الفن أحد أهم أوجه الثقافة، كان ولا يزال وسيظل دائمًا وليد الضوء. فالضوء يتكون من مزيج من الألوان، وتتجلى الألوان لنا عندما يتم امتصاص بعض الأطوال الموجية للضوء وعكس البعض الآخر. إلا أن ذلك ليس كلَّ ما يربط الضوء بالفن؛ حيث تم استخدام الضوء نفسه لإبراز الأعمال الفنية، مثلما في أعمال الزجاج المعشق، التي زينت المعالم المعمارية المتميزة منذ القرن الرابع ميلاديًّا حتى الآن.
بدءًا من رجل الكهف حتى الفنانين المعاصرين، فقد استخدم الجميع الضوء والظل والألوان؛ لتحقيق المزاج العام وخلق أجواء الأعمال الفنية. فاستخدمت كلمة كياروسكورو (Chiaroscuro) الإيطالية بمعنى “الجلاء والقتمة” في بادئ الأمر؛ لوصف نوع من الرسم على الورق متوسط العتمة؛ حيث يخلق الفنان مناطق داكنة باستخدام الحبر وأخرى فاتحة باستخدام الدهان الأبيض.
فيما بعد، استخدم المصطلح لأعمال الطباعة بالحفر على الخشب، الأمر الذي كان مشابهًا؛ حيث استخدم الأبيض والأسود معًا. ولكن عندما يأتي الأمر للتصوير، فقد تألق منهج الكياروسكورو في لوحات كارافاجيو في القرن السادس عشر ميلاديًّا. وقد شرع كارافاجيو في استخدام الخلفيات العميقة والداكنة في كثير من لوحاته؛ حيث بدا كأنه يُسلِّط مصباحًا موجهًا إلى أبطال أعماله، فأدى التناقض العالي في لوحاته إلى أعمال فنية شديدة التأثير والدراما.
عبر التاريخ، لعب الضوء دورًا رئيسيًّا في فنون مثل الفوتوغرافيا، والسند الخطي، والسينما. مع ذلك، فمع اختراع الضوء الاصطناعي، بدأ كثير من الفنانين في استخدام الضوء بصفته الشكل الأساسي للتعبير عوضًا عن كونه مجرد وسيلة لمظاهر أخرى من الفن. كان لازلو موهولي – ناجي (1895-1946) عضوًا في مدرسة البوهاوس الفنية القائمة على تصميم الأعمال بناءً على فاعليتها وبساطتها، وقد تأثر بالحركة البنائية. فكانت المنحوتات الضوئية وتلك المتحركة من عناصر عرض “مغير الضوء – الفضاء” في الفترة ما بين 1922 و1930، وهو أحد أوائل الأعمال الفنية الضوئية؛ حيث أدرج أيضًا الفن الحركي.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب؛ فحجب الضوء – أي الظلُّ – استخدم أيضًا في خلق الأعمال الفنية؛ مثل عرائس الظل. ومسرح الظل من التقاليد القديمة التي لا تزال شائعة في ثقافات عديدة؛ فهو شكلٌ شعبي من الترفيه للأطفال والكبار على حدٍّ سواء في كثير من البلاد حول العالم.
في الحفلات الحية هذه الأيام تلعب المؤثرات الضوئية دورًا غاية في الأهمية؛ حيث يتطلب الأمر فريقًا للعمل عليها. فلا تتيح الإضاءة المسرحية في العروض الفنية للجمهور رؤية ما يحدث على خشبة المسرح فحسب، بل من شأنها أيضًا تحقيق التناغم، وتوجيه الانتباه، حتى تغيير مكان الشخص في الزمان والمكان. والتصميم الضوئي مجال عالي التقنية، يتطلب التحكم في المعدات الضوئية لتحقيق الكثافة، واللون، والاتجاه، والتركيز، والوضع المناسب؛ ففي كلٍّ من الأعمال المسرحية والراقصة يلعب الضوء دورًا هائلًا في تطوير سير الأحداث الخاصة بالعروض وإثارة مشاعر الجمهور.
ومن الحفلات الغنائية إلى مدن الملاهي تقوم عروض ضوء الليزر بترفيه الجماهير من جميع المراحل العمرية؛ فتسمح دقة الليزر وقوته للضوء بإنارة الجمهور، وخلق التصميمات على البنيات الأساسية، كما يمكن مشاهدتها في سماء الليل. وإضاءة الليزر مفيدة ترفيهيًّا لطبيعتها المتماسكة التي تسمح بإنتاج شعاع ضيق؛ مما يتيح استخدام المسح البصري لرسم الأشكال أو الصور على الجدران، والأسقف، والأسطح الأخرى، بما في ذلك الدخان والشبورة المسرحية، دون الحاجة لإعادة التركيز بسبب الاختلافات في المسافة كما هو الحال في عروض الفيديو. وهذا الشعاع المركز مرئي بوضوح كبير، وعادة ما يستخدم كتأثير، كما يتم “أرجحة” الأشعة أحيانًا لأماكن مختلفة باستخدام المرايا، وذلك لخلق منحوتات ليزر.
«أسطورة كليوباترا»
عرض ضوئي ثلاثي الأبعاد نظمته مكتبة الإسكندرية في 2015 بقلعة قايتباي
يُعدُّ الضوء أهم عناصر تقدير العمارة وفهمها؛ فلا تقتصر العلاقة بين الضوء والعمارة على الطاقة والمادة، بل تُعنى أيضًا بالتأثير العاطفي على الناس. فتتصور العين البشرية الأشكال من خلال إصابة الضوء وانعاكسه؛ حيث تحصل على المعلومات عن الجو العام لمكان ما. ويترجم المخ الانطباعات المرئية؛ حيث يضعها في سياق يخلق العاطفة التي تؤثر فينا بشكل ما.
فيفضل أن يكون الضوء في غرفة المعيشة على سبيل المثال دافئًا وهادئًا؛ حيث ينبغي أن يبرز توزيع الضوء ملمس الأشياء ولونها، بطريقة تُوازِن بين المناطق الداكنة والفاتحة. فعندما يقرأ نظامنا البصري هذا الجو العام يخلق انطباعًا مريحًا يساعد على الاسترخاء. وعلى العكس، ينبغي أن تكون الإضاءة في مكان العمل باردة المظهر، وساطعة، ومركزة على أماكن العمل المحددة؛ بحيث تكون الإضاءة موزعة بانتظام لتبدو الغرفة واسعة ونظيفة؛ مما يخلق جوًّا ديناميكيًّا يساعد على القيام بالمهام المختلفة بمزيد من الطاقة، سواء العقلية أو الجسمانية.
فيُحدِّد الضوء الفضاء المعماري؛ حيث يساهم في تصوره وفهمه، كما يضيف قيمة لفعاليتها الوظيفية ويضفي عنصرًا عاطفيًّا لمستخدميها. لقد كان هذا ملخصًا بسيطًا للغاية لا يكاد يمس سطح ما يعنيه الضوء للفن، ناهيك عن الحياة بأكملها. فالضوء بالفعل لا غنى عنه في الحياة في جميع نواحيها؛ ولذلك فدراسته والكشف عن أسراره بعيدان كلَّ البعد عن الانتهاء، بل إنهما لا يزالان في بداياتهما.
*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد صيف 2015.