الصور القديمة.. مصر التى كانت.. بالأبيض والأسود
• مكتبة الجامعة الأمريكية تضم نصف مليون صورة.. والمؤسسات الثقافية المصرية ضحت بأرشيفها
• عيون الأجانب وثقت حياة المصريين فى النصف الأول من القرن العشرين
• هالة القوصى: جهود إنقاذ تاريخ مصر المصور جاءت متأخرة جدا
• ماريا جوليو: مصر عرفت المصورين المحترفين على أيدى الفرنسيين والإيطاليين والنمساويين
فى مكتبها تعكف الفنانة البصرية هالة القوصى على عملية تقسيم مبدئية لجملة من صور الابيض والاسود التى يعود تاريخ بعضها لمطلع الثلاثينيات من القرن العشرين وتضم فتيات وشبابا وقفوا أمام كاميرات مصورين فى استديوهات قلب القاهرة وبالاساس شوارع عماد الدين وسليمان باشا وشريف – وفى ضواحيها بين المعادى ومصر الجديدة، ليسجلوا ذكرى الصداقة والاخوة.
القوصى اقتنت هذه الصور من مصادر متنوعة، بعضها من باعة فى وسط المدينة وأسواقها تخصصوا فى إعادة بيع اثاثات ومقتنيات منازل ذهب اصحابها عن دنيانا لآفاق ارحب أو من متخصصين فى اقتناء وبيع الصور القديمة سواء فى المراكز المعتادة لبيع القديم، كما سوق الازبكية أو عبر مواقع الإنترنت التى تخصصت فى اشباع رغبة المعنيين بالاقتناء لاغراض البحث والتاريخ أو لاغراض الولع الشخصى بالابيض والاسود وبكل ما يتعلق بمصر التى كانت.
وقد اختارت القوصى عنوان «الأخوة والأصدقاء» عنوانا لمجموعتها الثالثة من هذه الصور والتى تعتزم إصدارها عن «فوتو مصر» تلك الصفحة الالكترونية التى اسستها القوصي، منذ سنوات قليلة بغرض توسيع الاطلاع على تلك الكنوز من مجموعات الصور القديمة التى بدأت تضع يديها عليها بالصدفة قبل عشرة أعوام عندما كانت بصدد إعداد بحث تاريخى مرتبط بتاريخ المدينة الاستعمارى.
وكانت المجموعة الثانية قد صدرت أيضا عن فوتو مصر فى نهاية ابريل الماضى وهو يضم مجموعة من صور الهواة والمحترفين من شواطئ مصر المختلفة يرجع اقدمها إلى العشرينيات من القرن العشرين واحدثها إلى السبعينيات.
وكما فى «ألبومها» الاول «صور الأفراح» الصادر قبل عام، فان القوصى سعت لتقديم اكبر قدر من النماذج المختلفة وتغطية الحقب الزمنية كاملة، «رغم صعوبة ذلك احيانا بسبب حجم الصور أو ما قد تكون تعرضت له من دمار، اثناء انتقالها غير المرتب من مكان لمكان ومن يد لأخرى»، وايضا بالنظر إلى ان معظم الصور لا يحمل تاريخا واضحا، أو أى تاريخ على الاطلاق.
زفاف منى عبدالناصر وأشرف مروان – تصوير آرمان «الابن»
زفاف جمال عبدالناصر وتحية كاظم – تصوير: آرمان «الأب»
زفاف للجالية اليونانية بالإسكندرية «صفحة الإسكندرية 1900»
وفى ألبومى «صور الافراح» و«على البحر»، تستعين القوصى بمعرفتها البحثية بانماط الازياء وتطوراتها عبر السنوات لتحديد العقود التى التقطت فيها الصور – خاصة فى حال ألبوم «على البحر» لان جزءا غير يسير من هذه المجموعة تم التقاطه من قبل الهواة على البحر، وان كان بعضها، خاصة فى العقود الاولى من القرن العشرين جاءت من مصورين احترفوا التجول على الشواطئ لتصوير الرواد، قبل ان ينتشر اقتناء الافراد لكاميراتهم الخاصة.
