رحلة كفاح وقصة حياة الفنان التشكيلي العالمي خالد نصار
احمد سعد 24 ديسمبر، 2016 بروفايل اضف تعليق 322 زيارة
كتب – قصي الفضلي
رحلة كفاح وقصة حياة الفنان التشكيلي العالمي خالد نصار نتناول خلالها جوانب نشأته وتكوين شخصيته والأحداث والتحديات المهمة التي مربها، وكيفية تجسيد وتحقيق تطلعاته و أحلامه و أمنياته ،أستعنت بمذكراته اليومية خلال كتابة قصة حياته فهي تحتوي على كل تفاصيل رحلة سفير السلام وما مر به من أحداث وتحديات و بشكل دقيق وبترتيب زمني بعيداً عن أشكال فنون الحبكة القصصية وعبر الأتي :
نشأته وتكوينه
ولد الفنان خالد نصار في قرية ( بربره ) ، وكانت مسقطاً لرأسه وحضناً حنوناً تربى فيها على حب الوطن وعشق ذرات ترابه ، ولد في بربره الأرض التي أنجبت اجداده . ذات التأريخ الثر الموغل في القدِم و ( بربره ) كلمة أرامية بمعنى (بدوي) وتقع إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة ، وتبعد عنها (17) كم ، وترتفع (( 50 م عن سطح البحر ، وتبلغ مساحة أراضيها ( 13978 ) دونما ، وتحيط بها قرى ( بربر ، سمسم ، بيت جرجا ، هربيا ، الخصاص ، نعليا ، الجبة ، بيت طيما ، حليقات ). و يقدِّر عدد سكانها في العام 1922 ب(1369) نسمة ، وفي العام وصل تعدادها الى نحو 1945 (2410) نسمة .وقامت المنظمات الصهيونية المسلحة بهدم هذه القرية و تشريد أهلها البالغ عددهم في العام1948 (2796) نسمة ، وكان ذلك في( 4/ 11/ 1948 ) ، و بلغ مجموع اللاجئين في العام (1998 )حوالي (17168 ) شخصا ً. و أقاموا على أراضيها مستعمرة (مافكييم) عام (1949 )، وايضاً مستعمرة (تالمي ياري) عام( 1950 ) .نشأ وترعرع وسط بيئة خصبة مليئة بالمثل والقيم ومخضبة بالبساطة ومفعمة بالمشاعر الصادقة . وكانت حياتهم في تلك الحقبة الزمنية سهلة ومليئة بالقناعة كان القليل يكفيهم لينعموا بالسعادة ، يزرعوا الأرض ليأكلوا من خيراتها وما زاد عن قوتهم اليومي يخبؤنه للأيام .
لحين تم اغتيال لحظات سرورهم وصفاء أنفسهم بشرور الحقد الأعمى على يد عدو مغتصب لا يرحم ، زعزع أمانهم ودمر سلام أنفسهم وعاث في الأرض فساداً فدخل القرى و قتل البشر وحرق الشجر و هدم المنازل وحطم الحجر، فمن سلم منهم حمل فر بنفسه و أولاده الى مدينة غزة .
ليستقر الحال بأسرته وجده ووالده أبن الثانية عشر عاماً فى مخيم النصيرات احد المخيمات الثمانية التى بنيت لإستقبال المهجرين من قراهم وسارت بهم الأيام بين الأمل و الرجاء فى العودة .
ومرت الأعوام و دب اليأس فى القلوب وبدأ الناس يتعايشون مع الوضع القائم على يقين أن يوم العودة والخلاص قادم لا محالة ، و احتفظوا بمفاتيح بيوتهم هناك و أوراق ملكيتهم للأرضهم بالرغم من المغريات الكثيرة والعروض التي تقدم لهم و تتم بطرق ملتوية من خلال سماسرة لشراء تلك الصكوك و الأوراق .
وكانت لحظة غروب شمس يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر يونيو من العام (1962 ) ، هذه اللحظة التي ادخلت مشاعر الفرح والسرور في قلبه جده ( رحمه الله) ، اذ أخذ يطوف حاملاً قلبه العامر بمحبة الجميع ، وكيساً يوزع منه الحلوى على الأولاد فى الشارع فرحاَ وابتهاجاً بأول حفيد له فكان مولد خالد نصار مقدماً للخير ورسم على شفاههم بسمة الفرح .
