوج الشهوة والابتهاج.
ويمثل هنا الكاتب العلاقة بين امتداد الحب واشتداده، كالعلاقة بين اللذة والسرور، على اعتبار أن اللذةَ هي حالة عابرة سريعة، غير أنها عنيفة وشديدة الوقْعِ على الوجدان، على عكس السرور. و قد وصف ابنُ حزم أيضًا هذه المفارقة على أنها صراع بين النفس التي ترمز عنده الى نزعة العشق، والعقل الذي يرمز إلى الاستمرار والاستقرار.
وتتمثل نزعة الامتداد عمومًا في مؤسسة الزواج والأسرة، أما بالنسبة لبُعد الاشتداد، فيتجسّد في المغامرة العاطفية التي يفترض فيها أن توفّرَ للعاشقين جوًا حافلًا بالمغامرات والمفاجآت، مما يزيد من عنف نشوة الحب ويشعرهما أنهما خرجا عن نطاق الزمن نحو عالم قد تخطى الخير والشر والكفر والإيمان…إلخ. وتشكل شخصية الدونجوان ومغامراته العاطفية المثال الأبرز لهذه النزعة.
2- شخصية الدونجوان
يستفيض صادق جلال العظم في وصف هذه الشخصية ويعتبرها غير خاضعة لاعتبارات التذكير والتأنيث. حيث عرفَ التاريخُ شخصياتٍ دونجوانية نسائية مشهورة وثّقها العديدُ من الكتاب، كالجاحظ و ابن حزم، كما أكد على ضرورة التمييز بين الدونجوان ومن أتيحت له ظروفٌ خاصة للاستمتاع بالحب، فعندما نذكر مثلًا أن الخليفة المتوكل وطئ أربعة آلاف جارية فهذا لا يعني أنه كان دونجوانا، بل مجرد متبلد الحس يستغل جبروته للإطاحة بجارياته. وتتميز هذه الشخصية عمومًا بالعديد من الخصائص، أبرزها:
1. أنها شخصية تتصف بالتقلب والاستجابة السريعة للمثيرات العاطفية المحيطة بها.
2. معارضتها لجميع قيم شريعة الامتداد ورفض كبتها، والاستهزاء من مؤسساتها، خاصةً الزواج.
3. على الرغم من أنه المثال الأبرز لبعد الاشتداد، إلا أن هذا لا يعني أن رغبته في الاستقرار لا تضغط عليه، فهو يعاني من حالة شعورية ينطبق عليها وصف الفيلسوف هيجل “الوجدان الشقي“.
3- الحب العذري
يحاول الكاتب في هذا الفصل دراسة ظاهرة الحب العذري من خلال قصة جميل وبثينة، باعتبارها نموذجًا مثاليًا، حيث نجد أن جميل لم يكتم حبه لبثينة، رغم معرفته بتحريم العادات والتقاليد زواجه منها، ما يؤكد مجهوداته لخلق سبب يعيق وصولهم للرباط المقدس، كذا استمرار عشقهم بعد زواجها، ما يدل على أنه حب قائم على خرق واضح لمؤسسة الزواج، ومحاولة لمواجهة مفارقة الحب الكبرى والتغلب عليها باختيار نزعة الاشتداد.
يبدو إذًا أنّها ظاهرة لا تخلو من خصائص “السادومازوخية“؛ نظرًا لميل العاشق ميلًا شديدًا إلى تعذيب النفس و لغير دون مبرر واضح أو غاية محددة، إنما لمجرد التلذذ بالألم والعذاب باعتبارهما جزأً لا يتجزأ من عنف تجربتهم الغرامية العذرية. كما أنه حب شهواني في أصله؛ لأنّه قائمٌ على منع الرغبة في امتلاك المحبوب تارةً، وإشباعها تارةً أخرى، ونرجسيٌّ في موضوعه؛ لأن اهتمام العاشق وهيامه ينصبّان في الواقع على ذاته ومشاعره، لا على شخص معشوقه.
4- خواطر أخيرة
في الأخير نخلص إلى أن تحقيق الحل المثالي لمفارقة الحب الكبرى مستحيل بالنسبة للإنسان، كما يؤكد د. العظم على أن الاتجاهات العصرية التي تؤثر في نسق المجتمع التقليدي والمتصفة بـ”العلمانية” ليست غايتها الأساسية الدعوة للانحلال الأخلاقي وتفشي الفساد والركض وراء الشهوة، بل إنها دعوة حقيقية لتحقيق ثلاث غايات أساسية: أولها خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تؤدي إلى تحرير العواطف المكبوتة في الفرد من أغلالها، ثانيًا، تحرير جسم الإنسان من النظرة التقليدية التي كانت تربطه بالخطيئة والشهوة الحيوانية، وإبدالها بنظرةٍ موضوعية تعتبرُ الجسدَ جزءًا من الكون، له مميزاته وعيوبه، وأخيرًا، تحرير الرابطة الزوجية من قيودها التقليدية وارتباطاتها الاجتماعية، وبالتالي تحرير المرأة من الاستعباد الذي لحق بها و إقرار حقها كاملًا ليس في مجرد الرفض والقبول أمام من يختارونها، وإنما اختيار سبيل حياتها العاطفية والاجتماعية والإنتاجية في مجتمع متشارك حديث.