وفى الصور «على البحر»، تقول القوصى، تظهر فى اكثر الاحيان لجيلين أو ثلاث وأحيانا برفقة معاونات المنازل التى اعتادت الاسر اصطحابها لفترات الاصطياف «والتى هى فى الاغلب فتاة صغيرة فى السن نستطيع التعرف عليها بربطة الشعر المميزة» لتلك الحقبة.
وتتراوح الصور ما بين تلك التى يرتدى اصحابها المايوهات أو تلك التى يظهر فيها الرجال والنساء بل وحتى الاطفال بقمصان وبنطلونات أو فساتين صيفية.
«وفى نموذج من مصر الثلاثينيات يظهر رجل بجلابية على البلاج، وهناك نموذج لسيدة واطفال يستحمون بملابسهم من فترة الستينيات».
شاطئ ستانلي في الثلاثينيات «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
أسرة قاهرية تتجه للمصيف في الخمسينيات «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
«وتقول القوصى ان مجموعتها القادمة «إخوة وأصدقاء» تستعرض بدورها قطاعات مجتمعية واسعة، ربما اكثر من تلك الظاهرة فى ألبوم «على البحر»، وبالتأكيد اكثر من ألبوم «صور الفرح»، كون ذهاب الاسر المصرية للاصطياف لم يشمل جميع اطياف المجتمع فى هذه المرحلة، كما ان الحرص على تاريخ الزفاف بالتقاط الصور كان نمطا سلوكيا متمركز بالاساس فى العاصمة وكبريات المدن، وربما بعض المحافظات ولكنه لم يكن النشاط المآلوف فى الاقاليم على اتساعها.
وبحسب القوصى فإن العمل فى اطار اعادة زيارة التاريخ المصرى، من خلال الزوايا المختلفة أو الروايات المتعددة، ليس بالامر السهل لان الكثير من الصور قد فقدت لاسباب الاهدار المتنوعة بين التلف غير المقصود أو الاتلاف لاغراض التخلص مما لم يعد يلزم أو لاسباب تتعلق بأن اصحابها تركوا مصر وأخذوا معهم صور اسرهم أو ان الكثير من الصور، من المنازل كما من الاستديوهات التى اغلقت لتقاعد اصحابها أو ذهابهم عن مصر فى ما بين منتصف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، قد وجد طريقه لخارج مصر ايضا، ولكن عبر البيع والاقتناء، اضافة «للواقع التعيس الذى لا سبيل لإنكاره لأرشيف الكثير من كبريات المؤسسات الثقافية والصحفية التى فقدت مقتنيات لا تقدر بثمن – وبعضها للاسف يظهر الان فى مراكز أجنبية خارج مصر».
غلاف كتاب نجوم على النيل
تحية كاريوكا «صفحة فان ليو على الفيس بوك»
وتقول القوصى «إن الجهود التى يبذلها عدد غير قليل من المهتمين اليوم بالفنون البصرية، وخاصة بمجموعات الصور القديمة، جاءت متأخرة جدا، ورغم وجود بعض المجموعات لدى بعض المكتبات الكبرى أو لدى ورثة الافراد والمصورين، الا ان ما لدينا لا يعد سوى جزء بسيط من كنوز لم تعد متاحة بسهولة، أو لم تعد متاحة على الاطلاق للباحث المصرى الذى يسعى لاعادة قراءة التاريح بعيدا عما هو مدون بالنظر إلى ما تم تسجيله من لقطات، بعضها لافراد فى حياتهم الخاصة والعامة، وبعضها للمدن وتضيف «قبل اشهر وضعت يدى على مجموعة صور تؤرخ لبعض الاحداث، منها على سبيل المثال تلك التى تؤرخ لبدء برنامج الفضاء المصرى {فى النصف الاول من الستينيات} بالتزامن مع توارد اخبار مشروع جهاز الكفتة لعلاج الايدز وفيروس سى».
وترى القوصى ان فقدان الصور التى تؤرخ لحال المجتمع لا يقل فداحة عن صور تؤرخ لاحداث تاريخية مهمة عاشتها مصر، فلم يبق منها فى متناول المؤسسات المعنية ما يكفى للنقاش البحثى المفترض استمراريته ــ «لان هذه الصور ليست فقط، كما يظن البعض، مساحة للممارسة الحنين إلى الماضى».