حارات مخيم (النصيرات )
لم يكن مختلفاً عن اقرانه ، فقد عاش طفولته بين أزقة و حارات مخيم (النصيرات ) يمارسون ألعابهم بالطين و أغطية (الكازوزة) المشروبات الغازية ، يجمعوها في (مطاطة ) لتكون دولاباً صغيراً يبنون عليه أسلاكاً مجسمة لعربة ثم يغطوها بقطع من (الكرتون ) لتصبح جاهزة للسير ، فأحياناً ما تكون كبيرة الحجم لتحمل فيها ما يطلب منهم شرائه من الدكاكين ، و أحيانا أخرى تكون صغيرة الحجم يتسابقون بها ، و كل منهم يتباهى بما صنعت أيديه ، كانوا منذ الصغر تجري فى عروقهم دماء النخوة والبطولة وحب الوطن ، دماء تغلي حنقاً وتسعى للدفاع عن تراب سلب عنوة ، فاخذوا يصنعون طائرات ورقية مزينة بعلم فلسطين ، لترفرف فوق رايات و أعلام الصهاينة ، كان طفلاً و مع باقي اقرانه يشاهدون مرور اليهود حاملين السلاح ، يتفاخرون بقتل الابرياء .كبر خالد نصار واصبح واقرانه ، وتجلت أمامهم حقيقة أن المحتل اليهودي كان سبباً في تعاستهم ، ويجب أن يقاوم حتى يخرج ويغادر الأرض السليبة ، فكان الفتيان يضعون المسامير فى طريق سياراتهم وبعد أن تتوقف سياراتهم يرشقونهم بالحجارة .
ذكريات النكسة
وتمر الأيام المريرة التي ترسخت في براءة الطفولة الفلسطينية المعذَّبة لتصل بهم الى مرافىء يوم عكرت صفوه أصوات وازيز طائرات الصهاينة العدو المحتل ، الذي لم يكتفي بطردهم وتهجيرهم من بيوتهم وقراهم ، جاء ليقتلهم في غزة ، كان يوم الخامس من يونيو عام (1967) ، كان أبا خالد ، يومها مشغول الفكر وكثير الحركة و يدخل كل البيوت ليعطى الناس التعليمات ،لكونه احد العاملين فى الدفاع المدني ,و يوزع المهام على الشباب هنا وهناك ، يحفرون الخنادق والملاجىء تحت الأرض ليحتمي فيها النساء والأطفال والشيوخ ، وصوت الطائرات وهي ترمي القنابل وصوت انفجاراها يدوي عالياً ليزرع .. الخوف .. والحيرة ..! في قلوب النساء والأطفال ، لاطريق يجدونه للهرب من قصف الطائرات والموت المحدق بهم من كل حدب وصوب ،صرخت أمه : خالد أمسك ايدي إخوتك حافظ عليهم وأجري بهم بعيداً ، وأصبح يجرى وخلفه أمه وهى تحمل أخته المولودة منذ يومين ولا يعرفون الى أين ..! وعندما وصلوا الى (بستان) مزروع بأشجار البرتقال ، وكان يعج بالناس و أصوات المدافع و أزيز الطائرات تزداد وتيرته ومكثوا فى هذا المكان فترة من الزمن تمتد من الظهيرة حتى غروب الشمس ، لا يفهم خالد ما الذي يجرى ؟ ، او الى أين يتجهون ؟ ، لماذا يقذفونهم بالقنابل ؟ . حل المساء وعادوا الى بيت عمه و كان هناك وكراً عميقاً تم حفره بعناية وكان فسيحاً ويكفي لأختباء العائلة .
صباح 6 يونيو
اشرقت شمس صبيحة يوم السادس من يونيو ، سمع خالد صوت و أنين مؤلم فخرج ليرى ما يحدث بفضول الأطفال المعهود فراى رجلاً ممدداً على الأرض والدماء تسيل من فخذه الأعلى ، فهرع الى أبيه وعمه ليبلغهم بالأمر وهبوا لنجدة الجريح بما يملكون من إسعافات أولية وكشفوا عن الجرح ، ولم ينسى خالد ما رأى ، فقد كان جزءاً أعلى فخذ الرجل غير موجود ، كان جندياً مصرياً تعرض لقذيفة مدفع أخذت معها هذا الجزء من جسمه ، وما هي إلا لحظات حتى دبت اصوات الصراخ والعويل فى كل مكان، جراء الإصابات الكثيرة والأفتقار لتواجد سيارات الأسعاف ، فأصبحت العربة التى يجرها الحمار هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة لنقل الجرحى الى عيادة المخيم ،دخلت دبابات اليهود وأحتلت غزة وأخذت تتجول في شوارع المخيم دون أدنى مقاومة بعد انسحاب كل القوات المصرية وخروج كل شباب المقاومة الشعبية خارج المخيمات لنفاذ ذخيرتهم .رحل المصريون ، و رحل شباب المقاومة الشعبية خارج المخيمات وبقي الأهالي في صمت وذهول.!
