د.عائشة الخضر لونا عامر
” غريس كيلي ” رحيل أسطورة :
إذا كان كثر في العالم ذهلوا يوم الرابع عشر من أيلول (سبتمبر) 1982 حين أذيع نبأ مقتل الأميرة غريس أميرة موناكو، إثر حادث سيارة عنيف تعرضّت له، فإن الذهول لم يكن ناجماً عن كون القتيلة أميرة في تلك الإمارة الأشبه بقطعة من فردوس أرضي حقيقية، ولا حتى عن كون القتيلة عرفت كواحدة من ساحرات هوليوود في سنوات الخمسين، حيث كانت تستعد لخوض مسار سينمائي حافل بالوعود والنجاحات، حين اختارت لها الأقدار أن تتعرف إلى أمير موناكو الشاب رينييه، في ذلك الحين، فيتزوجها ويحولها من ممثلة إلى أسطورة.ما أذهل الناس يومها كان ذلك الموت المفجع الذي اختطف «الأسطورة» وكشف للجميع أن الأساطير تموت أيضاً، وفي شكل مباغت إذا أمكن. بهذا المعنى كان قاسياً موت الأميرة غريس، بل أقسى من موت ريتا هايوراث مصابة بداء «ألزهايمر» بعدها بفترة ومن موت أنغريد برغمان أو غريتا غاريو أو ماريا كالاس، أو – في زمن أقرب إلينا – جاكلين كنيدي ولاحقاً الأميرة ديانا. ونحن إذا كنا سقنا هذه الأسماء معاً، فما هذا إلا لأن صاحباتها يشاركن في قاسم مشترك أساسي وهو أنهن جميعاً كن سيدات المجتمع والفن و «أحاديث النجوم» عند نهايات القرن العشرين. وكن «أساطير» حقيقية في زمن تحطيم الأصنام وموت الأساطير، وجميعاً كانت نهاياتهن مفجعة …!. بيد أن غريس كيلي تميزت في كون فاجعة موتها جاءت بغتة، فيما ماتت الأخريات موتاً متوقعاً: بعد مرض، أو عزلة طويلة، أو بعد أن انحسرت عنهن الأضواء. وحدها غريس كيلي – إذا استثنينا ديانا – ماتت في عز صباها، في لفتة مؤلمة من القدر. ولئن كانت نجمات من طراز مارلين مونرو وداليدا اخترن موتهن بأنفسهن، فإن غريس كيلي لم تتمكن حتى من أن تختار ساعة رحيلها وأسلوبه.ماتت هكذا ببساطة، بحادث سيارة أحمق، كما كانت حال إيزادورا دانكان قبلها بعقود وفي المكان نفسه تقريباً، لتجعل من موتها أسطورة هي التي كانت حياتها أسطورة وحكاية جن حقيقية. في البداية لم تكن غريس كيلي المولودة في فيلادلفيا في عام 1928، سوى فتاة من أسرة بورجوازية هوت فن التمثيل فمثلت على المسرح وكانت في العاشرة من عمرها، ثم مثلت بعض المسلسلات المتلفزة قبل أن تظهر في أفلام سينمائية وإعلانية وتكون تلك هي البداية الحقيقية لها، إذ سرعان ما اكتشفتها هوليوود، بعد دور صغير أدته في فيلم من إخراج هنري هاتاواي حيث لفتت الأنظار بعينيها الخضراوين الغريبتين وشعرها الذهبي ومظهرها الأرستقراطي الذي نادراً ما كانت هوليوود عرفت مثيلاً له من قبل، إذ كانت عاصمة السينما اعتادت على الفتيات الآتيات من أوساط الشعب. من هنري هاتاواي إلى جون فورد ومن مارك روبسون إلى فرد زينمان، وقع مخرجو هوليوود الكبار تحت سحر البورجوازية الحسناء فراحوا يعطونها أدوار مغامرات في أفلام جعلت لها شعبية معينة. وفي ذلك الحين كان هتشكوك الكبير في المرصاد، ووجد أن ملامح غريس كيلي الباردة والاستعلائية تناسب شخصياته النسائية الرئيسية فأدارها في ثلاثة أفلام متتالية، عند أواسط سنوات الخمسين، رفعتها بغتة إلى ذروة لم تكن تحلم بها: أولاً كان هناك «أطلب الرقم ميم إذا كانت هناك جريمة» (1954) ثم «النافذة الخفية» (1954) وأخيراً «امسك حرامي» (1955) الذي مثلته في موناكو.صحيح أن غريس كيلي لم تقنع أحداً كممثلة، بأدائها البارد ونظراتها الهاربة ونطقها المرتجف، لكنها أقنعت الجميع بجمالها، وهذا الجمال شجع في 1957 على منحها جائزة الأوسكار ما أثار احتجاجاً حقيقياً. المهم أن تلك الأفلام القليلة ثم فيلمين آخرين لكينغ فيدور وتشارلز والترز، جعلت لغريس كيلي شهرة عالمية كبيرة، وراح اسمها يملأ الصحف تارة بصفتها «نتاجاً» هوليوودياً من نمط جيد وأخاذ، وتارة بصفتها «سيدة مجتمع»، حتى كان زواجها في ربيع عام 1954 بالأمير رينيه الذي تعرف بها خلال عملها مع هتشكوك في الفيلم الذي صوره في موناكو. ولما كان الأمير يبحث في تلك الآونة بالذات عن «نصفه الآخر» طلب يدها فوافقت، وانتقل الحديث عن غريس نهائياً من صفحات النجوم إلى صفحات المجتمع المخملية وعاشت طوال حوالى ثلاثين عاماً حكاية حب وأضواء، وكان المثل يضرب بها عند الحديث عن السعادة والنجاح، في وقت كان ماضيها الهوليوودي (العابر على أي حال) أضحى وراءها نهائياً.حكاية النجاح المخملية هذه كانت معلماً أساسياً من معالم اهتمامات الصحافة طوال تلك الفترة، هذه الصحافة التي حين رحلت غريس كيلي في حادث السيارة، كتبت عن الراحلة بدموع غزيرة وكأن زمننا فقد واحدة من خيرة بناته، بالطبع، وما هذا إلا لأن غريس كيلي ومثيلاتها كن ولا يزلن، الخبز اليومي لصحافة صنعتهن وأعطتهن البعد الأسطوري الذي كان لآلهة الأولمب في العصور السحيقة.