ويقول تامر التهامى، مؤسس صفحة الاسكندرية ١٩٠٠، التى تنظر لصور الاسكندرية عبر العقود لاولى من القرن العشرين، ان الحنين يبقى جزءا اساسيا من اسباب انتشار الصفحات التى تتواجد على مختلف وسائل التواصل الاجتماعى للنظر فى ما كان، ويضيف انه عندما ينظر لتعليقات المشاركين بالاعجاب على الصور التى يضعها على الصفة التى أسسها قبل أقل من عام فى اطار ممارسة هواية النظر فى ايام ابهى للاسكندرية، سمع عنها من والديه وجديه، هو بالاساس تعبير عن الحنين«سواء كانت الصور التى يتم مشاركتها هى لأفراد أو مبانٍ أو احداث».
نساء من النوبة في القرن التاسع عشر «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
وبحسب التهامى فإن الحنين يستحيل فى بعض الاحيان لشكل من اشكال الانبهار بطرز معمارية أو ازياء يرتديها رجال ونساء فى صور اثناء الحياة اليومية كالانتظار بمحطات وسائل النقل العام أو المشاركة فى انشطة جماعية
ويعتمد التهامى، الذى يعمل فى مجال التواصل الالكترونى، على مواقع متاحة الصور عبر الانترنت، كتلك التابعة لمكتبات عامة أو مراكز ثقافية، للحصول على ما يمكن وصفه بأنها صور فى حالة لا بأس بها من الجودة وعلى قدر لا بأس به من التنوع لزيارة أيام الاسكندرية السابقة.
وليد منتصر، المصور الحر ومؤسس صفحة على الفيسبوك للاحتفاء ببورسعيد، بمدينة مولده ومقامه، يعتمد ايضا، كما القوصى والتهامى، على مصادر بعضها ورقى وبعضها الكترونى للنظر فى قصة مدينة «» تتجاوز مشاهد عدوان ١٩٥٦ والتهجير التالى على حرب ١٩٦٧».
ويقول منتصر إن بورسعيد كانت يوما مدينة كوزموبوليتانية وانها ايضا كان لها بهاء ورونق لا يقل عن ذلك الذى تمتعت به الاسكندرية وانها ليس مجرد بلد لمهجرين نازحين، ولكن صور بورسعيد القديمة خاصة تلك التى دونتها كاميرات المصورين الاجانب، بالتحديد من اليونانيين والفرنسيين والايطاليين، الذين عاشوا سنوات بهاء بورسعيد يمكن ان تروى هذه القصة.
أسرة تتابع جنازة من النافذة «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
نساء في الصعيد في الأربعينيات «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
أطفال في بورسعيد في الأربعينيات «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
ويتحدث منتصر عن «الاخوة جورج وقسطنطين زاناكى المصورين اليونانيين، اللذين عهد لهما اهل بورسيعد بتصوير الكثير من صورهم العائلية إلى جانب اللقطات العامة للمدينة والمرفأ خاصة فى نهاية القرن التاسع عشر، والمصور الفرنسى ايبوليت ارنو، المعنى بشغف بتصوير المراكب، رغم انه كان لديه استديو بقلب ميدان ديلسبس ببورسعيد، إلى جانب مركب كان يمتلكه ليقوم من خلاله وعلى متنه بتصوير وتحميض صور المراكب التى ترسى فى المرفأ، والايطالى موسكاتلى وهو الذى ارتبط اسمه بتصوير لحظات العدوان على المدينة وخاصة صور التهجير بعد عام ١٩٦٧ والذى تسهم ابنته آنا من خلال صفحتها على الفيسبوك ايضا بمشاركات مهمة من الارشيف الاصلى لوالدها الذى غادر مصر فى مطلع السبعينيات بعد ان عمل سنوات كمصور رسمى للمحافظة، كونه كان ايضا من اصحاب الجنسية المصرية، مما اتاح له تصوير الكثير من الاحداث الاستثنائية فى حياة المدينة منذ الاربعينيات ولعقود اربعة تالية»، بحسب حسام علوان.
المعرض الذى اقامه منتصر سعى ليس فقط لاستعادة اصداء الكوزموبوليتانية البورسعيدية المهدرة ولكن ايضا للاطلاع على ظلال اخرى للمدنية فكان التنقل من الحى الافرنجى الشهير إلى الحى العربى الذى كان يتمتع بطابع خاص بدوره
ويرى منتصر ان السعى للاحتفاظ بالتاريخ المتكامل للمدن امر بالغ الاهمية، خاصة لبلد مر بحقب واحداث تاريخة شديدة الاهمية والتنوع مثل مصر خشية ان يأتى يوم يصبح فيه هذا التاريخ منسيا أو مبتسرا.
وكما ان القوصى تتألم لرؤية ارشيفات المؤسسات الثقافية والصحفية الكبرى بالعاصمة وقد فقدت الالاف من الصور والنتيجاتيف، ولان متحف ام كلثوم ليس به من الصور اللانهائية لسيدة الغناء العربى سوى ما لا يعد بالشىء الكبير، فان منتصر بدوره يأسى ان «هيئة قناة السويس فقدت اجزاء مهمة من ارشيفها».
ويعتبر حسام علوان، السينمائى، المعنى ايضا بقراءة قصص الحياة فى مصر عبر نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين ان هناك حاجة لانشاء متحف وطنى للفوتوغرافيا.
سامية جمال «صفحة فان ليو على الفيس بوك»
ويقول علوان الجهد الذى يبذله كما اخرون غيره من المعنيين بالحصول على مجموعات كبيرة من الصور من المكتبات والجامعات الاجنبية المعنية بمصر ومنطقة الشرق الاوسط عموما عبر مواقعها على الانترنت هو امر بالغ الاهمية فى التأسيس لتجميع تراث مصر من الصور الفوتوغرافية ولتجاوز الصعوبات فى الوصول إلى ما هو موجود فعليا من هذا التراث الفوتوغرافى سواء لاسباب سوء الحفظ والفهرسة أو لاسباب تعقيدات اجراءات الباحثين فى الاطلاع
وبحسب كتاب التصوير فى مصر لماريا جوليو، الصادر عن مطبعة الجامعة الامريكية، فان مصر تعد من اكثر البلدان التى تم تصويرها من كل زاويا وبكل طريقة وبكل تفصيلا بداء من منتصف القرن التاسع عشر، حيث كان التركيز فى حينه على تصوير ما يتم اكتشافه من اثار ومقابر فرعونية، وايضا ما كان اصحاب البلاط الملكى يطلبونه من صور بورتريه لهم، وهو الامر الذى اتسع ليشمل رجال الازهر – فيما مثل سماح ضمنى بانتشار التصوير بعد خشية ان يكون فيه تعارض مع ما عرف تاريخا عن رفض الاسلام لاعادة صياغة الاشخاص فى مختلف الاطر الفنية.
وبحسب كتاب جوليو فإن التحسب من توافق التصوير الفوتوغرافى مع الاسلام فى البدايات الاولى لانتشار التصوير فى مصر – وهو ما لم يكن بعيدا عن انتشاره عالميا – جعل اغلب من يمتهنون التصوير فى هذه المرحلة من الاجانب بما فى ذلك القادمون من النمسا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وغيرها، مشيرة على وجه الخصوص لاعمال الايطالى لينجوى فريولى الذى صور الاسكندرية قبل واثناء وبعد الحملة البريطانية فى ١٨٨٢.
وتقول جوليو فى كتابها ان انتشار الصور القادمة من مصر فى اشكالها المختلفة اسهم كثيرا فى امرين اولهما هو جذب المزيد من الزائرين الاجانب لمصر التى كانت بالفعل محط اهتمام عالمى والثانى هو التوثيق الواسع لحال مصر فى مرحلة ما قبل ثورة ١٩٥٢.
