إبراهيم أبو عواد ٭ كاتب من الأردن
أوسفالد شبنغلر وانحدار الغرب
7 – ديسمبر – 2020
وُلد الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر (1880 ـ 1936) في مدينة بلاكنبورغ، وتُوُفِّيَ في ميونخ. درس في ميونخ وبرلين وهاله. اشْتُهِر بكتابه «انحدار الغرب» الذي سجَّل فيه فلسفته في التاريخ، إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ولقي الكتاب رواجا كبيرا، لأن نهايته توافقت مع المزاج السائد عَقِب الحرب. تُرجِم الكتاب إلى اللغة العربية بعنوان «تدهور الحضارة الغربية» الذي يعرض نظرية سقوط وازدهار الحضارات، وأن ذلك يتم بشكل دَوْري، ويُغطِّي كل تاريخ العالَم، وقدَّم نظرية جديدة جعل فيها عُمر الحضارات محدودا، وأن مصيرها إلى الأفول، ولعله تأثر بما كتبه ابن خلدون في هذا المجال.
بعد نشر كتاب «انحدار الغرب» عام 1918، أصدرَ شبنغلر كتاب «البروسية والاشتراكية» عام 1920 . وفيه عرض صورة عُضوية من الاشتراكية والسُّلطوية.
وقد شهدت فترة الحرب العالمية الأولى وفترة ما بين الحربين العالميتين خصوبة في إنتاج شبنغلر الفكري، وشهدت تأييده لسيطرة ألمانيا في أوروبا. وقد اتَّخذ الاشتراكيون القوميون من شبنغلر مُنَظِّرا لأفكارهم، غَير أنهم ما لبثوا أن نبذوه عام 1933، عندما أبدى تشاؤمه بشأن مستقبل ألمانيا وأوروبا، ورفضه تأييد الأفكار النازية المتعلقة بالتفوق العِرْقي، ولإصداره كتابا ينتقدهم بعنوان «ساعة الحسم».
تُعَدُّ فلسفة شبنغلر فلسفة جبرية، إذ يعتقد أن التاريخ ليس إلا حضارات لا رابط بينها، ولا أسباب لقيامها، وإنما تخضع كل حضارة بمجرَّد قيامها لدورة حياة بيولوجية كأنها الكائن الحي، لها ربيع وصيف وخريف وشتاء، وأن شتاء الحضارة قد لا يعني اندثارها، وأن أُفول الحضارة قبل الأوان قد يكون بسبب ظروف خارجية تقضي عليها. ومهمة فلسفة التاريخ هي فهم البناء المورفولوجي أو الشطر الخارجي للحضارة. ومصطلح «مورفولوجيا» يُشير إلى عِلم دراسة الشكل والبُنية. وكُل حضارة لها رُوح، وربيع الحضارة هو زمن بطولاتها وملاحمها، ودِينها عندما تكون الحياة ريفية زراعية إقطاعية، ويأتي صيفها بقيام المدن إلى جانب الريف، والأرستقراطية حول الزعامات القديمة، ويشهد الخريف التدفق الكامل لينابيع الحضارة الروحية، وإرهاصات استنفادها المحتمَل، وهو عصر نمو المدن، وازدهار التجارة، وتوسُّع الدول، وتحدي الفلسفة للدِّين. ويتصف الانتقال إلى الشتاء بظهور المدن العالمية وطبقة العمال (البروليتاريا) وقيام الدول الرأسمالية، وحكومات الأثرياء، وتزايد الشك، وهو عصر الإمبريالية والاستبداد السياسي المتزايد والحروب المستمرة.
وبالاختصار، فإن الحضارة في شتائها تفقد روحها، وتغدو مجرَّد مدنية، أعظم إنجازاتها إدارية، وفي مجال تطبيق العلم في الأغراض الصناعية، ويعتقد شبنغلر أن دورة حياة الحضارة تستغرق نحو ألف سنة.
الحضارة المصرية، الحضارة البابلية، الحضارة الهندية، الحضارة الصينية، الحضارة القديمة (اليونانية ـ الرومانية ) الحضارة العربية، الحضارة المكسيكية، الحضارة الغربية (الأوروبية ـ الأمريكية) وكل واحدة من هذه الحضارات تنبثق من رمز أولي خاص بها، يُعيِّن معتقداتها، ويُحدِّد نظم حياتها، وعادات أهلها، وعلومها وفنونها وآدابها، وجميع إنجازاتها ومظاهر وجودها، وبهذا تتشكل خصائص كل حضارة، وتتحدد سمات انفصالها وتفرُّدها عن سِواها، وهذا يشمل النُّظم السياسية المختلفة، والحالة الاقتصادية والتركيبة الأخلاقية والعَقَدية، وشكل الفنون والآداب داخل كل حضارة. ويرى شبنغلر أن نشوء الحضارات وازدهارها وانحلالها مسألة قدرية، ولا يمكن فهم الحضارات الإنسانية إلا من خلال هذه القدرية، لأن ما يطرأ على الحضارات من تبدل وتقلب هو أمر حقيقي وحتمي لا مفر منه. ويرى أن الحضارة العربية تشمل جميع الحضارات التي قامت في الشرق الأوسط، من حدود الصين حتى شمال افريقيا. وهي مُوزَّعة بين مدينة الرها وجنوبي سوريا وفلسطين، فقد مرت هذه المنطقة بعصر الفروسية، ومازالت حتى الآن تحتفظ ببقايا القصور والقلاع، التي تشهد بهذا العصر وضرورته لصناعة مرحلة أكثر وضوحا في سياق تطور تاريخ البشرية.
هذا العالَم لَم يجد هويته الحقيقية، ولَم يكتشف وَحدته إلا من خلال الإسلام، وهنا يكمن النجاح الكبير الذي تحقق في هذه المنطقة من العالَم، حيث استطاع الإسلام أن يُحوِّل هذه المنطقة الممزَّقة إلى وَحدة حضارية تربط بين جميع الثقافات والعادات والتقاليد والخصوصية العِرقية. ومن خلال الإسلام نشأت الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت ذروة نضجها وازدهارها إلى أن جاء «الصليبيون» ووضعوا الأحرف الأولى في مأساة انهيارها، فالعرب عند شبنغلر استطاعوا تأسيس وَحدة شاملة للشعوب، على شكل إمبراطورية، بلغت أسمى درجات الازدهار والتقدم.