جاكلين الشابي: ألغام الدوغمائية
كلمات : محمد ناصر الدين .
السبت 5 كانون الأول 2020 م.
(فيرونيكا ايلينا)
البحث عن الإسلام في سياقه المبكر يفرض على الباحث أسئلة صعبة: كيف يمكن وضع القرآن وآخر الأديان التوحيدية في قلب مجتمع «التنزيل» وبعيداً من مجتمعات «التأويل» التي أخذت على عاتقها تفسير النصّ، وبالتالي التأسيس لمذاهب وطرق وشيَع، وتحمّل كلّ تبعات استنطاق هذا النصّ وتسييله في علوم الكلام والفقه والمنطق والأصول بعد قرون من «الكتّاب» القرآني الأول في دار الأرقم ومجتمع يثرب، حيث تلقى المريدون كلمات الوحي شفاهة من صاحب حراء الذي وصفه الكتاب نفسه «إن هو إلّا وحي يوحى»؟ كيف كانت انطلاقة الإسلام الأول؟ كيف ظهر القرآن؟ وإلى من توجّهت «الكلمة الإلهية» بدايةً؟ كيف يؤمن العرب بالتنزيل؟ وما هي طبيعة الدين الذي مارسه المسلمون الأوائل، أي صحابة محمد؟ هذه الأسئلة التي تطرح بإلحاح مسألة المعنى وبشكل ألحّ تاريخانية المعنى، تطرحها جاكلين الشابي (1943) المؤرّخة الفرنسية وأستاذة الدراسات العربية في «جامعة باريس الثامنة» والمهتمّة بتاريخ الإسلام في القرون الوسطى إضافة إلى الصوفية والمتصوفة.
في كتابها المرجعي «رب القبائل» (1997) الصادر أخيراً بنسخته العربية عن «منشورات الجمل» (ترجمة ناصر بن رجب)، تقسم الشابي الكتاب إلى أربعة فصول هي: القرآن ومحيطه الأصلي، بناء الماضي- نصوص ما بعد ونصوص الجوار، والنبي المنبوذ ومعارك وشعائر. يقول الباحث أندريه كاكو في تقديمه للكتاب إنّ «المؤلفة اعتمدت على منهجية سليمة لتاريخ الأديان. منهجية بعيدة كلّ البعد عن الدوغمائية والازدراء، يحدوها فيها حذر شديد سمح لها بتجنّب الدراسات الذاتية التي تهدف إلى الدخول في روح النبي واستقراء ما يختلج فيها من مشاعر». هذه الوضعية المحايدة والروح العلمية المتجرّدة، بمقاربة جديدة تتناول القرآن والإسلام في سياق محدّد هو سياق القبائل التي كانت تعيش وفق علاقات تضامن وتحالف لكي يتسنّى لها مجابهة محيط صحراوي شاقّ في ظروف توفر أدنى مقومات العيش، ستثير حفيظة العديد من العاملين في الدوائر الاستشراقية الفرنسية والغربية: الباحث كريستيان بوبان في «المركز الفرنسي للبحث العلمي» سيشيد بدقة العرض التاريخي المستند إلى معرفة ضليعة باللغة العربية وبالمصادر الأصلية، إضافة إلى أن المؤلّفة كانت قد ضبطت في كتاب سابق (معجم الإسلام) المصطلحات كافة، ما يمنع أي شتات سيميائي في البحث. إلّا أنه سيعيب على الشابي حيادها وغيابها عن أيّ تموضع في كل النقاشات «العلمية» حول أصول الإسلام. النقاشات التي تشذّ عنها مقاربة الشابي، تتلخّص في ثلاث أطروحات: أطروحة أولى رائدها مايكل كوك وباتريسيا كرون من صقور الاستشراق الانغلوساكسوني الجديد، ومفادها أن تواريخ الإسلام المبكر قد تم اختراعها بالكامل في عصر مبكر، وبالتالي يستحيل عملياً إعادة ترميم المحيط الأول للدعوة استناداً إلى السرديات التي يؤمنها التراث. الأطروحة الثانية هي المدرسة المهتمة بأصول القرآن، ومن أبرز رموزها جون وانزبروخ وفرانسوا داروش وتنطلق من أن القرآن كتاب يجمع مواد متنافرة وسيأخذ شكله النهائي بعد قرون متأخرة (وانزبروخ)، أو تعتمد على علوم تحليل الخط والباليوغرافيا والتحاليل الفيزيو-كيميائية للصحف والجلود والرقائم التي كُتبت عليها أولى الآيات والسور (داروش). الأطروحة الثالثة يتبناها المستشرقان العبريان م.ج كيستر ومايكل ليكر وتقوم على تتبع التراث الإسلامي والحديث والسير والمغازي والتحليل الدقيق لمحتوياتها والقيام بجهد تجميعي تتقاطع حوله المصادر المتعددة لبناء سلسلة انطولوجية للوصول إلى أصل كل تقليد إسلامي أو شعيرة. وختم الجدال باتّهام الشابي بالتقليل من شأن مسألة حاضرة حميَر اليمنية ورسوخ التقليد اليهودي-المسيحي فيها برسوخ الزراعة، ما سيؤثر في الدين الجديد الذي يصرّ الكثير من هؤلاء المستشرقين على طمس أيّ ملامح محلّية في تكوينه كما تطرح الشابي، وتصويره حصرياً كمحاولة تشويه واقتباس للدينين السابقين.
«ينبغي أن نتساءل من وجهة نظر الأنثروبولوجيا التاريخية: ما مفهوم الدين في مجتمع قبلي؟ وهذا المجتمع يخضع لمنطق الآلهة والتضامن معها أكثر من خضوعه لديانة دغمائية تحكمها شعائر صارمة… فعندما نرى الصفات التي ينسبها القرآن لله والتي تشهد على مدى سخائه على الإنسان، فإن هذا السخاء يحيل مباشرة إلى صورة السيد (رئيس القبيلة) الذي يجب عليه أن يكون دائماً وأبداً معطاءً وسخياً. في حالة هذا الولاء للإله كما هو الأمر أيضاً بخصوص الولاء بين البشر، فإنّ هذه العلاقة تحيل مباشرة إلى منظومة ومفهوم ممارسة السلطة في عالم القبائل». هذه القراءة التي تتحفنا بها جاكلين الشابي هي أكثر من ضرورية عند سيرنا بين «الألغام» الدوغمائية التي يزرعها المتعصبون من المستشرقين والأصوليين ممن يصرّون على حصر القرآن بشريحة يدرسها الميكروسكوب أو آية تبرر فتوى قطع الرؤوس وجز الأعناق. كل قراءة كما في «ربّ القبائل» تفتح النص على أفق جديد للمعرفة هي اليوم ضرورة قصوى لما نادى به الدين نفسه في كلماته الأولى.