الأحد، 22 نوفمبر, 2:06 م
عصام الياسري
تركي عبد الغني بالمعراج والألواح
شاعر يحلّق كطائر النورس في فضاءات جنوبه
عصام الياسري
ما يقارب العامين مضت على ذلك المسير برفقة الصديق الشاعر تركي عبد الغني، من ساحة “آنهالتر بانهوف”، التي كانت إلى قبل إنتهاء الحرب الكونية الثانية واحدة من أقدم وأكبر محطات القطارات الشهيرة بأرصفتها الموزعة في أربع إتجاهات نحو دول القارة الأوروبية، الشرق والغرب والشمال والجنوب، لم يبق اليوم منها سوى بوابتها الجدارية الأثرية العملاقة.. قطعنا الطريق بإتجاه أهم معبر حدودي “جك بوينت شارلي” يفصل من عام 61 وحتى سقوط منظومة الدول الاشتراكية في 1989 برلين الغربية عن برلين الديمقراطية. في طريقنا سألت صديقي.. أين كنت يا رجل؟. ويبدو ان المسافة لم تكن كافية لانهاء حكاية معاناته الاسطورية أثناء زيارته لبلده الأردن، مختتما حديثه بنوع من الفكاهة، حيث وصلت إلى ما أنا إليه ذاهب عند ذلك المعبر الشهير الذي تمتليء فضاءاته بقصص وندبات كل من غادره لغاية ما في كلا الاتجاهين. مسالكه الكونكريتية وأسواره السمنتية المتينة شاهدة حتى اليوم على أحداث عصر الحرب الباردة، الذي يشكل “جدار برلين” واحدا من آثارها المؤلمة.. مددت يدي مع شيء من الجزل لاودع صديقي، فيما وجه دعوته لي قائلاً: صدر ديواني الجديد ويسرني حضورك أمسية التوقيع عليه. بسبب تعرضي لنكسة صحية لم أتمكن آنذاك من الذهاب.. قبل أيام وخلال لقاء جمعني ببعض الاخوة من الوسط الثقافي، ناولني احد الاصدقاء كتاباً، قائلا، هذا ديوان تركي عبد الغني كلفني إيصاله إليك مع بالغ تحياته .
منظومة شعرية
إبداء الرأي بشكل عام في منظومة شعرية كالتي يتضمنها ديوان الشاعر تركي عبد الغني من وجهة نظري، ليس بالأمر السهل، على الرغم من مرور عامين على صدور الديوان. فالكتابة في شأن إبداعي أدبي، له أبعاد رؤيوية لا تقبل التأويل والمسائلة يفرض بالضرورة تحديد المسلك الذي ينبغي السير بإتجاهه، “الانطباعي” الخاص بقراءة القصائد وفقاً لما يسمى بنظرية “ما حول الأدب”، أي الترحل بين المنصات الشاعرية وجمالية اللغة الشعرية والتعبيرية. أم الذهاب بإتجاه ما يعرف بـ “النقد الأدبي” الذي يفقد الرؤية الحقيقية لما أنا منغمس فيه من ذائقة نوعية في قصائد تركي. لذا لا أجد مفرأ من إختيار الأول مع مقاربة جزئية حول “النقد الأدبي”، بالشكل الذي يرصد “جهد” الشاعر و “منتوجه” الأدبي، كونهما من ناحية اللازمة الثقافية والحضارية، أمران لا ينفصلان!.
لا شيء إلا الموت بالتحديد
يهب الحياة لظلي الممدود
عقلي ، رؤاي ، تموت بين عواطفي
بتجردي عنها من التجريد
هب لي فناءك كي أتم تجددي
سيموت من يخشى من التجديد
مفهومنا نحن العرب، لأدب النقد، في أغلب الأحيان نصبح “جلادين”، ننحاز إلى صراعات اجتماعية ـ سياسية أو عقائدية، وفي العموم على أساس المجاملات وليس المهنية. الكتابات النقدية عندنا في أغلب الأحيان (ولا أعمم) لا تعتمد الموضوعية. عكس القاعدة العامة في الثقافات الغربية التي لا تقبل “نقداً” لا يتوافق مع المفاهيم الأدبية. لاعتبارات فلسفية ترتبط بالإنتماء لإرث حضاري يُعتز به ويَعتبر المثقف جزءاً مكمل لثقافته، وبالتالي يجسد إحترام الموروث الوطني ـ الثقافي المترامي الأبعاد. ما أود قوله من وراء هذه الناصية الاضافية أهمية “توليد الخيال” بدل ممارسة “النقد” فيما يتعلق بالسياق العام لقصائد الشاعر عبد الغني، والتي توضح حالة النص أو النوع خيالا مصمما بشكل فني، وبالتالي فإن العناصر الرمزية والاشارات الجوهرية تبدو أكثر معقولية. بالإضافة إلى ذلك، تلعب المفاهيم الفنية “العهود الأدبية” التي جد في استعمالها، الى جانب الخيالية وغير الخيالية والجمالية ـ الشعرية، دورا مهما فيما يُنظر إليه على أنه نموذجي عندما نتحدث عن الأدب من حيث المنهج. لا يشمل في قصائد تركي، فقط، ما هو “مخترع”، إفتراض الخيال، المأساة، الايمان، السحر والعالم الآخر، إنما أيضا دمج أشياء مثل “المعيار” و “الأداة” كتحفة أثرية عن طريق ربط العناصر الشكلية التي تشمل الدراما كقياس إضافي، والتي تظهر جمالية الشعر في نصوص الواقعية.