نكسة عام (67 )
تلك المرحلة غيرت مجرى الأحداث وتمكن العدو الاسرائيلي من فرض سيطرته على جزء كبير من الأراضي ، ابتداءً من غزة و ما جاورها من مدن مصرية وحتى قناة السويس كانت الكارثة التي أفقدت توازن الجميع . بعدها أخذ خالد : يسمع عن عمليات ضد اليهود ويرى شباباً مسلحين يختفون بين أزقة المخيم ، وعرف فيما بعد أنهم ينتمون إلى الجبهة الشعبية ، وكان يطلق عليهم وقتها (الفدائيون) و استشهد منهم الكثير خلال عمليات الدفاع عن تراب الوطن السليب ، و اعتقل العديد منهم ، ويتذكر يوماً حادثة مؤلمة حصلت امامه : فقد ربط العدو الغاشم أحد الابطال على مقدمة سيارة عسكرية تسمى الــ (جيب ) وكانوا يطوفون به ساحل البحر بأقصى سرعة ، كان يدعى الفدائي علي أبو سلطان ، و قد رأى بأم عينيه إعدام أحد الأبطال بعد أن اعتقلوه فى البيت الملاصق لبيتهم و يدعى سميح أبو حسب الله ، تم اعدامه رمياً بالرصاص أمام أعين الناس ، و تم تفجير البيت الذي أعتقل فيه ويتذكر كيفية خروجهم من البيت و جميع قاطني البيوت المجاورة وتحطم جزء كبير من بيتهم و مزرعة الدواجن التي تحطمت بتأثير صوت الانفجار وتساقط الحجارة .
دخوله المدرسة
دخل خالد نصار المدرسة الابتدائية التابعة لوكالة الغوث وتكشفت جلياً موهبته الفنية في الرسم وكان متميزاً على كل أقرانه في الفصل ، وكان للرياضة وحب كرة القدم حيزاً كبيراً في قلبه وأخذ يقضي وقتاً فى لعبها و الجري وراء الكرة صارخاً كلما سجل هدفاً في مرمى الخصم ، وكان يوازن تماماً مابين حبه للرياضة كهواية وبين تفوقه الدراسي وتميزه فى النتائج النهائية والامتحانات و لايتجاوز عتبة المربع الذهبي بين اقرانه وزملائه .
نصر اكتوبر
كان نصر اكتوبر نقطة تحول في معنويات الشعب الفلسطيني ولكن ما اعقبه من قرارات سياسية فى خوض تفاصيل غمار السلام اثرت عليهم كثيراً . فكان خالد نصار حينها قد انتقل الى المرحلة الدراسة الاعدادية وبدأ اهتمامه بكرة القدم يكبر ، وأنضم الى فريق مدرسته وكان حلمه وقتها ان يكون لاعباً مشهوراً ضمن صفوف فريق نادي الزمالك الذي يشجعه ويحبه كثيراً .
توقيع معاهدة السلام
تسارعت الأحداث و تم توقيع معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني و يعلم الجميع أن الوفد الفلسطيني لم يحضرها ، واستمرت الرحلات المكوكية بين الجانبين للتطبيق على ارض الواقع ، وانهى خالد دراسته في المرحلة الاعدادية وانتقل الى المرحلة الثانوية وكانت المباحثات ما زالت مستمرة ، وكانت غزة تراقب وتتابع الاحداث عن كثب ، وانضم الشاب خالد بما يمتلك من طموح الى فريق الكرة القدم ولعب مع نجوم كان يتمنى اللعب معهم ويشاهدهم في فرق الاندية ، و أنهى دراسته في مرحلة الأول الثانوي وعندما بدأ العام الدراسي الجديد فجر مفاجأة هزت أركان أسرته .