ومن التراث الفوتوغرافى الكبير المتاح حاليا لهذه العقود المتتالية هى تلك الصور التى قام بتصويرها المصور النمساوى رودولف فرانز لينتهارت الذى توفى فى منتصف الاربعينيات من القرن العشرين بعد عقود امضاها فى التصوير فى مصر، وزميله السويسرى ارنست انريش لاندروك والذى عاش حتى منتصف الستينيات، والتى مازلت نسخ الصور التى التقطاها تباع فى المكتبة القديمة التى تحمل اسميهما فى منتصف شارع شريف والتى مازلت تدار باقارب لهما.
سينمائى اخر، معنى تحديدا بالافلام الوثائقية، منذ نحو خمس سنوات، هو أحمد صفى الدين، يعنى بمساحة اكثر تحديدا من الصور التى التقطتها عدسات المصورين الارمن عن جانب بعينه من اوجه الحياة فى مصر، وهو الجانب الاجتماعى
وبحسب كتاب جوليو فإن وصول الارمن لمصر التى قطنوها وامتهنوا بها عددا من الاعمال المعتمدة على التقنيات الحرفية، مثل التصوير، سابق على المذبحة التى تعرض لها الارمن مطلع القرن العشرين والتى دفعت بالالاف منهم للجوء إلى بلاد مختلفة فى انحاء المتوسط، مشيرة إلى ان بعض اول الاستديوهات الخاصة بالتصوير الفوتوغرافى فى مصر كانت للمصور الارمنى ليبجيان الذى بدأ مزاولة عمله فى نهاية الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
كما تشير جوليو إلى اسماء بازغة مثل ارام البان ومساعدته شاكيه التى تمثل الوريثة الفنية له والتى استمرت فى التصوير حتى الثمانينيات، وجورو، الذى كان فى البدء معاونا للالبان، واخيه انترو الذى مازال الاستديو الدى يحمل اسمه بجوار سينما مترو فى شارع سليمان باشا، واسرة ستيفنيان التى اسست فى نهاية العشرينيات أو مطلع الثلاثينيات، بالتزامن مع انشاء حى مصر الجديدة، ستديو لندن – المعروف ايضا بفوتو لندن – والذى كان المقصد الرئيس لصور البورتريهات والافراح حتى ذهاب الاحفاد ستيفنيان عن مصر فى مطلع الثمانينيات إلى كندا، والى اكبار ونادير بالاسكندرية وبالطبع إلى آرمن الاب ــ، المولود باسم آرمناك آرزررونى والمتخذ للاسم الفرنسى للشهرة والتسهيل، الذى وصل للاسكندرية مع ابيه فى اولى سنوات القرن العشرين والذى عاش وعمل فى القاهرة منذ الثلاثينيات من القرن العشرين بعد ان بدا امتهان التصوير مساعدا للمصور النمساوى اليهودى الشهير زولا، وحتى السنوات الاولى من الستينيات – والابن، المسمى فعلا آرمان، وهو الذى خلف والده فى المهنة حتى توقف عن العمل قبل اعوام قليلة لاسباب صحية.
ويعنى صفى الدين فى بحثه بالوصول إلى صور ربما تعود لنهايات القرن التاسع عشر من تصوير الارمن الذين جاءوا إلى مصر، على مراحل فى اعقاب الانفتاح الذى سعى اليه محمد على، ولكنه معنى بصفة خاصة بصور التقطتها عدسات ارمان الاب والابن واللذين مارسا العمل فى قلب القاهرة منذ العقود الاولى للقرن العشرين وحتى السنوات الاولى للقرن الواحد والعشرين.
نساء قاهريات في العشرينيات «صفحة فوتو مصر على الفيس بوك»
بورتريه سيدة قاهرية في الأربعينيات «صفحة فان ليو على الفيس بوك»
فلاحة في الفيوم في الستينيات «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
ويضع صفى الدين صور زفاف جده واخيه جنبا لجنب مع صور زفاف والديه وابناء اعمام له ويشير إلى التوقيع التقليدى لآرمن الاب والابن على المجموعة، قبل ان يلفت إلى تماثل تقنيات تاطير لحظات الزفاف للاب والابن، رغم تطور تقنيات التصوير والانتقال من الابيض والاسود إلى الملون من الصور.
ويصر صفى الدين ان هناك امرين رئيسين يستحقان التأمل فى مجموعة الصور الممهورة بتوقيع الابن والاب، الاول هو مجتمعى يتعلق بإصرار الاسر المصرية، ايا كانت مقدرات السعادة والتحدى فى حياتها، ان تسجل لحظات سعادة مكتملة تصنعها خيارات المصور وفنونه وآلاته، والثانى هو تلك المساهمة الكبيرة التى قدمها الارمن ــ المصريين فى تاريخ احوال جزء ما من المجتمع المصرى من خلال استديوهاتهم المنتشرة فى القاهرة والاسكندرية وغيرها من المدن الرئيسية
ولعل هذا الشغف بقصة صور الاسرة الملتقطة بعدسة آرمن الاب ثم الابن هى التى دفعت صفى الدين للعمل على فيلم وثائقى عن الابن يسعى من خلاله لطرح مساحات وظلال متنوعة حول الفنان والانسان.
الرجل الذى يشارف الثمانين من العمر قام خلال سنوات عمله، التالية على رحلة والده، فى مطلع الستينيات بالتقاط صور بورتريهات وصور زفاف لمجموعة كبيرة من الشخصيات العامة والمهمة، من ابرزها ابناء جمال عبدالناصر، والذى كان ارمان الاب قد قام بالتقاط صورة زفافه والسيدة تحية كاظم فى الاستديو الكائن بشارع مصطفى كامل.
ويتذكر ارمان ان عبدالناصر كان مشاركا فى جلسة تصوير ابنته الصغرى منى عبدالناصر وكان يقوم بتصوير اللقطات التى يحددها ويلتقطها ارمان بآلة تسجيل سينمائية، ويقول «كنت اشعر به خلفى وكان ذلك محيرا لى اثناء عملى وهو شعر بذلك خاصة أنه يعرف ان هذه المهمة كانت تحتاج للكثير من التركيز فقال ممازحا انه سيتوقف عن التصوير السينمائى حتى ينهى ارمان مهمته ثم يعود».
كما يتذكر ارمان لقاء جمعه بالسيدة تحية كاظم – عبدالناصر بعد وفاة عبدالناصر فى خريف ١٩٧٠ حيث قام بطبع صورة كبيرة بالالوان لعبدالناصر، بناء على مطلب السيدة تحية، واخذ الصورة ليقدمها لها واستقبلته وتبادل معها حديث الذكريات اثناء تناول القهوة.
عدسة ارمان ايضا سجلت زيجات اسرة المشير عبدالحكيم عامر واسرة عثمان أحمد عثمان وصورة زواج السيد عمرو موسى وزوجته ليلى بدوى «التى كانت رائعة الجمال كما والدتها»، وكثير من الزيجات الاخرى التى دشنت بزفاف بفندق هيلتون النيل – ريتز كارلتون بلازا حاليا – والذى كان غير بعيد عن استديو ارمان الابن بوسط القاهرة، قبل ان تنتشر الفنادق عبر المناطق الجديدة ويضطر هو مع نهاية التسعينيات وصولا إلى تقاعده قبل اقل من عشر سنوات لان يحمل ادواته ويتنقل بين هذه الفنادق.
«هناك العديد والعديد من المصورين الارمن ولكن هؤلاء وضعوا بصمة على ألبومات الاسر المصرية تستحق النظر اليها بإمعان، خاصة أن الكثير من اعمالهم فقدت بصورة أو اخرى، الا ارمان الابن منح جزءا من ارشيفه للمؤسسة العربية للصورة، كما ان فان ليو منح مجموعة صوره والنيجاتيف الخاص بها لمكتبة الجامعة الامريكية فى حياته حيث تم حفظها باعتناء كبير»، بحسب صفى الدين.
وفى قلب مكتبة الجامعة الامريكية بمبناها الجديد بالتجمع الخامس تفتح علا سيف، المسئولة عن مكتبة الصور الثرية صندوقا اسود وقد وضعت قفازات بيضاء وتخرج مجموعة من الصور المرممة وأخرى فى حالة جيدة من تصوير فان ليو، حيث يظهر رشدى اباظة وعمر الشريف فى زهو الشباب والنجومية السينمائية وحيث يجلس محمد نجيب محنيا فى صورة كانت فى الاصل جماعية قبل ان يقرر الفنان ــ المصور تحويلها لبورتريه رجل ثورة يوليو المحنى فرفع كل المجموعة المحيطة به الا ظل واحد بقى على ارضية الصورة عصى على قدرة فان— ليو على المحى واعادة الصياغة الفوتوغرافية، وبالطبع مجموعة متتالية الازمنة للفنان نفسه فى صدر الشباب وفى ظلال النهايات.
وتعد مجموعة فان ليو واحدة من ضمن مجموعات رئيسية تقع فى حوزة الجامعة الامريكية بالقاهرة، ابرزها مجموعة المعمارى كيبل كريزول والتى تتجاوز الصور التقليدية إلى صور التقطتها الحربية البريطانية لمصر من السماء وخرائط ورسومات وايضا، كما تضيف سيف بفخر، مجموعة حسن فتحى والتى انتقلت لحيازة مكتبة الجامعة الامريكية من حيازة اسرة اغاخان التى كان فتحى قد اهداها مجموعته، بما فى ذلك صور التقطها بنفسه لمساحات معمارية داخل وخارج مصر قام بالعمل على التفاعل المعمارى معها بصور مختلفة، بما فى ذلك مدينة الدرعية السعودية والمضمنة ضمن قوائم اليونسكو للتراث العالمى، إلى جانب باقى المناطق التى عمل عليها فتحى.
وتقول سيف انه إلى جانب هذه المجموعات الكبيرة هناك مجموعات تم اقتناؤها بمحض الصدفة من خلال بائعى الصور القديمة سواء من الاسواق أو عبر الانترنت، وتشير إلى مجموعة اسرة اسكندر التى اقتنتها المكتبة من احد باعة ما تبقى من منازل قديمة، والتى سعت هى من خلال كل مناسبة عامة واجتماعية للوصول لاصحابها إلى ان تمكنت من ذلك فعلا وقامت بدعوة احدى سيدات اسرة اسكندر التى تعرفت على الصور وعلى من فيها، بما فى ذلك صورة لزفاف والديها، وايضا على المقتنيات البادية فى الصور من سجاد وثريات انتهت فى منازل الجيل التالى من اجيال عائلة اسكندر العريق، وتضيف ان هناك مجموعات عائلية متفرقة اخرى فى حوزة الجامعة والتى تبقى ابواب مكتبتها مفتوحة لمثل هذه المجموعات
وتمثل مجموعات صور العائلات الركيزة الاساسية لعمل المؤسسة العربية للصورة التى تم انشاؤها فى لبنان قبل نحو عقدين والتى سعت لجمع مجموعات العائلات عبر العديد من البلدان التى عرفت فن الفوتغرافيا مبكر وعلى رأسها بالطبع مصر التى كانت من اولى الدول التى تلقت هذا الفن.
وبحسب اكرم الزعترى احد الاعضاء الرئيسين لهذه المؤسسة ان تاريخ التصوير فى العالم العربى له شق رئيسى متعلق بصور العائلات والتى تمثل الجزء الاكبر من قرابة ٦٠٠ الف صورة فى حوزة المؤسسة العربية للصورة، وان العمل مستمر دوما لتوسيع هذه المجموعة ومنحها تنويعا اكبر.
وتقول سيف ان فى حوزة مكتبة الجامعة الامريكية قرابة نصف المليون صورة مفهرسة ومجدولة ومحفوظة فى ثلاجات خاصة ويجرى ترميم دقيق وحرفى لما هو تالف منها.
وتشير سيف إلى تزايد فى اعداد الطلاب الذين يسعون لقراءة التاريخ عبر هذه الصور وإلى لجوء اساتذة الادب والتاريخ وعلوم المجتمع وتاريخ المجتمع لاستخدام هذا التراث الفوتغرافى المتميز كجزء رئيس من اساليب التدريس والنقاش الاكاديمى.
ولا تعد الجامعة الامريكية هى الوحيدة فى ذلك، وتقول سلمى مبارك استاذ الادب الفرنسى بجامعة القاهرة انها ايضا تستخدم الصور كجزء رئيسى من دراسات دبلوم التنمية الثقافية ضمن مقرر فنون الشارع والصورة والذى ينظر على سبيل المثال إلى تاريخ المدن الكبرى من خلال الادب المكتوب والصورة الفوتغرافية الباقية عن حقبة بعينها، مثل نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على سبيل المثال.
وبحسب مبارك فإن هذا البعد البحثى فى التعامل مع القديم من الصور يتجاوز السياق الاوسع القائم على الاهتمام العام بالصور بوازع من حنين إلى شىء يتصور البعض انه كان، وربما كان بالفعل.
تجاوز حالة الحنين فى التعامل مع الصور، يقتضى، بحسب الاكاديمية علياء مسلم، مؤسسة مبادرة احكى يا تاريخ، النظر فى مساحات اوسع مما تم تسجيله فوتوغرافيا عن واقعة بعينها، «لان هناك اعتياد تلقائى لان ننظر فقط إلى مجموعة من الصور حظيت باهتمام أو اعجاب واصبحت مقدمة لرواية مبتسرة عن واقعة ما».
نجيب محفوظ «صفحة حسام علوان على الفيس بوك»
طه حسين «صفحة فان ليو على الفيس بوك»
سوزان طه حسين «صفحة فان ليو على الفيس بوك»
وبحسب مسلم فإن واحدا من اهم النماذج التى تمثل حالة الاجتزاء الفوتوغرافى للاحداث هى تلك المتعلقة ببناء السد العالى، حيث تسيطر صور الفخر للانجاز الكبير وتظهر بدرجة اقل بعض صور التهجير النوبى فى مساحاته الرومانسية دون ان تسعى الصور التى التقطتها الكاميرات للنظر ابعد أو اعمق، وهكذا الحال بالنسبة للتعامل مع الاسكندرية، التى لم تكن ابدا فقط تلك المساحة الكوزموبوليتانية رغم ان عدسات اغلب المصورين ركزت على الجانب الاجنبى للمدينة وذلك الذى كانت الاسرة الثرية تقطنه، أو بورسعيد التى لا تقتصر قصتها على مجموعة محدودة من الصور تلتقط اثار تراث معمارى جميل ومدمر.
وبحسب مسلم فان سعى المبادرة لاعادة قراءة الصور بوضعها بجانب «بعضها البعض» وبمقارنتها بالمكتوب سواء فى المخطوطات أو الصحف هو جزء رئيسى من تحقيق الاستفادة القصوى من التراث الفوتوغرافى.
أما سيف فتقول ان السعى لتوسيع دائرة الاتاحة من خلال تحويل الصور إلى النسخة الالكترونية ومتابعة امداد المواقع المختلفة بهذه الصور هو بدوره جزء مهم من تشجيع الباحثين المعنيين على النظر مليا فى الصور بعيدا عن المباشر الذى تمنحه، مشيرة إلى ان تنوع المصادر لهذه الصور يسمح بتجاوز التعامل مع الحدث فى الحدود الضيقة ويتيح التعامل معه فى سياقه الاوسع وربطه بغيره من الاحداث السياسية والاجتماعية المتزامنة، «على الاقل بالنسبة للباحثين».
وتعد الاتاحة الرقمية للصور واحدة من اهم الاهداف التى يسعى اليها خالد عزب المسئول الاول عن مشروع ذاكرة مصر التابع لمكتبة الاسكندرية والتى يتفق كثيرون، بما فى ذلك القوصى وعلوان وغيرهما، انها تعد اليوم الحافظ الاكبر لمجموعة استثنائية من الصور القديمة ، مدونة التفاصيل وجيدة التاريخ، تروى قصة مصر بصورة تتجاوز بكثير ما تقدمه صفحات الانترنت مثل فوتو مصر واسكندرية ١٩٠٠ واهل مصر زمان وبورسعيد مدينتى وغيرها.
ويقول عزب ان ما فى حوزة المكتبة اكبر بكثير مما هو متاح على الانترنت حاليا، على الرغم من ثراء المجموعة المتوفرة للباحثين عبر موقع المكتبة.