تركي عبد الغني، شاعر أردني من مواليد قرية كفريوبا من محافظة إربد، يقيم منذ 1994 في العاصمة الألمانية برلين.. يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة بطريقة فريدة وجريئة وجاذبة تحمل أبعاداً إنسانية صوفية فلسفية عميقة. صدر له ديوان شعري “حقائب الطين” عن هيئة الثقافة والتراث في أبو ظبي. ترجمت العديد من قصائده إلى اللغة الألمانية والفرنسية. شارك في العديد من الأماسي الأدبية في أوروبا ودول عربية منها: ألمانيا، إيطاليا، هولندا، تونس، المغرب، سوريا والأردن. حصل على العديد من الجوائز. ديوانه الشعري الثاني الموسوم “المعارج والألواح” يحتوي أربعة عشر معراجاً وأربعة عشر لوحا متفاوتة الطول والعناوين، وبحجم كتاب الجيب وورق وطباعة أنيقة. اللافت للنظر، بالإضافة للصفحات العديدة المتروكة بيضاء، أنه يخلو من اسم دار النشر ورقم وتاريخ الاصدار. ألا أن أحد المواقع التي تناولت قبل عامين الديوان، أوردت بأن الناشر “دار ميسلون” الدمشقية.
اختيار ديوان
أختيار الشاعر هذا العنوان المركب لديوانه “المعارج والألواح”، يجمع بين التاريخ وعلم القراءات، كانما يتتبع أثر “ملحمة كلكامش” الشعرية الأولى في تاريخ البشرية، وطرق حفظ الصبيان القرآن في الألواح. وما جاء عن الفقيه والأديب اللغوي، الشاعر محمد بن قاسم بن محمد المتوفي عام 1708م بمدينة فاس من “معارج” في اصول علم اللغة وفلسفتها.. أقتبس ما نشر حول ديوان عبد الغني في أحد المواقع: (ولعل عنوان الديوان يوحي بما فيه، فالمعراج هو اتصال الأرض بالسماء والخالق، والألواح تعبر عما هو تاريخيّ فمنها أُخذت أبجديات حياةِ البشر الأولى، وقصائد الشعراء الأوائل، والملاحم الإنسانية العظيمة التي اتُخذت عبرة وسُنت منها القوانين الاجتماعية والفكرية للحياة الإنسانية). الشعر ببساطة هو لغة محملة بالايقاع والرمزية والمعاني إلى أقصى حد ممكن، استطاع الشاعر في “معراجه والواحه” نسجها بدقة وطريقة غير شرطية تتآلف مع اساسيات كتابة الشعر بأنواعه المتنوعة، منذ عصر أثينا وروما، مروراً بالشعراء المعاصرين شكسبير وكوته ووالت ويتمان. ملتزماً بالمعنى واللغة، بالشكل الذي يوازن بين الإيحاء الخيالي والتحفيز النمطي والإغراء من خلال الارتباط بالوسائل التي يخلق بها الشاعر شيئاً جديداً، بعيداً عن التجريدات المحددة والعودة إلى المنطوق والمكتوب الذي يبحث عن الفكرة في الكلمة – وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للشاعر كما هو للقارئ عبر القرون والثقافات: الفاتحة ـ هي أول قصيدة في الديوان، استشراق الظاهر بين الأنا والمطلق، يقول..
أترى القضية واضحة؟؟
مُذ بدء ململة الرؤى بمداركي
واللوز ذات اللوز
والرمان نفس اللون نفس الطعم نفس الرائحة
وأنا… أنا
واليوم مثل البارحة
الصور الشعرية في قصائد تركي عبد الغني لا تخلو من مجموعة متنوعة من العناصر الرومانسية والسوريالية والأصوات المؤثرة – بفضل القيمة في رسم خرائط شعر حديث ومتعدد الأوجه، هو من الجمال الشديد وفورية اللغة، ما تم الحفاظ عليه أيضا في ما بعد القصائد.. نصوص، تحكي قصصا وآيات عن معاناة الإغتراب والنزوح والرفض، الحزن والشوق والحنين والخوف، وبالطبع الحب والسخرية وعجز الروح من الحياة ومتاهاتها – غالباً ما تكون عوالم مليئة بالمشاعر والعواطف والتحدي والتجوال في مساحات واسعة. المعابد والأطلال، كذلك المناظر الطبيعية والحواس والحياة الواقعية أصبحت هي المشاهد. شعره يحمل جاذبية “غنائية” ذا أهمية خاصة ترمز إلى ما يسعى إليه بشكل غير تقليدي أكثر تركيزاً للتعبير، فيما يصر لإنشاء الحبكة الكاملة بالقرب من الواقع التاريخي أو الاجتماعي بالعودة الى المؤثرات اللغوية بالمعنى الحقيقي للكلمة..
أعلى تجاذبني الاعلى
صفة تجدد خلقها فعلا
كُثُب الرمال جعلتها مدنا
ومدائن حولتها رملا
اني أعيش لكل قافية
وأموت فيها ميتة حبلى
ولكي تراني كم قتلت بها
جمع خطاي لتجمع القتلى .