لن يكمل دراسته
لن يكمل دراسته قرار أتخذه ، وكان رده على الجميع ان بوده تعلم مهنة الكهرباء . وكان له ذلك فالتحق بمدرسة الصناعة وتفوقت على جميع اقرانه و تخرج و بدأ حياته العملية واشتغل داخل الخط الاخضر فى أراضي المحتلة وكان عمره حينها سبعة عشر عاماً ، عمل بجد واتجهاد لمدة ثلاثة اعوام ، سعياً لتوفير مبلغاً مالياً يسد به تكاليف زواجه . وبدأت بشائر كامب ديفد تظهر و دخل الجيش المصري العريش و بعدها الى رفح ، وكان مفترق طرق امام العوائل الفلسطينية و انقسم الكثير منها جغرافياً ، جزء في رفح والأخر بقي في غزة والجزء الأخر عند الجانب المصري ، ورسمت الحدود الموجودة لحد الان ، ملئت قلبه مشاعر الآسى لعدم أستطاعته حضور مناسبة زواج اخته من احد اقاربه في رفح عند الجزء التابع لمصر و كان يتمنى حضور زفافها و كان يقف عند عتبة عمره الثانية والعشرين ، مما أدى الى منعه من السفر وتحقيق حلمه بالسفر و دخول أرض مصر ، والذهاب الى نادي الزمالك ، وتحقيق أمنيته بلقاء الفنانيين الذين كان يشاهدهم على الشاشات التلفاز والتجول في القاهرة .
وتسير به الايام وتتوالى الأحداث , سياسيا ً جمهورية مصر استعادت كل اراضيها . وهو مازال يعمل بنشاط ويبذل جهوده وبقي مستمراً في العمل بمهنة الكهرباء وعاد لملعب كرة القدم ليمارس هوايته والجري وراء الكرة بكل رشاقة ويسجل الأهداف و يطير فرحاً و بين زملائه اللاعبين يقبلونه لأنه يحقق لهم التفوق والفوز , ويعود مساءاً للبيت للاستعداد ليوم اخر . ويوماً حول مسار عمله واشتغل في مجال البناء سعياً لتوفير مكسباً مالياً اكثر ، وتنقل بين المدن الفلسطينية المحتلة الى أن وصلت الى مدينة أم خالد (نتانيا) وكانت قريبة من مدينة طولكرم فاستأجر بيتاً وأحضر أسرته وأصطحب والديه . وهنا بدأت رحلة اخرى وفي مجال اخر ، والديه تعرفوا على قريب لهم يتاجر في الملابس القديمة وفتح لهم أفاقاً جديدة للعمل في المجال ذاته وسرعان ما تطور رويدا رويدا للتجارة في الملابس الجديدة فتعرفوا على اصحاب المصانع وخطرت لهم فكرة طرحوها على خالد ، هل تستطيع حياكة مثل هذه الملابس فلم يتردد فى القبول واشترى الماكينات دون علمه بتكوينها ولا كيف تعمل وبدأ يجلس معظم وقته على مكائن الخياطة كي يتعلم وعلم نفسه ، و تقدمت في العمل واصبح مميزاً و يشار له بالبنان وبدأ يوزع كل ما ينتجه داخل الخط الاخضر من خلال والديه فى فى طولكرم . واستمر تحسن احوالهم الأقتصادية .
الانتفاضة الاولى
يوم الثامن من شهر ديسمبر عام 1987 أشتعلت شرارة الأنتفاضة الاولى وبدأ اطلاق سيل الرصاص دون تتوقف في المواجهات في مدخل المخيم من طريق صلاح الدين المؤدي الى معبر رفح و كانت من أعنف المواجهات وشارك فيها الجميع ،الشباب و الشيوخ والنساء والاطفال واستخدمت الاطباق الزجاجية لاول مرة فكانت النساء تلقى بها على الجنود المدججين بالسلاح واوقعت فيهم أصابات كثيرة زادت من شراستهم ، وصادف فى تلك اللحظات عودة العمال من يوم عمل شاق ومضني فامسك بهم الجنود واتخذوهم دروع واقية ومن كان يرفض ينهالوا عليه بالضرب المميت لدرجة أن احد العمال وكان صديق له ويدعى حلمي خرجت الدماء من اذنيه كنافورة ماء و فقد الوعى لمدة زمنية زادت على الأسبوع وحالته خطيرة لكنه تعافى بعدها و كتبت له الحياة وما زال حى يرزق . يتوقف اطلاق النار ليلاً ويفر الجنود مخلفين ورائهم عدداً من الشهداء واصابات كثيرة وتسود اجواء الحزن العميق في المخيم وحالات الترقب المشوب بالحذر ليوم جديد يعلن فيه الجيش المحتل منع التجوال.
شارك هذا الموضوع: